لفت أنظار المراقبين ذلك الحشد المليونى فى الذكرى الثامنة والأربعين لانطلاق حركة «فتح»، ولفت الأنظار أكثر بروز الحشد «الفتحاوى» فى غزة بالذات، والتى سيطرت عليها حركة «حماس» قبل سنوات، وأقامت عليها سلطتها الحصرية. بدا الاحتفال الفتحاوى فى غزة جزءا من عملية تهدئة فلسطينية متبادلة، حيث سمحت سلطة رام الله الفتحاوية باحتفال لحماس فى الضفة الغربية، وردت سلطة حماس فى غزة بالسماح لحركة فتح بإقامة احتفالها السنوى، وبدا تطبيع العلاقات مفيدا فى التعرف على تغيرات مستجدة فى النفوذ الجماهيرى للحركتين الفلسطينيتين المتنافستين. والمدهش أن احتفال فتح فى غزة فاق فى حجمه احتفال «حماس» فى غزة نفسها، وهو ما يظهر تعديلا ملموسا فى الموازين، فقد جرت آخر انتخابات فلسطينية قبل سنوات طويلة، وحققت فيها «حماس» فوزا كاسحا، وبدا أن «حماس» تتقدم لترث نفوذ فتح القديم، وساهمت ضغوط دولية وإقليمية فى حرمان «حماس» من حقها فى تشكيل حكومة فلسطينية مستقرة، وظل الشد والجذب قائما، وجرى عقد اتفاقات تهدئة سرعان ما جرى النكوص عنها، وانتهى الصدام السياسى إلى صدام عنيف بالسلاح فى غزة، سيطرت بعده حركة حماس على مقاليد الأمور فى القطاع، فيما فرضت «فتح» سلطتها الواقعية فى الضفة الغربية، وضيقت كل حركة على الأخرى فى مجال نفوذها، وكما جرى حرمان «حماس» من نشاط جماهيرى أو عسكرى ظاهر فى الضفة، فقد جرى أيضا حرمان «فتح» فى غزة، وإلى وقت استطال لخمس سنوات، ومع مستجدات الربع الأخير من عام 2012، بدا أن «حماس» نجحت إلى حد كبير فى فك الحصار عن غزة، وحظيت بدعم إقليمى قوى من تركيا وقطر والسلطة «الإخوانية» فى مصر، إضافة للدعم العسكرى الإيرانى الذى مكنها من الصمود فى حرب غزة الأخيرة، وهكذا خرجت «حماس» من الحرب أكثر قوة، وبدت كأنها التنظيم الفلسطينى الأعظم تأثيرا، وأقامت احتفالها بذكرى التأسيس فى حضور زعيمها خالد مشعل لأول مرة، وفيما بدا احتفال حماس غاية فى النظام، وشهد حضورا جماهيريا كثيفا كما هى العادة، لكن احتفال «فتح» الذى أعقب احتفال حماس حمل المفاجأة، وبدا كاحتفال عفوى شعبى مذهل فى حشوده، برغم أن محمود عباس القائد الحالى لحركة «فتح» لم يشهده شخصيا، واكتفى بتوجيه كلمة إلى المحتفلين عبر «الفيديو كونفرانس»، وبدا الأمر كله عودة مظفرة لحركة فتح إلى ديار غزة معقل «حماس» التقليدى. وبالطبع، قد تجد بعض تفسير لما جرى فى التفاعلات الفلسطينية الداخلية، فقد حقق عباس زعيم فتح نصرا سياسيا أعقب نجاح حماس فى ردع العدوان الإسرائيلى، وكسب لفلسطين صفة الدولة «غير العضو» فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأقيمت احتفالات جماهيرية حاشدة فى الضفة الغربية ابتهاجا بما جرى تصويره كنصر مؤزر لعباس وحلم الدولة الفلسطينية، لكن المفاجأة الحقيقية كانت فى الدعم الجماهيرى المضاف لعباس فى غزة، فقد عكست حشود احتفال «فتح» بغزة ضيقا جماهيريا باديا بحكم حماس، والذى يمتاز بالتضييق الاجتماعى فوق القمع السياسى والأمنى، وبدا أن جاذبية تفوق حماس العسكرى أقل أثرا من جاذبية نصر عباس السياسى, صحيح أن حماس تمتلك جهازا تنظيميا يبدو أكثر صلابة، لكنها فقدت على ما يبدو جاذبية المشروع، فقد صعدت حماس فلسطينيا على أساس من تبنيها للمشروع المقاوم، فيما بدا عباس محصورا محاصرا فى مشروع مساوم عظيم البؤس، وكان فوز حماس الانتخابى الكاسح ترجمة لتغيرات حاسمة فى الموازين وقتها، بدت فيها حركة «فتح» يتيمة إثر الوفاة الغامضة لمؤسسها الزعيم التاريخى ياسر عرفات، فيما بدت حماس فى صورة الحركة الاستشهادية المقاومة الرافضة لاتفاق «أوسلو» وما تلاه، لكن دخول حماس إلى الانتخابات مثل أول تراجع سياسى، صحيح أنها حققت فيه فوزا، لكنه الفوز الذى أنهك عقيدة الحركة، وأضر بتجردها المقاوم، فقد نقلت مركز ثقل اهتمامها من السلاح إلى السياسة، ثم لجأت إلى السلاح لحسم صراع السياسة فى غزة، وأقامت سلطة بدت كغاية فى ذاتها، وتحول جناحها العسكرى إلى قوة تأمين لسلطة بدت محصورة فى جيب غزة، وهو ما جعل القبول الجماهيرى التلقائى لحماس فى أزمة، فقد أجبرت حماس الناس فى غزة على الانقياد لسلطتها، وأقامت حكما حديديا أضاف إلى متاعب الحصار المفروض، وأصابت مفاسد السلطة المطلقة الكثير من كوادرها وقياداتها، ولم يعد لها ذات الامتياز والبريق الأخلاقى القديم مقارنة بالفساد التقليدى لكوادر وقيادات فتح، أضف إلى ذلك تداعى عناوين مشروعها المقاوم، وسعيها إلى التفاوض غير المباشر مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى، وهكذا ضاعت الحدود المرئية بين مشروع حماس المقاوم ومشروع عباس المساوم، وبما جعل التفضيل الجماهيرى منصرفا إلى أسباب أخرى، فقد تراجعت أولوية قضية الاحتلال والتحرير والمقاومة، وتقدمت أولويات أخرى منصبة على أحوال المعيشة، والمقارنة بين أحوال الناس الأكثر يسرا فى مدن الضفة الغربية، وبين أحوال الناس الأكثر عسرا فى غزة، وبما جعل جاذبية سلطة عباس تتفوق على جاذبية سلطة حماس. غير أن جاذبية حركة «فتح» المستعادة فى غزة لها بعد آخر يبدو أكثر ظهورا، البعد المقصود عربى عام ومصرى بالذات، فقد انتهت ثورات الربيع العربى مؤقتا إلى حكم الإخوان، بدا إخوان تونس حركة النهضة فى مقدمة المشهد السلطوى بعد الثورة، ثم أقام الإخوان المسلمون فى مصر نظاما سياسيا تجريبيا , وبدت سلطة الإخوان فى مصر محابية بالضرورة لحركة «حماس» الإخوانية، خاصة أن غزة من زوايا جغرافية وتاريخية تبدو لصيقة جدا بأحوال مصر الداخلية، وقد تفاءلت حركة حماس بصعود الإخوان فى مصر، وحظيت بامتيازات هائلة لم تكن لها فى أى وقت، وبدت سعيدة بكونها فرعا فلسطينيا لسلطة الإخوان المسلمين المصرية، وربطت نفسها بكسب أو خسارة الإخوان فى مصر، وتجاوزت عن الدرس البديهى فى التعامل مع الساحة المصرية بالغة التفرد، ففلسطين قضية وطنية مصرية جامعة، وليست أبدا قضية لحزب ولا لجماعة بذاتها، وقد أخطأت حماس بتحزيب و«أخونة» الهوى الفلسطينى فى مصر، وهو ما جعل جاذبيتها أى جاذبية حماس تتآكل بسرعة فى مصر، وبطريقة متوازية مع تآكل شعبية السلطة الإخوانية، وهكذا تولد نفور فلسطينى من حماس مواز تماما للنفور المصرى المتزايد من حكم الإخوان، وكان الأثر نفسه قد لوحظ فى أول انتخابات ليبية جرت أواسط 2012، فقد أثر ارتباك تجربة البرلمان الإخوانى المصرى على حظوظ إخوان ليبيا، ولم يحصلوا فى انتخابات القوائم الليبية سوى على عشرة بالمئة من الأصوات، ثم بدا تأثير إخفاق أداء الرئيس المصرى الإخوانى محمد مرسى ظاهرا فى الحالة الفلسطينية، وأثر بالسلب على شعبية حماس فى معقلها الغزاوى، وهو ما أتاح لحركة فتح صعودا جماهيريا لا تخطئه العين. نشر بالعدد 631 بتاريخ 14/1/2012