بعد العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة، بدا كأن الساحة الفلسطينية تتجه إلى مصالحة داخلية، وأعلنت حماس تأييدها بشروط لذهاب الرئيس عباس إلى الأممالمتحدة، وبهدف الحصول على قرار من الجمعية العامة بمنح الدولة الفلسطينية المفترضة صفة «الدولة غير العضو» فى المنظمة الدولية، وهو ما تم بالفعل فى يوم الذكرى الخامسة والستين لقرار تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، ويتيح لفلسطين عضوية محكمة الجنايات الدولية واتفاقية جنيف الرابعة بعد كسب العضوية من قبل فى منظمة «اليونسكو». وقد يكون لمسعى الرئيس عباس فوائد دبلوماسية، كأن يعاد التأكيد على كون الضفة والقدس أراض محتلة، وليست أراض «متنازع عليها» كما يزعم كيان الاغتصاب الإسرائيلى، كذا إعادة التأكيد على انعدام المشروعية الدولية لتغول الاستيطان اليهودى فى القدس والضفة، وهو ما يفسر ضراوة الضغط الأمريكى والإسرائيلى على عباس لمنعه من الإقدام على خطوة الذهاب للأمم المتحدة، وهى الضغوط التى صمد ضدها عباس، وأراد كسب صورة القائد الفلسطينى المصمم على نيل حقوق لشعبه، ولمواجهة صعود نجم حماس التى صمدت واستبسلت فى نزال الحرب الأخيرة مع إسرائيل. وبديهى أن كل تقارب بين حماس وعباس مما يستحق التأييد والدعم، فلا أحد يرضى بالانقسام المتصل منذ خمس سنوات وتزيد، وأدى إلى نشوء دويلتين فلسطينيتين، واحدة فى غزة تحكمها حماس، والأخرى فى أجزاء من الضفة يحكمها عباس، ورغم عشرات الاتفاقات التى جرى توقيعها بوساطات مصرية وغير مصرية، فقد ظل الوضع على حاله المزرى، ويظل كذلك حتى بعد إعلان حماس تأييدها لخطوة عباس الأممية، فقد بدا التأييد كأنه دعم دبلوماسى من دويلة إلى أختها الشقيقة، وليس اتحادا فى الهدف بين حركتين سياسيتين لذات الشعب، وهو ما لا يشجع على الاعتقاد بإمكانية التقدم إلى رأب الصدع وانجاز مصالحة حقيقية، واستعادة الوحدة الوطنية المفقودة للشعب الفلسطينى. فى البدء، كانت خلافات حماس وعباس تبدو مفهومة، فبرنامج حماس كان تعبيرا عن مشروع للمقاومة، بينما بدا عباس أميل إلى المساومة، ولا تزال القصة على حالها إلى الآن، وإن أضيفت إليها دواعى انقسام جديدة، فصحيح أن وفدا من المجلس الثورى لحركة فتح التى يترأسها عباس زار غزة، وشارك فى احتفالات حكومتها «الحمساوية» بالنصر الذى تحقق فى ردع العدوان الإسرائيلى الأخير، وبدت قيادات من فتح كأنها تنتصر لحق المقاومة المسلحة، لكن الرئيس عباس ظل على موقفه المزرى من المقاومة المسلحة، يدينها فى كل مناسبة تسنح، ويتعهد بمنع نشوب انتفاضة جديدة فى الضفة والقدس، ويعطى إشارات ظاهرة للإسرائيليين بالتنازل عن حق العودة للأراضى المحتلة عام 1948، وكأنه يريد أن يطمئن إسرائيل التى تستخف به، وإن كانت تفضل التعامل معه كطرف أضعف مقابل الخشية من تضاعف نفوذ حماس، وقد كان لافتا أن تبدأ القوات الإسرائيلية حملة اعتقالات لقادة حماس فى الضفة عقب وقف إطلاق النار فى حرب غزة، فمصلحة إسرائيل ثابتة فى منع انهيار سلطة عباس، وفى تقوية ذراعها الأمنية لمنع امتداد نفوذ حماس إلى الضفة، خاصة بعد ظهور حماس فى صورة القوة العسكرية القادرة على ردع إسرائيل. وصحيح أن عباس أقدم على عصيان إسرائيل بالذهاب إلى الأممالمتحدة، لكنه يبدو عصيانا موقوتا جدا، ولا يرجح معه أن يذهب عباس إلى مدى أبعد، وأن يمضى إلى مصالحة ناجزة مع حماس قد تغضب إسرائيل أكثر، ويجعلها تستغنى نهائيا عن خدماته، خاصة أن رؤية حماس للمصالحة تبدو منطقية أكثر، فهى تريد كما يقول قادتها مصالحة على أساس برنامج المقاومة، وهو مالا يقبله عباس، والذى يريد حصر القصة فى جملة إجراءات انتخابية، واحتواء حركتى «حماس» و«الجهاد الإسلامى» فى منظمة التحرير تحت قيادته، وعلى ظن أن الاعتراف بفلسطين كدولة غير عضو فى الأممالمتحدة يزيد من جاذبية سياسته، ويستعيد له صورة الرجل الجدير بالقيادة، وقد يجعل إسرائيل تعطف عليه، وتمضى إلى جولة مفاوضات جديدة مع إدارته، وكلها حسابات تفتقد إلى الجدية والواقعية، فما من شىء استجد على الأرض يدفع إسرائيل لترقية نظرتها إلى عباس، وترفيعه من مرتبة «الوكيل المفوض» إلى مرتبة «الخصم المفاوض». وإعادة تجميع عناصر الصورة قد يوحى بالمسار المتوقع للحوادث، فأولوية إسرائيل واضحة مع زيادة شعبية حكومة اليمين المتطرف، وهى إتمام عملية التهام القدس استيطانيا بالكامل، والتهام أغلب مناطق الضفة الغربية، إضافة لإضعاف وليس غزو دويلة حماس فى غزة، وإلحاق «غزة» عمليا بمصر، وتكليف الرئيس المصرى «الإخوانى» بمهمة لجم تصرفات حماس، بينما لا تبدو حركة «حماس» طيعة لينة إلى هذا الحد، فهى تستفيد بالطبع من الوضع الجديد فى مصر، لكنها لن تضحى بروابطها المتصلة مع طهران رغم الخلاف المستعر فى الموضوع السورى، وقد لاحظ المراقبون ما جرى فى غزة بعد ردع العدوان الإسرائيلى الأخير، وكيف أن اللافتات معلقة فى كل مكان، وباللغات العربية والعبرية والإنجليزية والفارسية، وكلها تقول: «شكرا لإيران»، فالحقيقة التى تعلمها حماس، وعبر عنها زعيمها خالد مشعل فى حوار تليفزيونى، هى أن العنصر الإيرانى غالب على ترسانة حماس العسكرية، وعلى ترسانتها الصاروخية بالذات، وهو ما يعنى أن نصر غزة صنع أساسا فى إيران، وهى حقيقة تعلمها إسرائيل دون حاجة لقراءة لافتات غزة، والتى يقف وراءها فريق متشدد فى قيادة حماس، يرفض فكرة التصالح مع عباس، وقد لا يمانع فى تهدئة تكتيكية تسمح لحماس بحرية عمل أوسع فى الضفة الغربية، وهو ما يراقبه الإسرائيليون بالطبع، ويدفعهم إلى ضغط أكبر على عباس بمعاونة الأمريكيين، وبهدف منع أى مصالحة فلسطينية، وحصر القصة فى تهدئة عابرة وموقوتة. نشر بالعدد 625 بتاريخ 3/12/2012