المصالحة الآن...! حسين حجازي لو كنت شخصياً صاحب القرار في حركة "حماس"، أو الحكومة المقالة، لفضّلت عند تقليب الأمر، عدم إعطاء التصريح بإقامة هذا الحفل، في الذكرى الثالثة لرحيل عرفات، على أن ينتهي هذا الحفل بحدوث مجزرة كما حدث بالفعل. ولكن، لما كان من غير الحكمة، ولا التصرف اللائق، أو الشهامة الوطنية، أو حتى الأخلاق السياسية والدينية، أن أرفض إعطاء مثل هذا التصريح، بصفتي السلطة الحاكمة على الأرض، لإحياء ذكرى راحل عظيم، على هذا القدر من الرمزية الوطنية الجامعة، فإنني كسياسي حصيف، كنت سأتقدم بطلب متواضع، ولكن من الصعب رده، أو رفضه، باشتراط عقد هذا الحفل، بمشاركتي فيه، أنا ممثل "حماس" أو الحكومة المقالة، لإلقاء كلمة في هذا المهرجان، باعتبار أن عرفات ليس أبو "فتح" وحدها، ولكن أبو الجميع، وبالتالي هيا نشيد يا إخوان بذكراه جميعاً، ويكون ذلك مدخلاً على الأقل، لإعادة تجسير الهوة بين الحركتين، "حماس" و"فتح"، باتخاذ "حماس" المبادرة إلى ذلك، باستغلال هذه المناسبة الوطنية الجامعة. وإذا رفض الإخوة الفتحاويون، منحي هذا الشرف مشاركتهم، فإنه يمكنني عندئذ، التصريح لهم حقاً بإقامة هذا المهرجان، عن طيب خاطر، ولكن إذ أقوم فعلاً، بتسهيل وصول الجماهير الحاشدة، وأنا أشهد بأن "حماس" فعلت ذلك، وقد رأيت هذه التسهيلات بنفسي، فإن حسن التدبير كان يقتضي أيها الإخوان، أن أكمل فعل الخير هذا، الموقف الشهم، بأن يصار إلى إصدار الأوامر، بإبعاد عناصر الشرطة، عن موقع الاحتفال تماماً، تحاشياً لإثارة الخواطر أو أية احتكاكات، بترك "فتح" تحتفل بهذا اليوم، دون أي إثقال على المشاعر، حتى يمر هذا اليوم بسلام. ويتضح اليوم، أن "حماس" السياسية، ما زالت تتعثر بأخطاء صغيرة، ولكن كارثية في نتائجها، وإن ذلك يعكس قدراً من السذاجة، كما ضعف المراس السياسي، الذي يمثل كعب أخيل هذه الحركة منذ تحولها إلى الانخراط الفعلي في الشأن السياسي. وإنني أدهش الآن، كيف أن حركة سياسية وعسكرية وجماهيرية كبيرة كحركة "حماس"، هي طرف أساسي منخرط في الصراع الفعلي، على وراثة تركة عرفات، تتصرف في واقع الحال، كما لو أن عرفات لا يعنيها بذات القدر، ولو من قبيل المزايدة السياسية، وهو أمر جائز، وتلجأ له الأحزاب السياسية في حالات محددة، لإظهار قدرتها على الانفتاح السياسي الداخلي، وإكساب مواقفها شكلاً من الإجماع التوافقي. لكن بعد ذلك، بعد المشهد الاحتفالي، منقطع النظير الذي شهدناه الاثنين الماضي، على ساحة أرض الكتيبة، فإنه يتبقى على "حماس" و"فتح" كلتيهما، إعادة تقويم منظوريهما للصراع الجاري بينهما منذ زمن، على ضوء هذا التحول الأخير. فعلى "حماس" أن تعرف الآن، أن ما جرى من حشد في هذا اليوم، هو أشبه في مفاجأته ل "فتح" نفسها قبل "حماس"، بفوز "حماس" نفسها المفاجئ والكاسح في الانتخابات الأخيرة. إن الناس في كلتا المناسبتين، أرادوا التعبير بطريقتهم عن احتجاجهم على السلطة الحاكمة، معاقبة "فتح" في الحالة الأولى على فسادها، ومعاقبة "حماس" اليوم على تردي أحوالهم. وهذا هو الدرس الأول. إن السلطة الحاكمة لدى شعب شديد الحراك، ويتحلى بشفافية عالية، لهي سلطة موضع التقريع الدائم، والتذمر المتواصل، بصرف النظر إن كانت هذه تقوم على أسس النظام الأبوي، البطريركي أو النظام العقائدي الإكليركي، أو كان الحزب الحاكم هو حزب وطني براغماتي، أو حزب عقائدي ديني. أما الدرس الثاني، وهو الأكثر دلالة هنا، بالنسبة لكلتا الحركتين، "فتح" و"حماس" معاً، فهو حقيقة أن يقظة الروح، صحو الحركات السياسية الكبيرة، كما الأشخاص، إنما تظهر على السطح، تعرف هذا الشكل من الطفو، إبان الأزمنة والأوقات العصيبة، حينما يبدو في الظاهر، وعلى السطح، كما لو أن الوضع، أو القضية ميؤوس منها تماماً، ولا يمكن النهوض أو الوقوف على الأقدام مجدداً. وهكذا، ابحثوا عن هذه الروح دوماً، حينما يكون اليأس من القدرة على استعادة زمام المبادرة، وتغيير الوضع القائم قد وصل إلى نقطة قصوى، بحيث يبدو الخيط الذي يفصل بين اليأس والأمل، واهناً ورقيقاً، كخيط العنكبوت، لا يُرى بالعين المجردة. ولذلك، فإن الحقيقة التي تكتب كعنوان على الحائط اليوم، قد تبدو معادلة مفارقة في مغزاها وهي: ان يقظة الروح الفتحاوية الحقيقية، هي التي تنمو في التربة الغزية، بالرغم مما يبدو عليه الوضع على السطح من اندحار هذه الحركة في غزة. هيا إذاً نترك للأحداث أن تعلمنا هذا الدرس الآخر أيضاً، وحيث الناس يتعلمون، في الأزمنة الثورية، والأزمات، أضعاف أضعاف ما يتعلمونه في أزمنة السلم الراكدة. وهذا الدرس مفاده التالي: إن حركة "فتح" في غزة، التي فقدت سيطرتها العسكرية الظاهرة يوم 51 حزيران الماضي، خلال الحسم العسكري ل "حماس"، تستطيع أن تخرج هذه المجاميع الشعبية بهذا الحجم غير المسبوق حتى في ظل سنوات سيطرتها، لكنه من المشكوك فيه، أن تستطيع هذه الحركة التي تسيطر بالقوة الظاهرة على رام اللّه، والضفة الغربية، أن تخرج إلى الساحات هناك، عشر أعشار ما أخرجته الحركة المندحرة عن السلطة في غزة، وإن هذه هي المسألة التي أفضل توجيه النقاش للتأمل في دلالتها. حيثما يتم إقصاء الحركات الشعبية والسياسية الكبرى، الحركات ذات الطابع التاريخي، والتركيبي، فإن الانبعاث المتجدد، كوميض من الصحو المباغت، إنما يبدأ في النماء، من الأوراق الصغيرة، بل الضعيفة، التي كانت تبدو حتى وقت قريب، هامشية أو مهملة، تحجبها عن الضوء ظلال الأوراق المتيبسة الكبيرة، وحينما تسقط هذه الأوراق، الأوراق الفاسدة، والمتخشنة من كثرة ما لوّحتها الشمس، فإن روحاً جديدة، تنفخ فيها الحياة. إن السلطات طراً هي المفسدة الكبرى للروح، روح الحركات السياسية، وهذه هي المعادلة، إن الروح الحقيقية اليوم لحركة "حماس"، هي التي تنمو، ويتصلب عودها، في ظل الاضطهاد والإقصاء الذي تواجهه في الضفة الغربية، وليس في غزة، حيث "حماس" تنخرط في إقامة سلطتها كحزب حاكم، كما هو حال سلطة "فتح" السابقة في غزة، ونظيرتها اليوم في رام اللّه، ولو أعطت اليوم، سلطة "فتح" في رام اللّه، لحركة "حماس" الملاحقة هناك، كما حركة "فتح" الملاحقة هنا، لأظهرت "حماس" قدرة على الحشد الجماهيري يوازي حشد "فتح" في غزة، فيما السلطتان نفساهما، لا تستطيعان كل منهما في مناطق سيطرتهما، "حماس" في غزة، و"فتح" في رام اللّه، إخراج هذا القدر من المجاميع الشعبية. فهل نستنتج إذاً، بأن "فتح" و"حماس"، كلتيهما تملكان هذا التركيب المعقد الذي يميز صراعهما، كما علاقتهما باعتبارهما كتلتين وازنتين على المستوى الشعبي ولكن خارج نطاق سيطرتهما الفعلية؟ نعم، هذه هي المعادلة التي ترتسم أمامنا في الطريق من هنا، وهذه المعادلة بدورها، هي التي ستحدد من الآن، سلوكهما السياسي، كما خياراتهما، وتالياً، طريقة إدارتهما لهذا الصراع المحتدم بينهما. فكيف تواجه سلطة "حماس" في غزة، كتلة "فتح" الشعبية النامية هنا، وكيف ستواجه سلطة "فتح" في رام اللّه، كتلة "حماس" الشعبية الوازنة هناك أيضاً؟ ما هي الخيارات التي تملكها الحكومتان هنا وهناك، للتعامل مع هذا المتغير الحاسم الآن؟ نأتي هنا في درجات اليقين الخمس، إلى "أغلب الظن"، وأغلب الظن، كما يتضح من المؤشرات الراهنة على الأرض، أننا سنكون في المرحلة القادمة إزاء نوع من الخيار "الإقصائي" باستخدام القوة القاسية، كخيار ينتهجه الطرفان، كل في مجال سلطته الطاهرة، رد فعل "حماس" في غزة، هو إعادة النظر في الحريات السياسية والإعلامية، أي العمل المنهجي على إقصاء "فتح" بالأخير هنا، ورد فعل "فتح" السلطة هناك، هو إقصاء حركة "حماس" ومنعها من حرية العمل السياسي والإعلامي. دولتان في غزة والضفة، تفرضان قانونهما الخاص، ذاهبتان إلى نوع من الخيارات القاسية، بأن تكسر إحداهما الأخرى، في مناطق سيطرتهما، فهل هذا الخيار هو الحل الممكن بالأخير، للتغلب على معضلة الصراع بينهما؟ والجواب، هو أنه قد يكون من حسن الطالع، أو سوء هذا الطالع، لا نعرف بعد، أن اللعبة "الحمساوية" "الفتحاوية"، بين غزة ورام اللّه، هي لعبة في واقع الأمر قصيرة المدى، إذا كان سيف الوقت في الصراع على الشرق الأوسط، يعجّل في واقع الحال، بقطع الطريق على هذا الانخراط في التوصيل الداخلي، مع اقتراب ساعة الحقيقة في حرب بوش الحاسمة مع إيران وسورية و"حزب اللّه"، وإذّاك سوف نعرف مصير اللعبة الفلسطينية الداخلية على وجه التحديد، ولكن في غضون ذلك، لعله من المأمول، لتوفير المزيد من الخسارة، إدراك أن الحل يقوم على قدر من التوافق الداخلي، في مجال نطاق كلتا السلطتين، ولو بصورة مؤقتة أن تبدأ "حماس" غزة في إجراء المصالحة مع "فتح" الغزية، وأن تقوم "فتح" رام اللّه، بمصالحة "حماس" الضفية. وهذا الخيار قد يكون هو الحل الممكن فعلاً من وجهة نظر براغماتية، إذا كان من المستحيل ذهاب الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر أنابوليس، بينما الفلسطينيون على عتبة شفير الحرب الداخلية، فحتى لأجل إتمام حفل سلام حقيقي يا أبو مازن، مع إسرائيل، ينبغي ملاقاة اللهجة التصالحية التي أظهرها إسماعيل هنية في خطابه الأخير، في منتصف الطريق، وإلا سوف لن يكون بإمكان الوضع الفلسطيني الداخلي، الصمود أمام التسونامي القادم من الشرق عما قريب. واللّه أعلم. عن صحيفة الايام الفلسطينية 17/11/2007