مر عامان على ثورات الربيع التى واكبت ثقافة التوثيق بالكاميرا وهكذا شاهدنا مئات من الأفلام التسجيلية على اختلاف المستوى تنتقل من مهرجان إلى آخر وبقدر ما نلاحظ أن العديد من الأفلام التسجيلية نجحت فى اقتناص اللحظة وتقديم عمل فنى متكامل بقدر ما نكتشف عجز السينما الروائية عن رصد ثورات الشعوب بألق وإبداع الثورة تجاوزت خريطتها عالمنا العربى لتصبح لها بعدها العالمى فلقد كانت المهرجانات الكبرى على نفس الموجة وهى تبحث عن أفلام الثورة ولم تمض سوى أشهر قليلة لكى يعلن مهرجان «كان» الذى عقد فى مايو 2011 عن تكريمه لثورات الربيع وعرض الفيلم المصرى الدرامى «18 يوما» أخرجه عشرة مخرجين كل منهم قدم جزءاً وأيضاً كانت تونس حاضرة بالفيلم التسجيلى الطويل «لا خوف بعد اليوم» إخراج مراد بن شيخ ولم يكن الفيلمان يعبران عن الطموح الفنى الذى ترقبناه بعد الثورة وداخل المهرجان أيضاً ومن خلال عروض «البلاج» عرض فيلم «صرخة نملة» إخراج سامح عبد العزيز وبطولة عمرو عبد الجليل ورانيا يوسف. بدأ التصوير فى هذا الفيلم قبل 25 يناير وكانت مشاهد الفيلم تنافق الرئيس وأطلقوا عليه فى البداية «الحقنا يا ريس» أى أنه يستنجد فى مشاهد السيناريو الأخيرة بالرئيس طالباً الحماية والعون وبعد الثورة تم تغيير العديد من المشاهد وصار الفيلم يلعن الرئيس وسنين الرئيس وسيرة الرئيس وأصبحت «النملة» تريد قتل الرئيس!! بالتأكيد ليست هذه هى السينما الروائية التى ننتظرها ولكن العديد من السينمائيين قرروا إضافة صبغة درامية بلون الثورة على أفلامهم فى محاولة لركوب الموجة مثلاً فيلم «الفاجومي» والذى يتناول حياة الشاعر أحمد فؤاد نجم واسم شهرته «الفاجومي» وكان من المفروض أن تنتهى أحداثه الدرامية مع ما عرف فى مصر بأحداث 18 و 19 يناير 1977 حيث شهدت مصر انتفاضة أيام السادات كانت تعبيرا شعبيا عن الغضب ولكن السادات والإعلام الذى كان تحت سطوة الدولة لأننا حتى ذلك الوقت لم نكن قد بدأنا عصر الفضائيات أطلق عليها انتفاضة الحرامية. لم يرض الكاتب والمخرج عصام الشماع أن يكتفى بهذا القدر ولهذا أضاف فى نهاية الأحداث مشهداً للفاجومى فى ميدان التحرير أثناء ثورة يناير ليقفز زمنياً 34 عاماً بدون أى مبرر سوى الشعبطة فى قطار الثورة. وتعددت الأفلام الروائية التى نستطيع أن نطلق عليها سينما - إيفيهات - الثورة حيث تستخدم شعار مثل «الشعب يريد إسقاط النظام» فتصبح «الشعب يريد إسقاط قائد طائرة» مثلما حدث فى الفيلم الكوميدى «سامى أوكسيد الكربون» لعب بطولته هانى رمزى أو «الشعب يريد اسقاط بيبو» مثلما حدث فى فيلم «بيبو وبشير» وسارع أيضاً محمد سعد بتقديم فيلماً رديئاً أطلق عليه «تيك تاك بوم» لا تدرى هل هو يسخر من الثورة أم يستخدمها لاقتناص نكتة؟! بين كل ذلك من الممكن أن نتوقف أمام محاولات جادة فى صياغة سينمائية كان لها جديتها ومنطقها مثل المخرج يسرى نصر الله الذى شارك فى المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2012 بفيلمه «بعد الموقعة» والذى عادت به مصر للمشاركة فى المسابقة الرسمية للمهرجان بعد 15 عاماً. والمقصود بتعبير «الموقعة» هو ما أطلق عليه الإعلام المصرى والعربى «موقعة الجمل» التى شكلت نقطة فارقة فى تحديد مسار الثورة، كان نصر الله يبدو حائراً بين تبنى وجهة نظر الخّيال الذى أدى دوره باسم سمرة والمفروض أنه توجه إلى ميدان التحرير راكباً حصانه لإجهاض الثورة ورغم ذلك شاهدنا قدراً من التعاطف كنا نلمحه فى تفاصيل الفيلم وكان يبدو المخرج حائراً بين تعاطفه مع البطل وخوفه من أن يطوله الاتهام بأنه من أعداء الثورة والحقيقة أن الشاشة بعيداً حتى عن التردد الفكرى الذى سيطر على المخرج لم تحمل أبداً الألق الذى تعودناه مع سينما نصر الله. وجاء فيلم المخرج إبراهيم بطوط «الشتا اللى فات» الذى عرض فى مهرجان فينسيا وانتقل إلى أبو ظبى ثم القاهرة، أحداث الفيلم تتوقف زمنياً عند تنحى مبارك فى 11 فبراير من خلال مسجون سياسى أدى دوره عمرو واكد عانى الكثير فى عهد مبارك وحررته الثورة. هذا الفيلم ذروته هى رحيل مبارك ولكن الحقيقة أن شعوب الربيع العربى تعيش الآن ذرى أخرى تجاوزت رحيل الطغاة إلى التساؤل عن مصير الحياة. ومن تونس شاهدت أكثر من فيلم روائى ولكنى أتوقف أمام المخرج نورى بوزيد وفيلمه «مانموتش» الذى عرض فى مهرجان أبو ظبى فى شهر أكتوبر الماضى وحصل نورى على جائزة أفضل مخرج عربي. هذا الفيلم تستطيع أن ترى فى ثناياه ليس الثورة بقدر ما يصعد أمامك هذا الهاجس الذى يخيف المثقفين وما تعودنا أن نطلق عليهم النخبة وقطاع لا يستهان به من المجتمع وهو أن تلك الثورات سواء فى تونس أو مصر أو ليبيا أفرزت عن طريق صندوق الانتخابات أحزاباً لها توجهها الدينى وبدأت تمارس نوعاً من القيود الاجتماعية على المجتمع بحجة أنها تطبق شريعة الله كان نورى يقدم فيلمه وعينه على الثورة ولكن قلبه وعقله كان خائفاً من المصير الذى ينتظر الثورة بسيطرة التوجه الدينى وهو بالتأكيد إحساس عاشت فيه كل الثورات العربية. الحقيقة أننا لا نستطيع أن نعزل الشريط المرئى عما يجرى على أرض الواقع. العمل الدرامى لا يقدم فقط الحقيقة ولكنه يخاطب جمهور لديه قناعات ومواقف مسبقة، لا أعتقد أن التوقيت الآن ملائم نفسياً أو موضوعياً لتقديم فيلم روائى طويل عن الثورة. الأحداث تتلاحق ولا يمكن أن تعثر على خط ثابت لتبنى من خلاله موقفاً درامياً. مثلما رأينا مثلاً الأفلام التى تناولت ثورة 23 يوليو حيث كانت الذروة هى رحيل الملك وإعلان الجمهورية. إجبار مبارك على التنحى وقبله هروب بن على إلى السعودية وبعده مقتل القذافى كان من الممكن أن يتحول إلى ذروة، إلا أن ما تلاها من أحداث جعل حتى الفضائيات التى تُقدم الخبر الطازج لحظة بلحظة غير قادرة على الملاحقة بعد أن خُلقت ذرى أخرى، الناس لم تعثر على الخط النفسى الفاصل الذى تستطيع أن تلتقط بعده الأنفاس، هل يتوقف المؤلف الدرامى مثلاً عند هتاف يسقط مبارك أم ينتقل إلى يسقط حكم العسكر أم إلى يسقط حكم المرشد أم ينتظر هتافا آخر. كيف نُطل على الحدث بينما الصورة تتغير، صحيح لن يُصبح أى من هؤلاء الرؤساء المخلوعين بطلاً ضحى بالكرسى لإنقاذ شعبه، فكلهم جناة امتصوا مقدرات شعوبهم ولكن تفاصيل الصورة قابلة للتغيير تبعاً لما تُسفر عنه المحاكمات الدائرة الآن وأيضاً الواقع الذى تحياه الشعوب بعد خيبة أملها فى ثورات الربيع يؤثر بلا شك على طريقة تفاعلها واستقبالها للأعمال الدرامية. تقديم فيلم أو مسلسل عن الثورة مغامرة غير مأمونة العواقب هناك العديد من التفاصيل لا يمكن ببساطة كشفها وعندما نتابع الأحداث نكتشف أن هناك دائماً جديداً يطرحه الواقع، مثلاً من هو مبارك بالتأكيد ليس هو الذى رسمت أجهزة الإعلام صورته وغنوا له «اخترناه اخترناه واحنا معاه لما شاء الله». وليس هو بن على الذى وقع على بيان مناشدته عشرات من الفنانين والمثقفين التونسيين كانوا يريدونه أن يترشح للرئاسة مجدداً فى 2014 وبالتالى تغيير دستور البلاد ليحق له الترشح، الناس مثلاً هل تتقبل مبارك المدان أم القابع الآن فى المستشفى أم الذى لا يزال ينتظر ما يسفر عنه موقفه القانونى بعد إعادة محاكمته والتى من الممكن أن تسفر عن براءته أو إدانته لو تمكنت النيابة من توثيق أدلة الإدانة التى انتهت إليها لجنة تقصى الحقائق. الثورة لم تنته والناس التى تعلقت أحلامها البسيطة بالكثير من الآمال تبددت على واقع ينبئ بطبقات كثيفة من السحب السوداء. الشاشة الدرامية ليست منعزلة عما يجرى فى الشارع ولا يجوز أن يتصور أحد أن الشخصيات الدرامية هى ملك لصاحبها لأنها ليست خيالاً محضاً فكل منا لديه صورة ذهنية ولديه أيضاً قناعاته. كتب مثلاً السيناريست فيصل ندا مؤخراً مسلسلاً عنوانه المؤقت «الجميلة والمغامر» المقصود بالجميلة ليلى الطرابلسى والمغامر هو زين العابدين بن على رفضت درة أداء دور ليلى واعتذر جمال سليمان عن أداء دور بن على وبالتأكيد أراد الكاتب أن يستغل سخونة وجاذبية الشخصيات لتقديم عمل درامى على موجة الجمهور الآن وأتصور أن شركات الإنتاج سوف تفكر ألف مرة قبل أن تشرع فى تنفيذ هذا العمل. ومنذ نحو شهر يجرى تصوير مسلسل «المزرعة» المقصود بهذا الاسم السجن الذى ضم أغلب رموز النظام السابق وتؤدى فى المسلسل رجاء الجداوى دور سوزان مبارك وصلاح رشوان حسنى مبارك وأحمد راتب صفوت الشريف وطلعت زكريا مأمور السجن وغيرهم من رموز ارتبطت بالفساد، ولكن المأزق هو أن كل يوم يمضى نجد أنفسنا بصدد خبر جديد يطيح بما سبق كما أن الشعوب بدأت تنتظر حصاد الثورة. السينما التسجيلية هى الأقدر على اقتناص اللحظة فى ظل تلك الحالة التى تتلاحق فيها الأحداث فلا وقت ولا مجال الآن للدراما. الشعوب تترقب ما بعد ثورات الربيع ولهذا لا أظنها الآن فى حالة نفسية تسمح لها حتى بالتقاط الأنفاس بما يتيح للشعوب أن تسترجع بهدوء ما جرى قبل وأثناء وبعد ثورات الربيع.. الشعوب الآن فى حقيقة الأمرa تنتظر حصاد الربيع.. يتلهفون على ريع ثورات الربيع، بينما الحكام يريدون الاستحواذ على الثورة والشعوب نشر بتاريخ 28/1/2013 العدد 633