قصة قديمة محفورة فى أعماق ذاكرتى، حيرتنى وقتها ثم علمت – لاحقا – أن للأمر تفسيرا لدى علم النفس، كنت أسمع فى طفولتى سيدات من أقاربى يشتكين للمرحوم والدى مر الشكوى من ظلم الحموات، وكانت الشكوى تنقطع بين حين وحين بفاصل موجع من البكاء المرير، ولما صرت فى الجامعة، كان المشهد هو نفسه، فى نفس حجرة الجلوس وعلى نفس المقاعد مع تغير الشاكيات والمشكو بحقهن، كانت الشاكيات زوجات أبناء من كن يشتكين فى طفولتى فلما صرن حموات رحن يفعلن بزوجات الأبناء نفس الأفاعيل! والآن فان المشهد هو نفسه يجرى مع اختلاف التفاصيل. وقف الاخوان الظاهر منهم والمختفى وراء اللجان الالكترونية المنظمة على شبكة الانترنت من القضاء المصرى موقفا عجيبا، فهو تارة «القضاء الشامخ» عندما يصدر حكما يلائم الهوى أو المصالح ثم إذا به يتحول فجأة إلى القضاء الفاسد المسيس إذا صدر الحكم على غير مايرتجى! وهو هوان جاوز أقصى ما وصل اليه نظام مبارك! وامتد الموقف المؤسف الى المحكمة الدستورية العليا وحكمها القاضى باعدام مجلس الشعب، لعدم دستورية النص الذى تمت الانتخابات على أساسه، وراح الاخوان يتصرفون على نحو يثير الذهول، وعلى مدى شهور تلوك الألسنة كلاما يقع فى باب ما لا يليق عن الحكم القضائى، ودخل على الخط رجال قانون يسوغون إهدار الحكم وإعادة المجلس، وتمنيت الا يزج برئيس الدولة إلى قرار باعادة الحياة إلى مجلس ميت لاستحالة ذلك عملا وقانونا، ولكن هناك من نصح الرجل فأصدر قرارا ونفذ تنفيذا ملتبسا، فحضر الأعضاء جلسة ثم انفض الجمع، ثم وصلت الملهاة حد المأساة بحيل مما كان يجيدها الحزب الوطنى مماتقع فى ثقافات كتبة المحامين، إذ لجأ الاخوان إلى المحكمة الإدارية لعلها تعطيهم صكا يصلح تكأة وذريعة للعودة ولكن جاء قضاء المحكمة متسقا مع علم طلاب السنة الأولى بكليات الحقوق، فليس لجهة قضائية أن تراقب حكم غيرها. لكن حديث الدستورية مازال شغلا شاغلا لجماعة الاخوان، والنية ليست مبيتة للانقاض على المحكمة بل معلنة والعداء للمحكمة خرج من دائرة الغرف المغلقة الى حد التنظيم والتطهير لعدم جدواها تمهيدا لانفراد الاخوان بسلطة التشريع دون رقيب ولا حسيب! خلال جلسات مجلس الشعب قبل انتقاله الى رحمة الله كانت هناك مشاورات تجرى ومسرح يهيأ لانقضاض اخوانى على دور الأزهر وهو قائد الإسلام الوسطى تاريخيا، لكن الله سلم ورحل المجلس غير مأسوف عليه. و فى نوبة محمومة من النهم الاخوانى للاستحواذ أو التكويش، شكلت لجنة اعداد الدستور برئاسة رئيس مجلس الشعب ومن خلال الورقة الدوارة، ثم قال القضاء فيها كلمته فأعيد تشكيلها بذات الورقة الدوارة وخرج بعض أعضاء المجلس قبل تشكيل اللجنة بساعات ليعلن الأسماء، وجرى استبعاد قامة مثل الدكتور إبراهيم درويش ودخل أناس لانعلم ولايعلمون ماصلتهم بصناعة الدساتير، ولا أعرف سببا لاستبعاد درويش الا موقفه المعلن من الاخوان، وطعن على التشكيل ولكن اللجنة ماضية فى طريقها برغم أنه من المحتمل أن يصدر الحكم ببطلان التشكيل فيقع هدرا مهدورا ماراح من الجهد والمال! وراحت اللجنة تسابق الزمن لانجاز الدستور قبل الصدور المحتمل للحكم القضائى ببطلان التشكيل لا سيما أن عيوب اللجنة الأولى امتدت للثانية! وراح بعض الأعضاء ينسحبون، وتعالت أصوات دعاة حرية التعبير رعبا من توجهات داخل اللجنة تخاصم الحريات العامة وأخصها حرية الاعلام، ثم راحت اللجنة تشن حربا بلا هوادة على النيابة الادارية وهيئة قضايا الدولة، تارة بالقول إن هؤلاء ليسوا قضاة وتارة بالسعى لتشكيل ماسمى بمفوضية الانتخابات دون وجود الهيئتين بها، ومن المفارقات أن السادة الذين نسب اليهم التلاعب فى الانتخابات هم جميعا من القضاء العادى وليس منهم عضو واحد لا بقضايا الدولة ولا بالنيابة الإدارية، وهى التهمة التى بقيت الى اليوم معلقة كشاهد على أن يد مبارك ضامنة لأمن من وعدت بالحماية! اننا نسمع كلاما عجيبا عن قيام الادارات القانونية بالمصالح بدور هيئة قضايا الدولة التى تضم قامات قانونية بعضها عالمى، وعمر الهيئة هو عمر القضاء المصرى نفسه، ونسمع عن موقف من النيابة الادارية يخرجها من سياق الهيئات القضائية، وهو قول عجيب، فالنيابة الادارية تمارس نفس عمل كانت تمارسه النيابة العامة ثم أنشئت كنوع من التخصص القضائى، وهى تمثل المجتمع أمام القضاء الادارى نفس تمثيل النيابة العامة أمام القضاء الجنائى، وكان مؤسسوها الأوائل كلهم من القضاة ويستحيل أن يكونوا تركوا القضاء ليكونوا غير قضاة كما ترى اللجنة التأسيسية! ان هيئتى قضايا الدولة والنيابة الادارية جزء عتيد من البناء القانونى الوطنى ولو كانت هناك جدية فى ملاحقة الفساد فان كلتا الهيئتين يمكن أن تكون فى طليعة كتيبة المدافعين عن الحق العام. إن مبارك فى عز جبروته لم يجرؤ على اجراءات بفجاجة اهدار حكم للمحكمة الدستورية العليا ولكن مظلومى الأمس يعيدون إنتاج ما كان بصورة أشد اثارة للكمد! فى اللحظة التى خفت فيها صوت مهرة اللاعبين أمثال كمال الشاذلى وحل محلهم الهواة المتعجلون أمثال أحمد عز فقد جعل الشعب المصرى عاليها سافلها تحت أقدامهم وساق الجميع الى غياهب السجون! ويا معشر المتعجلين على السيطرة والتكويش والفك والتركيب والتجريف إن حكمة الأمس القريب ماثلة ألا تتعظون؟! تم نشره بالعدد رقم 618 بتاريخ 15/10/2012