دأب المعهد القومى للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية (مرصد حلوان سابقًا) منذ إنشائه فى عام 1903م على خدمة المجتمع المصرى فى بعض الأمور التى تتعلق بحياته المعيشية ومعتقداته الدينية، بالإضافة إلى نشر الوعى الثقافى فى المجالات الفلكية التى تقع فى إطار التخصصات العلمية للمعهد، مثل أرصاد الشمس والكواكب وأقمارها والسلم والمجرات والمذنبات والأقمار الصناعية والأجرام السماوية الأخرى بصفة عامة، وخلال الأعوام المائة السابقة، شارك المعهد منذ إنشائه كبيت خبرة بما لديه من تكنولوجيات للرصد الفلكى فى تتبع الظواهر الفلكية؛ مثل الكسوفات الشمسية والخسوفات القمرية وعبور كوكبى عطارد والزهرة قرص الشمس، وتعريف الجمهور بحقيقة هذه الظواهر بعيدا عن الشعوذة والدجل وبعض المعتقدات التاريخية الخطأ. وتأتى رؤية الهلال الجديد كأساس لحساب وتحديد بدايات الشهور الهجرية فى مقدمة المهام الخدمية للمعهد، حيث يقوم المعهد بإجراء الحسابات الفلكية اللازمة لتحديد إمكانية رؤية الهلال الجديد بعد غروب شمس يوم 29 من كل شهر هجرى ( يوم الرؤية). الدكتور عبد الفتاح عبد العال جلال، (رئيس المعهد القومى للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية الأسبق)، قال فى تقرير له حول رؤية الأهلة وحساب التقويم الهجرى، إنه جاء فى الحديث النبوى الشريف: ( الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه، فإن عم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما). وفى حديث غيره: ( لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن هم عليكم فاقدروا له)، وفى حديث آخر : ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن عم عليكم فاقدروا له). وأكد أن هذه الحسابات تتطلب إثبات وقائع فلكية معينة، للتأكد من ولادة الهلال الجديد، من هذه العوامل حساب وقت الاقتران بين الشمس والقمر والأرض، بمعنى اجتماع الشمس والقمر فى اتجاه واحد بالنسبة إلى الأرض، ويكون القمر محاقًا فى هذا الوضع بطبيعة الحال لذلك، يصعب تحديد حالة الاقتران بالأرصاد العملية، ولكن يمكن تحديدها وبدقة كبيرة بواسطة الحساب الفلكى، مشيرا إلى أن رؤية الهلال الجديد من أصعب الأرصاد الفلكية، فالهلال الجديد يولد بعد فترة من حدوث الاقتران، تتراوح بين 6 و16 ساعة، وبذلك يكون موضعه على صفحة السماء بالقرب من قرص الشمس، وقد تطمسه الشمس كما تطمس النجوم نهارًا، وتستحيل رؤيته فى هذه الحالة. وتابغ التقرير: "ولكن علينا أن ننتظر حتى تغرب الشمس ونبحث عن الهلال الجديد، إذا كان موجودا لفترة زمنية كافية لتتبعه ورصده قبل غروبه، ومن هنا تأتى أهمية الحساب الفلكى للاستعداد لعملية الرؤية، حيث يتم حساب فترة بقاء الهلال أو مكثه على صفحة السماء بعد غروب شمس يوم 29 من الشهر السابق (يوم الرؤية) وكذلك الإحداثيات الفلكية لموقع الهلال الجديد بالنسبة إلى قرص الشمس حتى يركز المشاهد فقط على الناحية التى يتوقع ظهور الهلال فيها بالنسبة إلى قرص الشمس أثناء الغروب؛ وبذلك لا يضيع الوقت سدى فى البحث عن الهلال فى اتجاهات خاطئة". أطوار القمر من الميلاد حتى المحاق ومشاهدة الهلال بالعين المجردة أو باستخدام وسائل مساعدة للعين، مثل المنظار الفلكى، تعتمد أساسًا على شرطين أساسين، أولهما ميلاد الهلال قبل غروب الشمس بفترة زمنية كافية لرصده بعد غروبها يوم تحرى الهلال، وهذا الأمر يتحدد وبدقة كافية عن طريق الحساب الفلكى، وثانيهما السطوع النسبى للهلال الجديد، مقارنة بلمعان شفق السماء، الذى ينجم عن تشتت ضوء الشمس بعد غروبها بواسطة الغلاف الجوى للأرض، فإذا كان الهلال الجديد باهتا بالنسبة إلى ضوء الشفق، عندئذ يغمره ضوء الشفق وتستحيل رؤيته، أما إذا حدث العكس أى أن سطوع الهلال. والتقرير تحدث عن ضوء الشفق، حيث تسهل رؤية الهلال فى هذه الحالة، وقد يتساوى سطوع الهلال مع ضوء الشفق وتصعب الرؤية أيضًا لهذا السبب؛ ولذلك فإن الحسابات الفلكية قد تقطع بوجود الهلال فوق الأفق عند غروب الشمس فى يوم الرؤية، ولكنها لا تضمن رؤية الهلال لعوامل جوية فيزيائية بحتة، مثل شفافية الكتل الهوائية ومدى تأثرها بالعوالق الجوية، مثل الأتربة والأدخنة والأبخرة. وللإقلال من هذه العوامل المعوقة، يتحتم رصد الهلال من أماكن مرتفعة وبعيدة عن مصادر التلوث الجوى والضوئى، وعبر تاريخ المعهد الطويل، الذى يربو على مائة عام، تناول علماء المعهد مشكلة رؤية الأهلة، وتم تطوير معايير حسابية وطرق الرصد لإثبات رؤية الهلال الجديد على أسس علمية راسخة. وأشار إلى أنه من خلال الدعم المستمر من الدولة، أمكن تطوير تكنولوجيات الرصد الفلكى تباعًا لمواكبة التقدم العلمى فى هذا المجال، حيث اكتسب المعهد (مرصد حلوان سابقًا) شهرة عالمية خاصة؛ لما يتمتع به مناخ مصر من صفاء واستقرار يساعدان على إجراء الأرصاد الفلكية بدقة ملموسة ووفرة كبيرة. ولقد زود المرصد الذى كان مقامًا فى ميدان الرصد خانة بالعباسية بمنظار عدسى قطر شيئيته 10 بوصات (25 سم) تم تثبيته فى عام 1872م، ثم نقل هذا المرصد إلى حلوان خلال الفترة 1899 – 1901م، حيث زود مرصد حلوان فى عام 1905م بمنظار عاكس، قطر مرأته الرئيسية 30 بوصة (75 سم) كان يعتبر آنذاك واحدًا من المناظير الكبيرة فى العالم. أحدها ركب فى جامعة كامبريدج بإنجلترا. والمعهد يعتبر هو الجهة الوحيدة على مستوى العالم الذى قام خلال النصف الأخير من القرن العشرين بإدخال التقنيات الفوتومترية لدراسة الهلال الجديد ومدى تغيرها بتغير الخصائص البصرية للكتل الهوائية فى بعض المواقع الجغرافية المختلفة، حيث تركزت هذه الأبحاث المتخصصة فى تحديد قياس لمعان شفق المساء ومقارنته بسطوع الهلال عند أطوار وأعمار وإحداثيات فلكية مختلفة، وذلك من خلال حزم طيفية تقع فى نطاق حساسية العين البشرية، فكما ذكرنا آنفًا قد تسهل أو تصعب، أو ربما تستحيل، رؤية الهلال الجديد طبقًا للفارق بين سطوعه ولمعان الشفق بعد غروب الشمس، وبناء على نتائج هذه الأبحاث تم تحديد معايير فوتومترية لإمكانية رؤية الهلال الجديد وإرجاع بعض المعايير السابقة التى توصل إليها الأقدمون من العرب والمسلمين لهذه المعايير الحديثة. ولقد تم ربط رؤية الهلال ببعض الحقائق الفلكية الثابتة، مثل ظواهر الكسوف الشمسى والخسوف القمرى واستخدمت هذه الظواهر كضوابط لبدايات ومنتصف الأشهر الهجرية، فالكسوف الشمسى يحدث عندما يكون القمر فى مركز المحاق عند بداية الشهر القمرى، وتكون الشمس والقمر والأرض فى وضع الاقتران التام، أى أن مراكز الأجرام الثلاثة تكون على استقامة واحدة، بل أن الكسوفات الشمسية هى الفرصة الوحيدة التى تتيح رؤية المحاق وهو يعبر قرص الشمس وتظلم السماء وتعود الطيور إلى أوكارها عندما يحجب المحاق قرص الشمس كلية فى حالة الكسوف الكلي. فكما أن ولادة الهلال الجديد تأتى مباشرة بعد حدوث الاقتران، فإن حدوث الكسوف الشمسى، الذى هو بمنزلة اقتران تام يبشر بقرب ولادة الهلال الجديد، ويمكن القول إنه لا رؤية للهلال الجديد قبل حدوث الاقتران أو قبل حدوث الكسوف الشمسي. ومن الناحية الأخرى يحدث الخسوف القمرى عندما يكون القمر بدرًا فى منتصف الشهر الهجرى، وهذا يعنى أن توقيت الخسوف القمرى يتوافق عادة مع منتصف الشهر الهجرى إذا كانت البداية لهذا الشهر قد تم تحديدها بالدقة الكافية التى ترتكز إلى الأسس العلمية، وفى هذا الصدد يتم متابعة اكتمال القمر بدرًا فى منتصف الشهر القمرى ومقارنة النتائج العملية بنتائج الحسابات الفلكية لتحديد وقت اكتمال البدر. وربط إثبات رؤية الهلال ببعض الحقائق الفلكية الثابتة مثل الكسوف الشمسي. وأكد التقرير: لقد كان لنجاح المعهد فى تتبع هذه الظواهر ورصدها فى التواريخ والأوقات التى تحددها الحسابات الفلكية وإعلام الجمهور ورجال الشرع عن ذلك مردود إيجابى، أشاع الثقة بالحساب الفلكى والأرصاد العلمية، حيث اعتبرت الرؤية التى لا تتفق مع الحساب الفلكى الموثوق به بمنزلة الرؤية المردودة التى تتملك منها التهم، هذا بجانب التعاون الوثيق بين المعهد ودار الإفتاء المصرية، الذى أدى أيضًا إلى تطوير لجان استطلاع الهلال،بحيث تشتمل على متخصصين، لهم دراية بالأرصاد الفلكية، وكذلك اختيار مواقع لرصد الهلال الجديد صالحة لهذا الغرض من ناحية توفر صفاء الجو بها، وبعدها عن مصادر التلوث البيئى والجوي. ولقد داوم المعهد منذ إنشائه على إرسال تقارير شهرية عن ظروف رؤية الهلال الجديد إلى دار الإفتاء المصرية، والمشاركة فى تحرى رؤية الهلال باستخدام المناظير الثابتة والمحمولة من مواقع عدة مختارة لهذا الغرض، وإرسال تقارير الرؤية إلى فضيلة المفتى لاتخاذ القرار الشرعى المناسب نحو بداية الشهر الهجرى الجديد، وذلك بالتنسيق مع دور القضاء الشرعى فى العالم وجاء الدليل الفلكى للمعهد، الذى بدأ إصداره فى عام 1419ه 1998م، والذى هو بمنزلة تطوير تم إجراؤه لنشرة الحساب الفلكى التى جرى إصدارها ابتداء من عام 1405ه 1984م، بمنزلة تتويج لمجهودات المعهد فى هذا المجال، حيث يتضمن الدليل بيانات تفصيلية عن ظروف رؤية الهلال الجديد فى غالبية البلدان العربية والإسلامية، بالإضافة إلى بعض العواصمالغربية، وبيانات عن أوجه القمر فى مدينة القاهرة مع خرائط توضح موقع وشكل الهلال على صفحة السماء بالنسبة إلى قرص الشمس وبعض الكواكب والنجوم اللامعة القريبة منه، كما يتضمن الدليل الفلكى خرائط وبيانات عن الكسوفات الشمسية والخسوفات القمرية، ونبذة عن التقاويم المختلفة وشرحا للفصول الأربعة، مع جدول يوضح بداياتها وأطوالها ومواقيت الصلاة فى مدينة القاهرة، وكذلك الظواهر الفلكية على مدى العام الهجرى واتجاهات القبلة فى العالم، محسوبة بالطرق الفلكية الحديثة وخريطة توضح هذه الاتجاهات. وحتى الآن لا تزال رؤية الهلال الجديد وهو فى المهد من الأرصاد الفلكية الصعبة التى تستعصى على الراصدين فى جميع أنحاء العالم، وقد يتطلب الأمر استخدام الوسائل الفضائية التى سوف تساعد على تجنب التأثير المعوق لجو الأرض على رؤية الهلال الجديد عند مسافات قوسية صغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس، وهذا ما أثبتته الأبحاث الحديثة التى أفادت بأن الهلال الجديد يمكن رؤيته بواسطة الأقمار الصناعية على بعد درجتين قوسيتين من قرص الشمس، فى حين تصل هذه الزاوية إلى 7.5 درجات تقريبًا لإمكانية الرؤية على سطح الأرض، وهذا ما يجعل رؤية الهلال صعبة فى معظم الأحوال، ولا تتحقق الرؤية إلا بعد فوات يوم أو يومين على الأقل من لحظة الميلاد، وبذلك تكون بداية الشهر الهجرى فى الغالب مشوبة بعدم الدقة، وتتبنى دار الإفتاء المصرية نشر لجان استطلاع الهلال على نطاق واسع فى جمهورية مصر العربية بمشاركة أعضاء المعهد لاختيار أفضل الأماكن للرؤية بعيدًا عن أضواء المدن.