لا يصح لأحد أن يخلط الأوراق، أو أن يلبس الباطل ثوب الحق، أو أن يبيح سفك الدماء، وبدعوي حماية هيبة الدولة، أو حفظ أمن المنشآت العامة والخاصة. فالأصل بالبداهة أن الحق لا يضاد بعضه بعضا، والتظاهر والإضراب والاعتصام السلمي حقوق مقدسة، منحها الشعب المصري لنفسه، ولم ينتظرها من أحد، واكتسبها المصريون بتضحياتهم الجليلة، وبدماء آلاف من الشهداء والجرحي والمعاقين، وفي معركة سلمية عظيمة تداعت فصولها عبر سنوات خلت، ووصلت ذروتها في ثورة 25 يناير 2011،وتدافعت بعدها قوافل الشهداء، تحمي حق الشعب في الاعتراض والاحتجاج والتبديل والتغيير، فقوة الناس وحدها هي التي تحقق الأحلام، وقوة الميادين وحدها هي التي لا يغلبها غلاب، وربما لا يملك الشعب المصري إلي الآن غيرها، فلا صوت يعلو علي صوت الميدان، وسواء كان الميدان اسمه «التحرير» أو كان اسمه «العباسية»، أو أي اسم لأي ميدان آخر في أي مدينة أو قرية مصرية، فكل الأرض جعلت للصلاة توحيداً لله، وكل الأرض جعلت للتظاهر تعبيرا عن إرادة الشعب التي هي من إرادة الله، والناس لا يتظاهرون في أقفاص من خشب، ولا في حواجز من حديد وأسلاك شائكة، وقوة الناس تصنعها القلوب والعقول والحناجر، ولا تصنعها أسلحة حتي لو كانت بعضا من حجارة الأرض، فالأصل في التظاهر والإضراب والاعتصام هو السلمية التامة، والاستعداد الفائق للتضحية، ورفض مواجهة الدم بالدم، بل مواجهة الرصاص بالصدور العارية، فهذا هو الذي يصنع «التفوق الأخلاقي» الحاسم للمظاهرات والإضرابات والاعتصامات، وهذا هو الذي صنع التفوق الأخلاقي الحاسم لثورتنا المغدورة حتي تاريخه، وليس ثوريا حقيقيا ولا شبه ثوري من يفرط في سلامة المنشآت العامة والخاصة، فحماية الحقوق فرض عين علي كل متظاهر أو مضرب أو معتصم. إذن، من أين جاء الخطأ بالضبط في موقعة العباسية؟، ومن الذي دفع القصة إلي نهايتها الدموية المرعبة؟، الجواب المباشر ظاهر، وهو أن الخطأ جاء من تجاوز المعني السلمي إلي معني الدم، وقد فعلتها السلطة القائمة بالأساس، وإن كان يصح اتهام آخرين معها، فربما لا تصح تبرئة جماعات دخيلة علي معني التظاهر السلمي، ومن أنصار المرشح الرئاسي المستبعد حازم صلاح أبوإسماعيل بالذات، فلم يكونوا أبدا شركاء في الثورة، ولا دعاة لها، بل فيهم خليط من جماعات جهادية وأنصار التكفير والهجرة وبقايا جماعة التوقف والتبين، وبدت راياتهم السوداء ظاهرة، ثم بدت وجوههم وممارساتهم غليظة القلب والعقل، وربما لا يعرف أحد علي وجه الدقة ماذا فعل هؤلاء بالضبط؟، وهل سفكوا دما؟، أم اكتفوا بدعوات معلنة إلي سفك الدم؟، والمؤكد أن القضاء العسكري ليس الساحة المناسبة لتبرئة أو إدانة حقيقية يطمأن إليها، فالقضاء العسكري مقيد عمليا بتسلسل الأوامر، وقد لا تفيد المرافعات عن أحكامه فيما يخص المدنيين بالذات، فليس من ضمانات تقاض حقيقية في القضاء العسكري، ولا من كفالة مضمونة لحقوق الدفاع، ثم إنه لا تصح إحالة المتهمين افتراضا في حوادث العباسية إلي قضاء تابع للمجلس العسكري، فقد كان جنرالات المجلس العسكري خصما وطرفا مباشرا في أحداث العباسية ولا يصح للخصم أن يكون حكما، اللهم إلا في قانون الغابة لا قانون المجتمعات المتحضرة، ثم إن الجنرالات أنفسهم موضع اتهام أصلي، فهم موضع اتهام سياسي بالمسئولية عن دماء الشهداء جميعا، وسواء كانوا من المدنيين أو العسكريين، وهم أي الجنرالات موضع اتهام جنائي في وقائع مضافة، لعل أشهرها واقعة اقتحام مسجد النور وملابساتها، ثم وقائع الاعتقال العشوائي لمئات من الشباب والشابات، وما يروي عن وقائع تعذيب وانتهاك بدني، فقد جري تجاوز مهمة فض الاعتصام إلي التنكيل الوحشي بكل من تصادف وجوده في ميدان العباسية، أو في محيط وزارة الدفاع، وجامعة عين شمس. وبالطبع، لا يوافق أحد عاقل علي اقتحام وزارة الدفاع، ولا حتي علي اقتحام وزارة الشئون الاجتماعية، فالمنشآت العامة لها حرمتها، وهي ملك الشعب كله، وليست حكرا خاصا لطوائف بعينها، ثم إن الحوادث التي جرت كانت بعيدة عن مبني وزارة الدفاع، وبما يزيد علي نصف كيلو متر، ومن حق قوات الجيش والشرطة أن تحمي وزارة الدفاع أو أي وزارة أخري، وأن تصد أي اندفاع نحوها، وبالطرق التي تعرفها قوات الأمن في كل الدنيا، والتي لا تتضمن سفكا لدم، ولا إحالة مدنيين إلي قضاء عسكري، بل الإحالة إلي القضاء الطبيعي، فلا أحد يقبل أن تمر واقعة مقتل مجند في الجيش بلا حساب ولا عقاب، ولا أحد يقبل أيضا وبالقدر نفسه أن تمر وقائع قتل وذبح عشرات المدنيين بلا حساب ولا عقاب، فكل الدم المصري سواء، وحرمة الدم لا تفرق بين مدني وعسكري، ووقائع مساء الجمعة 4 مايو 2012 مما لا يصح فصله عما جري قبلها، وبالذات في فجر الأربعاء الدامي 2 مايو 2012، فقد كان صباحا دمويا بامتياز، لم يخدش فيه إصبع لمجند، عسكريا كان أو شرطيا، بل كان الشهداء جميعا من المدنيين، وسواء كانوا من أهالي العباسية، أو من شباب المعتصمين، وقد راحوا جميعا ضحية مجزرة كافرة، راحوا ضحية القتل بالرصاص الحي في الرأس أو في الصدر، أو الذبح بالسكاكين وكسر الرقاب، وفي أجواء تسلسل للحوادث يكشف هوية القتلة والمدبرين، كان الاعتصام قد بدأ قبلها بأربعة أيام، ولم تقع في أول أيامه سوي مناوشات محدودة بين معتصمين وبلطجية شارع، ثم تدافعت الساعات والأيام في حالة توتر، ومع حجز المعتصمين في مكانهم بعيدا عن مبني وزارة الدفاع، وكانت نواة الاعتصام في تناقص عددي متصل، وإلي أن وقعت الحادثة الغامضة مساء الثلاثاء أول مايو2012، وقد بدت مدبرة بامتياز، فقد ظهر ضابط جيش في أوساط المعتصمين، كان يرتدي زيا مدنيا، لكنه يحمل بطاقة تعريفه وسلاحه الناري، وادعي أنه ذهب للمعتصمين بدواعي الفضول وحب الاستطلاع، وكان طبيعيا أن يرتاب فيه المعتصمون، لكن بعضهم للأسف حولها إلي واقعة حربية، وابتلع الطعم، ووقع في الفخ المنصوب، وتورط في أسر الضابط، وهو ما مهد لخطوات تالية، فقد جري تحرير الضابط المحتجز بعملية عسكرية محترفة ونظيفة تماما، لكن الواقعة كان لها ما بعدها طبقا للخطة الموضوعة علي ما يبدو، والتي بدت كموقعة جمل ثانية، جري فيها تحويل المنطقة كلها إلي ساحة قتل، ووصلت المجزرة إلي ذروتها مع ساعات الفجر الأولي، واستخدمت فيها بنادق آلية وبنادق خرطوش وذبح بالسكاكين علي طريقة الجاهلية الأولي، وجرت نسبة المذابح إلي طرف ثالث غامض، وتعددت الروايات عمن دفع ومن قبض، ومن قاد كتائب البلطجة المنظمة التي نفذت المذبحة، وطوال ساعات القتل، لم يتحرك جندي واحد من الجيش أومن الشرطة المدنية لأداء واجبه، وبدا أن الجنرالات يتفرجون علي مسرحية مسلية، ولم يتحركوا لأداء الواجب في حماية المعتصمين أو أهالي العباسية، بل بدا الجنرالات كأنهم يضحكون في أكمامهم، خاصة أن أحدهم كان قد هدد المعتصمين بحسب فيديوهات بالويل والثبور وعظائم الأمور، وبإشارات الذبح المباشر، وسواء صح قصد الذبح أم لم يصح، فإن التهمة معلقة في رقاب جنرالات المجلس العسكري، وسواء بالتدبير أو بالتغاضي، بالعمد أو بالإهمال، فجنرالات المجلس العسكري يتولون مسئولية الحكم، وحفظ الأمن وحرمة الدم واجبهم الأساسي، وليس بتدبير مؤامرات للإيقاع بهذا أو بذاك، وقد تخلي هؤلاء عن الواجب الوطني، واختبأوا وراء شعارات عن حرمة مبني وزارة الدفاع، وكأن حرمة الحجر أكثر قداسة من حرمة البشر، وهنا مربط الفرس كما يقولون، وهنا موضع الاتهام الحقيقي المسكوت عنه، تماما كما سكتوا عنه في مذابح ماسبيرو ومحمد محمود الأولي والثانية وشارع مجلس الوزراء، فقد سمعنا كثيرا عن متهمين بحرق مبني المجمع العلمي، أو عن متهمين بنية وليس بفعل - اقتحام مبني وزارة الدفاع، ولم نسمع عن تقديم متهم واحد في مذابح قتل قرابة المائة وخمسين شهيدا مصريا، بينهم بحسب ما أذيع اثنان من جنود الجيش، واحد أمام ماسبيرو، والآخر في جمعة العباسية الأخيرة، ودم هؤلاء جميعا يلاحق القتلة الحقيقيين، ولن تسكت عنه مصر كلها، لا في الحال ولا في الاستقبال، فلن يضيعونا في زحام الأوهام التي نشرها الجنرالات عن «الطرف الثالث» أو «اللهو الخفي»، فليس من طرف ثالث ولا لهو خفي، والوقائع كلها جرت علي رءوس الأشهاد، كانت ميادين المذابح كلها قسمة بين طرفين لا ثالث لهما، الطرف الأول هو مجلس الجنرالات وقواته العسكرية أو الشرطية، والطرف الثاني هو المتظاهرون والمعتصمون، وقد سقط الشهداء جميعا باستثناء اثنين من الطرف الثاني وحده، وهو ما يكشف بالبداهة خرافة الطرف الثالث الخفي، والذي يخلطون به الأوراق، ويضيعون الحقوق والحقائق، ويصورونه كطرف يقتل من الطرفين الأول والثاني، في حين أن خيط الدم ظاهر المجري والمستقر، ويسقط الضحايا من الطرف الثاني وحده، وهو ما يعني عقلا ومنطقا أن الطرف الثالث إياه هو نفسه الطرف الأول، فأين هي التحقيقات التي تتهم جنرالات الطرف الأول، والذين ورطوا عناصر عسكرية وشرطية في جرائم قتل المتظاهرين والمعتصمين السلميين؟، ثم أين هي أسماء البلطجية الذين جري استئجارهم؟، الجواب: لا أحد هناك، فالقضاء العسكري لا يتهم جنرالات، والعين لا تعلو علي الحاجب، والآمر لا يكون مأمورا ولا متهما، والنيابة العامة لا تتحرك، فهي الأخري في وضع المأمور وعبد المأمور، وهذه هي الجناية الحقيقية بحق المصريين، جناية التستر علي القتلة و سفاكى الدماء البرئ. نشر فى العدد رقم 596 بتاريخ 12 مايو 2012