ربما لا نتوقع أن ينتهى المؤتمر الاقتصادى المزمع عقده فى «شرم الشيخ» إلى نتائج باهرة، فهو فى البدء والمنتهى حملة علاقات عامة، ومناسبة لتسويق مصر استثماريا، وقد تأتى عبره الكثير من الوعود والقليل من العقود. ولا أحد عاقل بوسعه أن يعارض فكرة جلب الاستثمارات العربية والأجنبية، ولا القفز بمعدلاتها، ولا إزاحة العقبات البيروقراطية من طريقها، فمصر تحتاج إلى موارد مالية ضخمة، قد لا يتوافر الكثير منها فى الداخل، وطرح مشروعات محددة مدروسة على طريقة الإعداد لمؤتمر شرم الشيخ، قد يشجع الاستثمارات الكبرى على القدوم، وبهدف تحقيق عوائد تتاح فى مصر، وقد لا تتاح فى غيرها، فعوائد الاستثمار فى مصر مغرية، وتصل إلى ثانى أكبر معدل فى الدنيا كلها . ما جرى هو «استحمار» لا«استثمار».. وسرقة «عينى عينك» لموارد البلد.. وإفلاتا منهجيا من العقاب إلى الآن.. فقد جرت محاكمات صورية بعد الثورة.. لم تسترد مليما واحدا من ثروات البلد المنهوب.. ولم تتم إدانة واحد منهم.. بل جرى منح ما يشبه الأوسمة والنياشين للصوص كل هذا جميل ومطلوب، لكنه لايحقق بالضرورة هدف إنهاض مصر، ولا إقالتها من عثراتها، خصوصا أن زمن المساعدات والهبات مضى وانتهى، وقد أدى دوره فى لحظة اختناق، وتم تقديم الشكر للمانحين من دول الخليج بالذات، ودون توقع المزيد، ومع تأكيد الرئيس السيسى نفسه على أولوية الاعتماد على قدراتنا الذاتية، وهذا هو حجر الزاوية فى القصة كلها . نعم، هذه هى الحقيقة، الاعتماد على الذات مفتاح النهوض، وليس تكرار ما جرى من هم وغم عبر أربعين سنة مضت، انفكت فيها التعبئة الوطنية العامة، وجرى افتتاح سوق النهب باسم الاستثمار و«انفتاح السداح مداح»، وعلى طريقة السادات فى مقولته الشهيرة «اللى مش هيغتنى دلوقتى .. مش هيغتنى أبدا»، وتوجيهه الرئاسى لتاجر المخدرات «خلى بالك من إسكندرية ياحاج رشاد»، ثم التفكيك الأعظم فى سنوات مبارك الطويلة الراكدة، والتى تغنوا فى أواخرها بزيادة هائلة فيما أسموه بالاستثمارات الأجنبية المتدفقة، فيما لم تكن الاستثمارات المزعومة غير عملية شراء للأصول والقلاع الصناعية والإنتاجية الكبرى، وهو ما ارتفع بمعدل النمو ظاهريا إلى 7% سنويا، ودون أن يعنى ذلك كسبا لمصر والمصريين، ولا ارتفاعا فى مستوى المعيشة، بل ازداد الأغنياء غنى، وزاد الفقراء فقرا، وانتهينا إلى الجحيم الذى عشناه ونعيشه، حيث يملك 1% من المصريين نصف الثروة الوطنية، ويملك 9% آخرون 23% من الثروة، أى أن عشرة بالمئة من المصريين يملكون ثلاثة أرباع الثروة العامة، فيما نزل 90% من المصريين إلى ما تحت خطوط الفقر والبطالة والعنوسة والمذلة والمرض بالمعنى الحرفى، ولم يعد من معنى للحياة عند الأغلبية الساحقة من المصريين، والذين يقتاتون على الفتات، ويمشون فى الشوارع كأنهم فى الأكفان، ويمارسون بطولة البقاء على قيد الحياة، وفى ظروف عنت قاهر . ولا يصح أن تكون بداياتنا من نهاياتنا، ولا أن نمضى من جديد فى طريق الخراب نفسه، ولا أن ندلل مجددا طبقة من يسمون برجال الأعمال، فقد كان خراب مصر مرتفقا بصعود طبقة مليارديرات ومليونيرات، لا يحتمل وجودهم اقتصاد منهك كالاقتصاد المصرى، وعددهم أكبر من عدد المليونيرات فى اقتصاد كندا، بينما 90 % من المصريين فى وضع أدنى من المتسولين فى كندا إن وجدوا، وهذا هو الجحيم بعينه، والتفاوت المرعب فى الثروات، والذى لم تشهد مثيلا له أعتى الرأسماليات فى الدنيا كلها، فما جرى من ثراء فاجر فى بر مصر، لم يكن نتاج عمل ولا جهد ولا مبادرة، ولا إضافة لقيمة إنتاجية فى البلد، بل خصما من قدرة البلد على البقاء، ومن قدرة ناسه على مواصلة الحياة، وعملية «شفط» غير مسبوق ولا ملحوق لثروة أمة، وبالضد من مقتضيات أى قانون مقبول أو معقول، بل بتفصيل قوانين نهب عام، لم تشهده مصر فى تاريخها الألفى، فلا ضرائب تدفع، بل جوائز تمنح، فى صفقات الخصخصة التى تحولت إلى «مصمصة»، وفى إعفاءات جمارك وضرائب تتجدد دوريا، وفى هبات تخصيص أراضى الدولة بالمجان أو بتراب الفلوس، وفى قروض البنوك التى كانت تعطى بالمليارات، وبالمكالمات التليفونية الآمرة، وفى الزواج الحرام بين الثروة والسلطة، وفى الإفساد المتصل لجهاز الدولة الإدارى، وفى التساهل القضائى مع الكبار، وفى ترك المعنى الانتاجى للاقتصاد إلى المعنى الخدمى والطفيلى، وفى تشجيع النصب العام، وفى سرقة مدخرات المصريين جيلا فجيل، من شركات توظيف الأموال «الإسلامية» إلى شركات الاتصالات الأجنبية، وخلق مجتمع مهموم ومحموم بالسباق الاستهلاكى، وإلى حد أصبح معه عدد «الهواتف النقالة» فى مصر أكبر بكثير من مجموع السكان . الصورة إذن تعكس ما جرى من خراب عام، وكثمرة مريرة لعقود من الدعاية المبتذلة باسم الاستثمار، وراقب ما كان يجرى لزمن، حيث تتم عملية افتعال لمجالس تشريع بالتزوير، لاهم لها إلا إصدار قوانين تشجع ما يسمى بالاستثمار، وإنشاء وسائل إعلام يسيطر عليها مليارديرات المال الحرام، لا يبدو فى مناقشاتها من أثر لهموم الناس العارقين المنتجين أو المتعطلين، بل حديث دائم ممجوج عن القطاع الخاص، وعن فضل القطاع الخاص، وعن سوءات القطاع العام، وعن الرأسمالية التى لا يغلبها غلاب، ثم لا تجد «رأسمالية»، بل «نهب مالية»، ولا تجد استثمارا ولا تكنولوجيا تضاف للطاقة الإنتاجية، بل هدما وتجريفا لكل شيء يتصل بالإنتاج، واستيلاء عقاريا على ما تبقى من مزارع، وبيعا فى «سوق النخاسة» لما تبقى من مصانع، واتساعا لنطاق البطالة، وضيقا فى فرص العمل المنتج، ثم يحدثونك عن انتعاش الاستثمار، بينما ما جرى هو «استحمار» لا«استثمار»، وسرقة «عينى عينك» لموارد البلد، وإفلاتا منهجيا من العقاب إلى الآن، فقد جرت محاكمات صورية بعد الثورة، لم تسترد مليما واحدا من ثروات البلد المنهوب، ولم تتم إدانة واحد منهم، بل جرى منح ما يشبه الأوسمة والنياشين للصوص، وصار هؤلاء نجوما من جديد، بل ومن «أهل الخطوة»، غابوا فى السجون لسنوات، وكأنهم كانوا فى أجازة ترفيهية، ثم عادوا بالزى شبه الرسمى، تسبقهم حفلات غسل السمعة، ينثرون أموالنا المسروقة على الموالى الأمنيين والإعلاميين، ويذكروننا بفضلهم فى نهب البلد، وبقدراتهم الخارقة التى تجعلهم رجالا لكل زمن وكل نظام، وكأن لا ثورة قامت ولا أمة نهبت، ولا حقوقا سال فى سبيلها الدم الشهيد، وكأن الحياة محجوزة لمستحمرين يسمونهم بالمستثمرين، بينما الموت على قيد الحياة محجوز للغالبية العظمى من المصريين . وفى هذا السياق المعتم، تبدو كلمة «الاستثمار» سيئة السمعة، ولا تثير حماس غالبية المصريين، بل تثير الغيظ، فقد ترادف معنى الاستثمار مع معنى «الاستحمار» فى التاريخ القريب لمصر، ولا يزال الجرح نازفا متقيحا، فلم يتغير شيء جوهرى إلى الآن، ولم تسترد الحقوق، فلا يعقل أن نتحدث عن رغبة فى النهوض، ولا عن تعبئة القدرات الذاتية، ولا عن رفع معدلات الاستثمار والإدخار، لا يعقل أن نتحدث عن شيء من ذلك، والصورة لا تزال نفسها، لا يعقل أن نتحدث عن عدالة ولا شبه عدالة، بينما واحد بالمئة من السكان يملكون نصف الثروة، وكأنهم شعب المليارديرات والمليونيرات المختار، والذين تدللهم السلطة، وتواليهم كأنهم أفواج الصحابة والراشدين، أو كأنهم يمثلون القطاع الخاص فى الاقتصاد المصرى، وهذه فرية عظيمة، فهؤلاء لا يوظفون فى أعمالهم وشركاتهم سوى نسبة لا تزيد على عشرة بالمئة من العاملين المصريين، وبشروط عمل مجحفة وعظيمة السوء، تتيح الاستغناء عن العمالة أو استبدالها فى أى وقت، بينما 90% من القوى العاملة فى الحكومة والقطاع العام والقطاع الخاص الصغير والمتوسط، وقد يكون مطلوبا أن نشجع القطاع الخاص المنتج، وأغلب المليارديرات ليسوا من القطاع الخاص المطلوب دعمه، إنهم «القطاع الماص» لا القطاع الخاص، واسترداد حقوق البلد منهم، هو الذى يخلق الفارق، ويقيم بيئة عمل عادلة محفزة، يشارك فيها الاستثمار العام مع الاستثمار الخاص، ويعبئ مدخرات الفقراء والطبقات الوسطى، وعلى طريقة الاكتتاب العام الناجح فى مشروع قناة السويس . هذا هو الطريق لاستثمار حقيقى، وليس حملات العلاقات العامة على طريقة مؤتمر شرم الشيخ .