أشهد أن الرئيس عبد الفتاح السيسى لم يغضب، وظلت ابتسامته الذكية تشرق فى وجهه، وإلى أن انتهيت من مداخلتى الصريحة القصيرة فى لقاء جمع سيادة الرئيس مع كبار الصحفيين ورؤساء التحرير . كان الرئيس السيسى قد أشار إلى دور الرئيس الأسبق أنور السادات، ووصفه بأنه كان يفكر «خارج الصندوق»، عندما ذهب إلى عقد ما تسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، بدت إشارة الرئيس كأنها نوع من الامتداح، أو هكذا تفهم فى سياقها، وهو ما دفعنى فى مداخلتى القصيرة جدا إلى إشارة معاكسة بالضبط.. فقد قلت إن السادات هو الذى صنع انحطاط مصر التاريخى المتصل لأربعة عقود خلت، وذكرت الرئيس السيسى باعتقاده الذى عبر عنه مرات، وهو أن انهيار مشروع النهوض بدأ بعد حرب 1973، وأن البلد «وقعت» فى الثلاثين سنة الأخيرة، ولم تتسع إشارتى لما هو أكثر بحكم الوقت المتاح، فقد يكون السادات فكر «خارج الصندوق» كما قال الرئيس السيسى، لكن تفكير السادات جعل مصر خارج التاريخ، فليس كل تفكير خارج الصندوق مما يصح له أن يمتدح دائما، فثمة تفكير خارج الصندوق يدهش ويبنى ويثير الحماس ويجمع كلمة الخلق، وقد كان دور عبد الناصر كله «خارج الصندوق»، الذى أريد لمصر أن تحجز فيه، وكان الإصلاح الزراعى وتأميم قناة السويس وبناء السد العالى والتمصير والتصنيع والتحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كانت تلك كلها مظاهر لخروج مصر من صندوق التخلف، وبناء نهوض جبار، مكن مصر من عبور هزيمتها الفادحة فى 1967 إلى النصر فى حرب 1973، وكانت مصر حتى حرب 1973 رأسا برأس مع كوريا الجنوبية فى التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجى، بينما خرجت مصر من سباق الأمم الحية بعد أن سكتت المدافع، ودخلت فى مرحلة انحطاط تاريخى، نزل بها إلى موضع المنافسة مع بوركينا فاسو على مؤشر الفساد الدولى، وكان الانحطاط المريع قد بدأ فى أعقاب حرب 1973، وبخيانه السياسة لنصر السلاح، وبانفتاح «السداح مداح»، وبدعوة السادات المفتوحة إلى مزاد «النهب العام»، وبقولته الشهيرة بالعامية المصرية «اللى مش هيغتنى دلوقتى مش هيغتنى أبدا»، وبتبريره للتبعية المذلة على طريقة قوله «إن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا»، وبديمقراطية «المفارم» التى كان يفاخر بها، وبوصفه لانتفاضة الشعب فى يناير 1977 بأنها «انتفاضة الحرامية»، وباستقوائه بتيار الإخوان واليمين الدينى لمواجهة معارضة الناصريين واليساريين، وبهروبه إلى طلب الحماية من الأمريكيين والإسرائيليين، بدءا من زيارة القدس، ووصولا إلى ما أسمى بمعاهدة السلام، ولم يقدم السادات على مقامراته مضطرا، ولا بسبب نقص الموارد والمعونات كما قال الرئيس السيسى فى تعقيبه على رأيى، فقد تدفقت على مصر موارد هائلة فى الأربعين سنة الأخيرة، وفى صورة قروض ومعونات عربية وأجنبية ومنح لا ترد، ودورات من خفض الديون، وبلغ مجموع الموارد الممنوحة ما قد يصل إلى 300 مليار دولار، خربت مصر ولم تنقذها، وجعلتها طافية لا تعوم ولا تغرق، وكان ذلك هو هدف المانحين بالضبط، فقد أرادوا بمعوناتهم نوعا من الغواية لتسهيل تفكيك البلد، وتحطيم ما كان قائما من أصولها الإنتاجية، وهو ما بدأ أيام السادات الأخيرة، وتواصل مع مبارك، وإلى أن تبددت قوة مصر الذاتية، وكان كل ذلك سببا فى الثورة المتصلة موجاتها ومعاناتها إلى الآن، فلم يفكر السادات خارج الصندوق، بل فكر خارج التاريخ، وأعاد مصر مع خلفه مبارك إلى صندوق التخلف، أعادها إلى حظيرة النهب العام، وبصورة لم تسبق فى تاريخ مصر الألفى، وأعادها إلى الهيمنة الاستعمارية ( الأمريكية والإسرائيلية هذه المرة )، وحتى فى الموضوع المحدد المباشر لمعاهدة السادات مع إسرائيل، فلم تعد سيناء خالصة للسيادة المصرية، بل عادت إلى مصر على طريقة الذى أعادوا له قدما وأخذوا عينيه، بدا أن سيناء عادت مقابل تضييع مصر، عادت سيناء منزوعة السلاح فى غالبها، وعادت مقابل نزع سيادة القرار فى القاهرة، والرئيس السيسى أول من يدرك هذه الحقيقة المرة، وأول من عمل من أجل تجاوزها، وربما لايصح التنكر لدور السيسى كوزير دفاع، ثم كرئيس منتخب بما يشبه الإجماع الوطنى، فقد عمل بدأب وذكاء لاستعادة سيادة السلاح المصرى فى سيناء، وإلغاء مناطق نزع السلاح وحظر الطيران العسكرى، وتحقق له ولمصر ما أرادت، وفرض واقعا جديدا، جعل الملاحق الأمنية للمعاهدة التى وافق عليها السادات حبرا يجف على ورق، وجعل «تعديل المعاهدة» أمرا مفروضا ومنتهيا، وبذات «التكتيك الوطنى» الذكى، تصرف السيسى مع الهيمنة الأمريكية، فهو لا يبالى بتهديدات قطع المعونة الأمريكية، ويتصرف بخشونة وطنية متزايدة مع الأمريكيين، ويقلص علاقات التبعية الموروثة، ويكسر احتكار السلاح الأمريكى، ويوجه ضربة إلى نفوذ واشنطن بضربة المعلم السيسى الروسية، والتى تزامنت مع مشروع نهوض جديد عنوانه قناة السويس هذه المرة أيضا، وفى استدعاء ظاهر لمثال عبد الناصر التاريخى، وليس لمثال السادات الذى يسىء ذكره إلى معنى زعامة السيسى البازغة . نعم، اختلفت مع الرئيس السيسى لأجله ولأجل مصر، وقد كرر السيسى إلحاحه على أنه لا يطلب من الإعلام دفاعا ولا دعاية لرئيس ولا لنظام، بل يريد من الإعلام دوره الوطنى فى صيانة كيان الدولة المصرية، وقد رأيت أن الرئيس السيسى محق تماما فى هذه النقطة، وإن أردت فى مداخلتى أن أضيف بعدا آخر، فقد قلت إن الدولة المصرية لا خوف عليها من جماعات الإرهاب، وأن مصر محروسة بعناية الرب والشعب وبقوة جيشها العظيم، لكن ما يهدد الدولة المصرية خطر آخر، يأتى وينهش من داخلها هذه المرة، وهو سوس الفساد الذى ينخر، والذى تحول إلى وباء قاتل لحيوية الدولة، ومحطم لمناعتها الذاتية، وقلت لسيادة الرئيس إن جهاز الدولة متعفن ومتحلل وعديم الكفاءة، وأننا نريد حربا بلا هوادة على الفساد فى جهاز الدولة، نريد تطهيرا شاملا، فدولة الفساد تتربص بإنجازات السيسى ومشاريعه الطموحة، وهى السبب الجوهرى فى انهيار الخدمات العامة، وفى صناعة أجواء تشويش تحجز تواصل الرئيس المباشر مع سواد المصريين، ولم يتسع الوقت المتاح لأشرح المزيد، أو أن أعبر عن اعتقادى بأن أداء الحكومة يسيء للرئيس، وقد كان فساد جهاز الدولة موضع حوار دائم مع الرئيس، وكذا تضخمه وانعدام كفاءته، وهو ما يهدد بتقويض خطط الرئيس، وأزعم أننى فهمت شيئا من طريقة تفكير الرئيس بالخصوص، فهو لا يثق بكفاءة جهاز الدولة، ويعول على استدعاء دور أكبر لجهاز الجيش، وعلى طريقة الإنجاز الإعجازى للهيئة الهندسية للقوات المسلحة فى مشروع قناة السويس الجديدة، ثم إن الرئيس لا يغفل عن خطورة الفساد المستشرى، لكنه يفضل العمل الصبور على طريقة الخطوات المتتابعة، بإطلاق يد الرقابة الإدارية والجهاز المركزى للمحاسبات، والبدء بالتطبيق الصارم لقواعد الحد الأقصى للأجور فى المؤسسات العامة، وهو ما جرى بالفعل، وإن كنت أخشى أن طريقة الخطوة خطوة قد يتباطأ أثرها، وقد يتكيف معها جهاز الدولة الفاسد، وقد تعمل البيروقراطية المتمرسة على احتواء آثارها فى وقت لاحق، وبطريقة مدمرة لنوايا الرئيس . وكان طبيعيا أن تتطرق مداخلتى القصيرة إلى وضع مليارديرات النهب العام، فلا يذكر السادات بعد حرب 1973، ولا يذكر مبارك بعهده البليد الراكد، ولا تذكر البيروقراطية الفاسدة، لا يذكر كل هؤلاء إلا مع استدعاء القرين، فالمال الفاسد ابن السياسة الفاسدة وصنو البيروقراطية اللصوصية، والرئيس السيسى يعرف أكثر مما نعرف، وبحكم مواقعه السابقة فى قيادة المخابرات الحربية، وفى قيادة الجيش، ثم بحكم موقعه الحالى فى قيادة الدولة، وتحت بصره كل الملفات وتقارير الرقابة المتراكمة، الرئيس السيسى يعرف بالدقة حقيقة ثروات المليارديرات، ويعرف أن مشاريعه الوطنية الكبرى تحتاج إلى موارد هائلة، وقد قدرها هو نفسه بما يزيد على تريليون جنيه مصرى، وأطلق مبادرة «صندوق تحيا مصر» لجذب الموارد المطلوبة، وأصر مرات على توفير مائة مليار جنيه بصورة فورية، ومن خارج الموازنة العامة المنهكة، والتى يعمل على خفض عجزها المزمن، وعلى التشغيل الاقتصادى للهيئات والخدمات العامة، وبما قد يزيد من أعباء الفقراء والطبقات الوسطى، والذين تحملوا ويتحملون، ودفعوا فواتيرهم كاملة، ودون أن تدفع طبقة مليارديرات المال الحرام فواتيرها، وهذا ما قصدته حرفا ونصا، حين قلت للرئيس إن الزعامة إنجاز وانحياز، وأن رغبة الرئيس فى الإنجاز ظاهرة وجدية وملهمة، لكننا نريد انحيازا يكافئ الرغبة فى الإنجاز، نريد انحيازا مع الفقراء والطبقات الوسطى، ونريد انحيازا ضد طبقة اللصوص، والذين راكموا الثروات التريليونية، وقلت للرئيس إن الرأى العام يراقب بقلق وتحفز، وأن الرئيس أعطى وقتا طويلا لمناشدة رجال الأهوال أو رجال الأعمال، وبلا أثر يذكر إلى الآن، وأن الرئيس نفسه ضاق بتلكؤ السارقين القادرين، وأطلق فى خطاب قناة السويس إنذاره الأخير على طريقة «هتدفعوا يعنى هتدفعوا»، وهو الإنذار الذى ننتظر بفارغ الصبر ساعة تنفيذه، ورد حقوق مصر المنهوبة، فالزعامة إنجاز وانحياز، والانحياز هو الذى يصنع للإنجاز وهجه وإلهامه .