خرج زين العابدين بن علي الحسين يوماً من المسجد فسبه رجل فحاول البعض الفتك به فقال : دعوة, ثم أقبل عليه قائلاً : ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر,ألك حاجة نعينك عليها,فاستحيا الراجل فألقي إليه زين العابدين خميصة كانت عليه (مثل الجبة) وأمر له بألف درهم,فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول:"إنك من أولاد الأنبياء". وكان زين العابدين السجاد إذا نقده أو انتقصه أحد قال "اللهم إن كان صادقاً فاغفر لي ,وإن كان كاذباً فاغفر له". بهذه الأخلاق العظيمة والحلم الجميل والأدب الراقي ساد زين العابدين الدنيا بأسرها,فقد أسرتني أخلاق هذا الرجل العظيم من آل النبوة,حتي توقفت طويلاً أمام نمط حياة هذا العملاق العظيم الذي يدل علي مقدار السمو والنبل الأخلاقي الذي يتميز به ومقدار الحب للناس جميعاً بلا استثناء,لقد شعرت وأنا أتابع تاريخه المرة تلو الأخرى أن هذا الرجل لا يكره أحداً علي الإطلاق حتي الذين أذوه رفض أن يدعو عليهم كما رفض أن يدعو علي الذين قتلوا أباه الحسين سيد الشهداء في مجزرة مؤلمة كان هو أحد شهودها ,لقد بلغ من درجة السمو مبلغاً ندر أن يبلغه أحد. إنني أشعر بعمق القرب والوصال بين أخلاق زين العابدين السجاد وأخلاق جده الرسول (صلي الله عليه وسلم) ذلك النبي العظيم الذي ضرب أروع الأمثلة في العفو و الصفح الجميل , كما أشعر بعمق القرب الروحي والأخلاقي بينه وبين سيدنا يوسف (عليه السلام) وهو رمز أخر من رموز الإحسان والفضل. كان السجاد إذا خرج من بيته دعا ربه قائلاً : "اللهم إني أتصدق اليوم بعرضي علي من استحله" أي حلم هذا ,وأي عفو هذا ,وأي رحمة تلك ,وهل يمكن أن يصدر هذا العفو الكبير والحب الجارف للناس جميعاً من رجل رأي مذبحة كربلاء الشنيعة ,رأى أباه الحسين يقتل غريباً شريداً لا يجد له مأوى,رأى آل البيت يقتلون عن آخرهم ,ونساؤهم تسجن و تساق كالسبايا لبيت يزيد ليبت ويفصل مع غيره في أمرهم. لقد كان زين العابدين وقتها مريضاً لم يحضر معركة ومحنة كربلاء كمقاتل,ولكنه عاشها وخبر مآسيها لحظة بلحظة ,كان عمره أثناء المعركة قد تجاوز العشرين عاماً,ولكنه مرض مرضاً شديداً مقعداً قبل المعركة وأثناءها وبعدها ,حتي أسر مع النساء ثم أطلق سراحه ورغم ذلك الكرب الكبير لم يدع علي أحد أو يحقد علي أحد,ولم يدع علي يزيد أو بني أمية ,إنه كان يدعو كل يوم نيابة عن العاصي الذي لم يتب عن معصيته وصاحب النعمة الذي لم يشكرها,والإنسان الذي غفل عن ذكر ربه فإذا هو يذكر الله بدلاً منه ,ما هذا الحب للناس الذي ملأ قلب هذا الإنسان الطاهر؟! إنه من فيض حبه لله المحبوب الأعظم الذي إن أحببته أحببت خلقه حتي وإن عصوا الله فيك. آه يا زين العابدين ,إنه من نسل طيب طاهر فأبوه الحسين بن علي وأمه سلافة بنت يزد جرد ملك الفرس,وجده علي بن أبي طالب وجدته فاطمة بنت محمد (صلي الله عليه وسلم) ورسول الله خاتم الأنبياء جده لأمه ,أما جده لأبيه فهو أبو طالب المدافع الأعظم عن الرسول الكريم حتي وإن لم يسلم ,إنه سليل الكرم والجود والتضحية والبذل والعفو والنبل . لقد صدق الفرذرق الشاعر العظيم وهو يقول عنه: هذا بن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم لقد كان زين العابدين فريداً في عبادته وكلماته وحكمه وكرمه وجوده فقد سقط إبريق الوضوء من جاريةً وهي تصب الماء عليه فشج وجه "أي جرحه بشدة" فقالت له :" وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ " فقال:كظمت غيظي , فقالت : "وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ " فقال: عفا الله عنك ,فقالت " وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" فقال : أنت حرة لوجه الله . روى ابن إسحاق أعظم مؤرخي السيرة أن كان هناك أناس من يتامى وأرامل المدينة يعيشون علي صدقات المحسنين دون أن يعرفوهم ,فلما مات علي زين العابدين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل دون أن يعرفه أحد. ولما مات السجاد وجدوا في ظهره و أكتافه أثر حمل الجراب إلي بيوت الأرامل والمساكين بالليل. ودخل السجاد يوماً علي محمد بن أسامة بن زيد يعوده في مرضه فبكى ابن أسامة فقال له : ما يبكيك ,قال علي دين ,قال: كم هو؟ , قال: خمسة عشر ألف دينار , قال السجاد : هي علي . وكان السجاد يقول في مثل هذا المعني : " إني لأستحي من الله أن أرى الأخ من أخواني فأسال الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا , فإذا كان يوم القيامة قيل له : إذا كان الجنة بيدك كنت بها أبخل وأبخل ". رحم الله آل البيت أجمعين , ورضي عنهم وجمعنا بهم في عليين , ورزقنا حسن الإقتداء بهم , وألا نكون ممن يحبهم ولا يقتدي بهم أو يحبهم دون أن يصنع صنيعهم .