وتخيلت أن الفرصة باتت مواتية للعودة إلى التحكم، وحصار الرئيس عبد الفتاح السيسى، وتزوير صورته، و«تفليل» الرجل، وتقديمه فى وضع مبارك الأصغر سنا، والذى يبرئ ساحة مبارك المخلوع، ويخرج نجليه وجماعته من السجون، وينتقم لهم من الثورة وأهلها وشبابها، وكلها تطورات عادت بالضرر البالغ على الصورة السياسية للسيسى، والذى لم يقم نظامه بعد، ولا يزال كرئيس جديد يحكم برجال النظام القديم . وقد بدت الخطوات الإيجابية الرمزية كهجوم معاكس من الرئيس السيسى، والذى تقدم إلى السلطة بعد 30 يونيو، لكنه يدرك أنه لولا 25 يناير ما كانت 30 يونيو، وأن خلط أوراقه مع أوراق رجال مبارك يهدم صورته، ويسىء إليه، ويشوش على وعود الأمل التى يحملها، ويزيد من ضراوة حرب الاستنزاف لشعبيته الظاهرة، وهو ما يفسر سعى السيسى لتشكيل صورة معاكسة، تدمج فى كل عبارة ينطقها بين 25 يناير و30 يونيو، وترد الاعتبار لأولوية الثورة الأم فى 25 يناير 2011، والتى كانت 30 يونيو موجتها الأعظم، وهو ما درج عليه الرئيس فى خطاباته المصرية والدولية، وفى أحاديثه المتصلة عن تمكين الشباب، وفى إشاراته المتواترة عن عقم الجهاز الإدارى للدولة، وعن تضخمه وفساده وانعدام كفاءته، وعن البلد الذى سرق فى ثلاثين سنة من حكم المخلوع، وعن الخراب الذى كان سببه «مبارك منه لله»، والذى كان عليه أن يرحل قبل خلعه بعشرين سنة، وكلها وسواها تعبيرات دأب عليها الرئيس السيسى، وأراد بها إقامة حاجز يفصله عن مبارك وجماعته، ورد الاعتبار للثورة التى ما كان ليصبح رئيسا بدونها، والتعهد بإنهاء التجاوزات التى تقيم العداوة بين الرئاسة وشباب الثورة . ولا شك عندى فى الذكاء الغريزى للرئيس السيسى، ولا فى تجرده ونزاهته وكفاءته، ولا فى رغبته ومقدرته على إدراك خطورة ما جرى ويجرى، واقتناعه بتصحيح أخطاء وخطايا تراكمت على مدى أربع سنوات بعد الثورة، وشاركت بها كل السلطات التى خلفت المخلوع، من مجلس طنطاوى وعنان، إلى حكم الإخوان، ثم إلى حكومات ما بعد 30 يونيو، والتى خلقت وضعا هجينا، تبدو فيه الثورة المضادة كأنها لاتزال تحكم، تدعى الاعتراف بواقعة الثورة من طرف لسانها، لكنها تتنكر لاستحقاقات الثورة فى السلوك والسياسة، فلم يجر ما كان ينبغى من أول يوم بعد ذهاب مبارك، وهو ما نبهنا إليه فى وقته وفى حينه، فالثورة أى ثورة هى الثورة، الثورة تعنى القطيعة التامة مع ما كان قبلها، ليس بالخطابات الإنشائية، بل بالإجراءات الفورية الحازمة، بمصادرة الأموال والأصول المنهوبة، وبالعزل السياسى الشامل، وبالمحاكمات الفورية الجدية، ولم يجر شىء من ذلك، لا فى أيام مجلس المشير طنطاوى، ولا فى أيام حكم الإخوان، ولا إلى اللحظة التى نعيشها، وهو ما يفسر المفارقات العجيبة الصادمة التى تتوالى، ومن نوع تبرئة مبارك ونجليه التى تمت أخيرا، وقد توقعناها من أول يوم، تماما كما توقعنا تبرئة رجال مبارك كزكريا عزمى وصفوت الشريف وفتحى سرور، وقد تمت كلها أيام حكم الإخوان، فلم تكن محاكماتهم إلا عملا صوريا، تواطأ فيه كل من حكم، ولم يكن من شىء خاف، فالمحاكمات العادية بعد أى ثورة هى خيانة أكيدة للثورة، والسبب ظاهر بسيط، فالثورة ليست فعل عادة، الثورة عمل استثنائى، وخروج عن القوانين العادية المعمول بها، والثورة طبقا للقوانين العادية جريمة قلب لنظام الحكم، وهو ما يفسر النهاية الطبيعية للمحاكمات العادية بعد الثورة، فقد انتهت كما كان متوقعا بالبداهة إلى تبرئة الظالمين النهابين، وإلى ما يشبه إدانة الثورة نفسها، وكأن الثورة قامت فقط لتبديل صور ووجوه الحاكمين، أو لإصلاح وترميم النظام القديم الذى شاخت واعتلت شخوصه، ولم يكن فى ذلك غفلة من الذين انتهى إليهم الحكم والسلطان بعد الثورة، فقد كانوا يعرفون ما نعرف، وما حذرنا منه مبكرا جدا، وطالبنا بإقامة محاكمات جدية بطابع ثورى، أى محاكمات على أساس قانون خاص، يديرها قضاء طبيعى، وهو ما جرى رفضه من فقهاء الفلول وفقهاء الإخوان معا، بل جرى التواطؤ على منع العزل السياسى لفلول جماعة مبارك، بتعمد الصياغات الرديئة المثقوبة لنص العزل الجزئى فى دستور الإخوان، وقبلها بالتعطيل الكلى لاستخدام قانون إفساد الحياة السياسية، والذى أصدره مجلس طنطاوى فى نوفمبر 2011، تحت ضغط الثائرين فى الميادين، وتقررت بموجبه عقوبات عزل وظيفى وسياسى لمدة خمس سنوات على الأقل، وقد كان القانون ولا يزال ساريا، تماما كأحكام القانون رقم 247 لسنة 1956، والذى يحمل عنوان «محاكمة رئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمى»، والذى رفض برلمان الأكثرية الإخوانية تفعيله لمحاكمة مبارك بصورة جدية، وهكذا جرت إماتة القوانين ذات النفس الثورى، فيما انتهت المحاكمات بالقوانين العادية إلى نوع من تكريم الجناة، وقتل شهداء الثورة مرتين، الأولى يوم قتلهم، والثانية يوم تبرئة الجلادين، ثم جاءت الثالثة «تابتة» كما نقول فى العامية المصرية، وهى التذرع بالتبرئة القضائية الصورية لقتل وإدانة الثورة نفسها، فلم تتم إدانة أحد من النظام القديم، ولم يسترد الشعب المصرى مليما واحدا من الأصول المنهوبة، ثم عاد الذين سرقونا إلى المنصات الأمامية، عادوا للتسابق على تمثيلنا فى البرلمان المقبل، وبالنظام الفردى المهدر بطبيعته لأغلبية أصوات الناخبين، وكأن الثورة لم تقم من أصله . هذه هى الصورة التى لاتجعل الخطوات الرمزية كافية، فقد تعبر الاحتفالات والإجازات عن النوايا الطيبة للرئيس، لكن النوايا الطيبة لا ترد وحدها الاعتبار للثورة اليتيمة، والمطلوب بالضبط : شفع الأقوال بالأفعال، المطلوب بالضبط : تحطيم تحالف مماليك البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب العام، فالبلد يحتاج إلى «كنسة»، والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولا بد من تصفية مجتمع الواحد بالمئة، المجتمع الذى يملك فيه واحد بالمئة من السكان نصف الثروة الوطنية، فالثورة فى كلمة تعنى «العدالة»، والإسلام فى كلمة يعنى «العدالة»، وقد نتفهم عسر تنفيذ عملية شاملة لإعادة توزيع الثروة فى هذه اللحظة، فالدولة تعانى من جفاف الموارد والموازنة المنهكة، والبديل المتاح : توزيع الشعور بالعدالة، فقد تحمل الفقراء والطبقات الوسطى فواتيرهم كاملة، فيما يظل أغنياء النهب فى الحفظ والصون، ويتردد الرئيس فى اتخاذ قرار باستعادة ما سلبوه، ويجرب معهم أساليب استمالة فشلت فى تجربة «صندوق تحيا مصر»، ثم انتقل إلى ما يشبه الإنذار على طريقة قوله الشهير «هتدفعوا يعنى هتدفعوا»، ثم لم يدفعوا، ودون أن يحسم الرئيس قراره النهائى، وهو يقدر عليه، فلديه دعم شعبى واسع لا يزال ينتظر، ولديه دعم حاسم من قلب الدولة الصلب فى الجيش وجهازه الخدمى والإنتاجى، ولديه تجربة ملهمة فى التمويل الشعبى الأسطورى لمشروع قناة السويس، ولديه ملفات السرقات كلها، ويستطيع أن يضرب ضربته، وأن يتخذ قراره المؤجل، وأن يرد الاعتبار للثورة بصورة فعلية ناجزة، وليس على طريقة إقامة احتفالات أو تقرير إجازات أو إصدار قرارات عفو رئاسى عن محكومين بقوانين سيئة السمعة، وكلها أشياء لا بأس بها، لكنها لا تنتصر بالضرورة للثورة اليتيمة، ولا تحبط عمليات الاغتيال المعنوى للرئيس، وحروب استنزاف شعبيته، وتزوير صورته، وجعله بالتزييف فى مقام مبارك الأكثر شبابا .