يشكل "الانتحال" إشكالية ثقافية عربية وغربية فيما يبدو أن "مسلسل الاتهام بالانتحال"قد يصيب مثقفين ومفكرين بارزين أحيانا بضرر لا يستطيعون دفعه أو الرد على صاحب الاتهام لأنهم غادروا هذه الحياة الدنيا وانتقلوا للرفيق الأعلى مثل المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي قضى منذ أكثر من ستة أعوام. ففي جريدة "الحياة" اللندنية وتحت عنوان :"عندما يسرق المفكر...محمد عابد الجابري أنموذجا" استهل الكاتب أحمد الحناكي طرحا له مؤخرا بالقول :"لكي لا يذهب فكر القاريء بعيدا فالمقصود بالسرقة أعلاه الاقتباس من باحث أو مفكر آخر من دون ذكر اسمه وهو ما حدث عندما نشر المفكر المغربي الراحل الشهير محمد عابد الجابري مقالات في صحيفة الشرق الأوسط عن محنة احمد بن حنبل من دون الرجوع للمصدر الأصلي وهو المفكر الأردني-الفلسطيني الشهير فهمي جدعان". وأضاف أحمد الحناكي قائلا :"الطريف أن جدعان لم يكن يعلم بالاقتباس إذا لطفنا كلمة السرقة إلا بعد أن أجرى معه الباحث القدير علي العميم حوارا لصحيفة الشرق الأوسط آنذاك وأثناء الحوار سأله عن مقالات الجابري بهذا الخصوص فقال إنه لم يطلع عليها وعندما بادر العميم ووفرها له وقرأها جدعان صدم وذهل وغضب من الجابري واتهمه علانية بالسرقة عندما قال :إنه اتبعني حذو القذة بالقذة". ومضى الكاتب احمد الحناكي يتساءل :"لنعود الى الجابري ونتساءل أكان المقصود سرقة أم نوعا من الاستهتار والكسل ؟ الواقع أن الأمر غامض إلا أن العوامل جميعها تكون مشتركة وقد سأله محمد رضا نصر الله في برنامجه التلفازي الشهير 60 دقيقة سياسية عن ذلك فأجاب مرتبكا إن له صلة وثيقة بجدعان وان عدم توافر المصادر في ذلك الوقت حدا به إلى الأخذ من كتاب جدعان". ومع ذلك يأخذ الكاتب احمد الحناكي على المفكر الراحل محمد عابد الجابري انه لم يذكر اسم فهمي جدعان كمصدر له فيما يضيف قائلا :"المثير في الموضوع أن جدعان نفسه لا يشكك أبدا في قدرة الجابري العلمية فهو يعرف حجمه وأهميته في الفكر العربي لكن تظل في النفس غصة". وعلى أية حال-كما يقول الحناكي- فإن الجابري "صحح خطيئته لاحقا وذكر اسم جدعان في مصادره معتذرا بأنه لجأ لبحث جدعان لثقته به كباحث ولضيق الوقت مما حدا بجدعان إلى رد التحية بمثلها فحذف اتهامه السابق مع الإشارة إليه في هامش كتابه". ويبدو أن مفكرين وباحثين آخرين تدخلوا في هذه المسألة ليدلوا بدلوهم كما يشير الكاتب احمد الحناكي الى المفكر اللبناني رضوان السيد الذي اعتبر ان "الجابري استند الى النصوص التي جمعها جدعان كلها ثم توصل إلى استنتاجات اكثرها من عند جدعان ولكن في الوقت الذي يعرضها جدعان بشكل تحليلي تركيبي وبنائي إشكالي يأتي الجابري بتبسيطيته وشعبوانيته فيجعلها بمثابة البديهيات التي يستغرب أن أحدا لم ينتبه إليها وهو قد تنبه إليها". والرأي عند رضوان السيد أن "الجابري أفاد من كتاب جدعان بنسبة 80 في المائة من النصوص ومن الاستنتاجات فيما رأى الكاتب احمد الحناكي أن "ما فعله الجابري كان واضحا وتراجع عنه لاحقا". وتعيد هذه الضجة للأذهان ما كابده منذ أعوام قليلة الكاتب والصحفى الشهير فريد زكريا مع محنة" ضبطه متلبسا بالانتحال" فيما يعد هذا الكاتب الأمريكى والمنحدر من اصل هندى نموذجا "للكاتب النجم بمقاييس وسائل الإعلام أو"الميديا الغربية ". ولم يكن فريد زكريا أول من هوى فى هذه الخطيئة، ويبدو أنه لن يكون الأخير فى مسلسل متصل الحلقات منذ زمن بعيد وطال أسماء كبيرة فى مجالات متعددة فى الغرب والشرق معا, وإذا كانت شبكة الانترنت بما تحتويه من معلومات غزيرة وسريعة تسهل الانتحال كما يرى البعض فإنها فى الوقت ذاته تسهل فضح القائمين بالانتحال. ومحنة هذا الكاتب الذى اعترف علانية بانتحاله مقاطع من طرح لكاتبة وأكاديمية أمريكية اقترنت بسلسلة من العقوبات السريعة رغم اعتذاره عما فعله وهى محنة تظهر الفارق الجوهرى بين خطيئة السطو على أفكار الآخرين أو كلماتهم وعباراتهم دون أى إشارة لذلك وبين التفاعل والبحث الحميد الذى يتيح إمكانية عرض هذه الأفكار والكلمات مع الإشارة الصريحة والواضحة لصاحب الأفكار والكلمات. وفريد زكريا الهندى الأصل يوصف بأنه من أشهر الكتاب والصحفيين الأمريكيين ودرس فى جامعتى يال وهارفارد وهو مؤلف لعدة كتب حققت مبيعات عالية كما انه كاتب ومحلل ومعلق "مطلوب" فى الصحافة المكتوبة والشبكات التلفزيونية. وكان فريد زكريا قد رشح كمستشار للشؤون الخارجية للرئيس الأمريكى باراك اوباما الذى يقال انه من المعجبين بكتاباته وطروحاته وتعليقاته بل إن تقارير كانت قد ذهبت إلى أن زكريا الذى لم يشغل هذا المنصب ظهر اسمه في فترة ما كمرشح محتمل لشغل منصب وزير خارجية الولاياتالمتحدة. وهكذا فان فريد زكريا يبدو أنه صاحب طموحات سياسية لا صحفية فحسب بل ويوصف بأن آراءه تلقى كل الاهتمام فى أروقة صانعى القرارات السياسية الأمريكية. وكانت مجلة "تايم" الأمريكية المرموقة قد أعلنت في غمار اتهامات الانتحال لزكريا عن تعليق مقالاته بعد كشف سرقته لعمل كاتبة أخرى بأحد مقالاته فيما حذت شبكة "سى إن إن " التلفزيونية حذو التايم وقررت تعليق برنامجه الأسبوعى غير انه عاد بعد فترة للمجلة والشبكة التلفزيونية معا. وبدأت القصة –حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز-من خلال موقع "نيوز باسترز" الالكترونى الذى رصد تشابهات كبيرة بين مقال لفريد زكريا ومقال لكاتبة وأكاديمية أمريكية فيما لم تقصر المواقع المنتشرة على شبكة الانترنت فى نقل ما ذكره هذا الموقع الإخباري لتتحول القصة لفضيحة مدوية عبر الشبكة العنكبوتية. واعتبر الكاتب والناقد الأمريكى ديفيد زوارويك ان " فريد زكريا يستحق العقاب الحاسم والسريع لأن الانتحال بات خطيئة مهلكة فى عالم الصحافة وكأنها لعنة لاخلاص منها" فيما اتخذ هذا الكاتب والناقد موقفا صارما حيال زكريا بقوله :"لا يعنينى إن كان الشخص الذى قام بالانتحال ذكيا أو غبيا وإنما ما يهمنى ضرورة عقاب كل من يسطو على أفكار الآخرين أو كلماتهم". ونسبت مصادر إعلامية أمريكية لفريد زكريا قوله :"بعض الصحفيين أشاروا إلى أوجه تشابه بين أجزاء من مقال لى حول قضية السيطرة على السلاح الذى نشر فى مجلة تايم وبين أجزاء من مقال لأستاذة التاريخ بجامعة هارفارد جيل ليبور كانت مجلة ذى نيويوركر قد نشرتها. واضاف زكريا:"كانوا على حق فقد ارتكبت خطأ جسيما وأتحمل وحدى المسؤولية كاملة واعتذر لأستاذة التاريخ جيل ليبور..اعتذر عن هذا الخطأ لمجلة تايم كما اعتذر لقرائى". وكانت متحدثة باسم مجلة تايم قد اعتبرت أن ما حدث من فريد زكريا "يعد انتهاكا للمعايير الخاصة بكتاب الأعمدة فى المجلة" موضحة أن هذه المعايير تعنى "ألا يكون ما يطرحه الكتاب فى أعمدتهم واقعيا فحسب وإنما أيضا أصيلا وبكلمتهم وتعبيراتهم هم ". ومع ذلك فقد ألمحت مجلة تايم حينئذ إلى أنها لن توقف زكريا للأبد حيث أعلنت أنها "تقبل اعتذار فريد زكريا غير أنها ستعلق مقالاته لمدة شهر واحد ويتم النظر خلال هذا الشهر فى الإجراءات الواجب اتباعها " بينما أوضحت صحيفة "واشنطن بوست" التى تنشر مقالا اسبوعيا لزكريا ان هيئة تحريرها تبحث مستقبل العمل معه. وفريد زكريا شغل من قبل منصب رئيس تحرير مجلة "فورين افيرز" الرصينة والمعروفة فى مجال الشؤون الخارجية كما تولى رئاسة تحرير الطبعة الدولية لمجلة نيوزويك قبل أن يتحول لكاتب رئيس فى مجلة تايم التى حمل غلافها فى مطلع عام 2012 عناوين مقابلة أجراها زكريا مع الرئيس الأمريكى باراك اوباما. وتكشف نظرة سريعة للتعليقات على خبر وقوع فريد زكريا فى خطيئة الانتحال والتى نشرتها صحف ومواقع الكترونية عن شعور البعض بالمرارة حيال ما اعتبروه دورا تحريضيا لفريد زكريا فى الحرب الأمريكية على العراق فيما استعاد البعض فى العالم العربى وقائع سرقات أدبية وبحثية أكاديمية يندى لها الجبين واعتبر فريق آخر أن القضية أخلاقية فى المقام الأول. وإذا كان الكاتب والناقد ديفيد زوارويك قد ذهب فى سياق فضيحة زكريا إلى أنه "نظرا لعدم وجود أخلاق وقيم فى الصحافة اليوم فإن الانتحال قد استشرى " فإن قضية الانتحال فى الواقع قديمة وليست أبدا وليدة اليوم ثم أنها تشمل مجالات متعددة من بينها الموسيقى والرسائل الجامعية والأبحاث العلمية والأوراق الأكاديمية كما شهدت وتشهد قاعات المحاكم دعاوى واتهامات بالانتحال . بل ‘ن اتهامات الانتحال طالت شخصيات فى قامة المفكر عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ الشهير والذى يوصف بأنه المؤسس الحقيقى لعلم الاجتماع حيث سعى الدكتور محمود اسماعيل استاذ التاريخ الإسلامى عبر دراسة مستفيضة لإثبات أن "ابن خلدون قد قام بانتحال نظريات جماعة أخوان الصفا" فى المقدمة الخلدونية الشهيرة والتى تعد من أبرز أعمال هذا المفكر والمؤرخ الكبير. وفى كتابه بعنوان :"نهاية أسطورة..نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل أخوان الصفا" ثم فى كتاب آخر بعنوان :"هل انتهت أسطورة ابن خلدون؟"-بدا الدكتور محمود إسماعيل منهمكا فى محاولاته لإثبات أن عبد الرحمن بن خلدون مارس السطو على أفكار ونظريات جماعة أخوان الصفا وهى جماعة فكرية- فلسفية متعددة الاهتمامات ظهرت فى القرن الثالث الهجرى بالبصرة ساعية للتوفيق بين العقيدة والأفكار الفلسفية فيما جاءت جهودها الفكرية الفلسفية الأساسية فى 52 رسالة عرفت برسائل أخوان الصفا. وإذا كان الدكتور محمود اسماعيل معنى بتصحيح التاريخ العربى الإسلامي فالمشكلة فى هذا النوع من الاتهامات أن المدعى عليه ليس بمقدوره الدفاع عن نفسه لأنه ببساطة غادر الحياة الدنيا منذ قرون طويلة ثم أن اتهامات من هذا النوع لقامة كبيرة مثل ابن خلدون أثارت غبار معارك ثقافية فى المشرق والمغرب العربى. إشكالية الانتحال قديمة إذن وتثير تداعيات عديدة بين الاتهامات والاتهامات المضادة ولا تخلو من جوانب نفسية تتجسد فى محاولات لتحطيم أسماء كبيرة أو إثارة شكوك عميقة حولها مثلما فعل الكاتب والناقد ديفيد زوارويك مع الكاتب النجم فريد زكريا. لكن هل يصل الأمر للحد الذى ذهب إليه ديفيد زوارويك وهو أن "كل من يسطو على أفكار الآخرين أو كلماتهم يتعين أن يقبل انتهاء دوره أو حياته كمصدر للخطاب الفكرى أو الأخلاقى "؟..على أي حال كان الحكيم المصرى القديم أمنوبى محقا عندما قال فى تعاليم أسهمت فى بناء الضمير الإنساني منذ فجر التاريخ :"لا تستعمل قلمك فى الباطل ..لا تغمس قلما فى المداد لتفعل ضررا.. ولا تؤلف لنفسك وثائق مزيفة"..ورغم مقولة هذا الحكيم المصرى القديم وكل التحذيرات التى توالت على مر الزمن لافتة لخطورة مسألة الانتحال فان خطيئة الانتحال وهي خطيئة ثقافية وأخلاقية معا مازالت مستمرة كما أنها يمكن أحيانا أن تصيب أبرياء !.