جاء انتصار جبهة الإنقاذ الكاسح في الانتخابات البلدية التي جرت في يونيو 1990 ليقطع أن الصدام في الطريق قريبً جداً ، حيث فازت الجبهة بنسبة 55 % في ظل تراجع عنيف لجبهة التحرير الوطني وباقي الأحزاب الأخرى ، واستكملت الجبهة الصورة بمحاولات محمومة مستميتة لقطف ثمار النصر الذي حصدته الجبهة انتخابياً وبسرعة قياسية ، إلي الحد الذي اعتبره خصومها نوعا من الإقصاء الفاشي . و ظلت العلاقة هادئة نوعا ما بين الجبهة وقمة السلطة متمثلة في الشاذلي بن جديد ، وإن لم تخل من محاولات بين الطرفين تسعي لجر الأخر ناحيته ، واستمر ذلك نحو عام حتى تحول الأمر إلي صراع علني بين الطرفين ، وأعلنت بعد ذلك الجبهة تغيير إستراتيجياتها نحو تغيير قمة السلطة ، وتصاعدت التصريحات بطريقة لاهثة مروعة بين الطرفين ، وأصبحت المعركة بين الرئيس والجبهة معركة حياة وموت ، وتمزق ما يسمى بشعرة معاوية تماما إلي غير رجعة ، وتحول الهدف الرئيسى إلي إسقاط الشاذلي الذي لم يعد أخاً في نظر زعيم الجبهة عباس مدني ، بل أصبح مسماراً مزروعاً في كعب الجزائر يكفي اقتلاعه لكي تعود الحياة إلي طبيعتها - علي حد قوله - ؛ ولم يكن أمام الشاذلي بعده إلا التلويح باللجوء إلي الجيش الجزائري لحسم الأمر المضطرب بهذا الخيار المُر ، وخصوصاً بعد أن أعلنت الجبهة العصيان المدني ، و رفعت شعار ( لا عمل ولا دراسة حتى سقوط الرئاسة ) . اندفعت الأمور إلي الهاوية بعد إعلان عباس مدني في التظاهرة الكبرى يوم 4 يونيو 1991 قائلاً : ( إذا تحركت الدبابات فإن الشعب سوف يلتهمها ) ؛ وبالفعل تحركت الدبابات . وأي متابع للشأن الجزائري كان علي يقين من حدوث الصدام المروع بعد نتيجة الدور الأول للانتخابات التي شهدت الاكتساح الهائل لجبهة الإنقاذ ، وما سبقه وتلاه من تحرشات بين الرئاسة ومن ورائها الجيش وبين الجبهة وكل التيارات الإسلامية المتحالفة معها . المثير أن الشاذلي بن جديد كان أول من دفع الثمن فور نزول الدبابات للشوارع ، فقد كانت خارطة الطريق التي رسمها الجيش تقضي بعزله عن منصبه لتهاونه في الحفاظ علي الهوية المدنية والحريات العامة التى هددتها جبهة الإنقاذ ، وقرر الجيش تولية محمد بوضياف الملقب بقديس الثورة الجزائرية ، و أحد رموزها التاريخية ، وذلك بعد غياب عن الجزائر لمدة ثلاثين عاماً قضاها في منفاه الاختياري بفرنسا ؛ وقد كان بوضياف أحد المعارضين الشرسين لجبهة الإنقاذ منذ خطواتها الأولي في مضمار السياسة الجزائرية ، وكان يصدح بان جبهة الإنقاذ ليست سوي مجموعة خارجة علي القانون ، وأنه لا يجوز السماح بنشوء أحزاب علي أساس ديني ، فالدين ملك الجميع ؛ كما كان بوضياف شديد العداء للأحزاب العرقية كالأحزاب التي تنطلق من أرضية الهوية الامازيغية .. وكان دوما ينادي أن تكون الأحزاب بأساس من البرامج والأهداف لا الدين والأعراق . المهم أن بوضياف لم يمكث في سدة الحكم إلا 166 يوما ، حيث اغتاله أحد حراسه المدعو الملازم مبارك بومعرافي ، وستكشف التحقيقات انتماءه إلى لجبهة الإنقاذ بما ينذر بدخول البلاد في دوامة العنف وبحور الدماء ... وبالفعل دخلت الجزائر بسرعة مروعة لأتون الحرب الأهلية ، وضربت البلاد حالة مفزعة من العنف والاقتتال وكل طرف يتهم الآخر بقيادة ركب الإرهاب المسلح . وشهد المسرح الجزائري عام 1994 انسحاب الجنرال القوي خالد نزار وزير الدفاع بعد أن أتم مهمته الرئيسية بإقصاء التيار الإسلامي عن سدة الحكم ، والذي سيتم ملاحقته حتي وقتنا الراهن بدعاوي قضائية دولية بتهم التورُّط في الاختفاء القسري لجزائريين خلال الأزمة الأمنية العنيفة التي شهدتها الجزائر . ثم جاء الرئيس الجديد الأمين زروال فانشغل بفتح قنوات اتصال مع جبهة الإنقاذ لوقف حمام الدم إلا أن هذه المحاولات فشلت أو أفشلت في تقديري ، و انتهت هذه المفاوضات بوقفها من جانب التيار الإسلامي علي خلفية اتهامهم لزروال والحكومة الجزائرية بارتكاب مذبحتي سجن الفراوقية وسجن زركاشي ، وسرعان ما ظهرت علي الساحة الجزائرية تنظيمات مسلحة ومدربة بشكل شبه عسكري كالجيش الإسلامي للإنقاذ وعدد من الجماعات الإسلامية المسلحة . وازدحمت الساحة بتنظيمات وتشكيلات مختلفة ، ولم تكتفِ الحكومة الجزائرية بمواجهتهم عسكرياً لكن استطاعت بدهاء كبير أن توقع بينهم الفرقة وتكشف أوارق مفاوضتها السرية مع عدد منهم ، والأهم اللعب علي تناقضتهم الفكرية الكبيرة الواسعة . وتمزقت وشائج التيار الإسلامي كأظهر ما تكون بتوزيع بيان تنظيم التكفير والهجرة الجزائري بزعامة أحمد أبو عمرة المعنون : ( الحجج الجلية في كفر أتباع الجبهة الإسلامية وكل من زاول الانتخابات ودخل في دين الديمقراطية )! وأعتبر هذا التنظيم الشيخ علي بلحاج بالاسم رجلاً منافقا كذوباً .. وبتحليل طبيعة من انخرط في صفوف التيارات الإسلامية التي مارست العنف علي الساحة وقتئذ تجدها نشأت وترعرعت في الرحم الأفغانية ، وعادت إلي الجزائر والقناعة تملؤها أن العلمانية الجزائرية في حقيقتها مشروعُ تغريبيُ صليبيُ مُعادٍ للإسلام ، ولقي هذا الطرح للأسف قبولاً كبيراً لدى البسطاء والمُهمشين ، وتطورت مسيرة هذه المليشيات المسلحة وقدراتها حتي سيطرت علي الساحة في ولايات عديدة علي رأسها الجزائر العاصمة ، البليدة ، بومرداس ، جيجل ، المدية ، عين الدفلة ، تيبازة .. وتشكلت أغلب هذه الميلشيات من الشباب العاطلين عن العمل والباحثين عن الزعامة من دون أدنى مؤهلات ، وبرزت أسماء جديدة لقادة التكفيريين مثل مدني مزراق والشريف قواسمي وعبد السلام جامون الشهير بالدباح ، وتعاظمت قدرات هذه الجماعات التكفيرية وخرجت عن السيطرة حتى من زعماء جبهة الإنقاذ من سلفيين وأخوان مسلمين ، بل وتمادت هذه الجماعات في إصدار فتاوي التكفير بحق قيادات جبهة الإنقاذ ، وأختلط الحابل بالنابل وصار القتل لغة الحوار اليومية في أنحاء بلد المليون شهيد .. وللحديث بقية بمشيئة الله تعالي ..