ليله لئيم بما يكفى، لا يُريد أن ينقضى، يشهق شهقة السَحرة فى أذن الصبى. العجوز الماكر يحاول خنق أنفاس الشقى المُبَعثرة روحه فى فضاء السَحر. الوقت يُطبِق شفتيه فى امتعاض وعقارب الساعة تهوى إلى الأرض! وبعين تقدح شررا يبعث شبحا مُتلبسا روح الأفق بنظراته لتطول كتف الصبى، وتحوم حول ريشته ولوحته، التى هى جزء مما يزخر به خياله. الصبى يعبر لحظاته المُخيفة على كُره، ينبش بلوحته الفنية التى أرعاها نظره لبعض الوقت، ثم يعاود الإنصات لهمهمات يهزى بها الليل. ينكب الصبى على مكتبه، دافنا رأسه أسفل لوحته هذه المرة. نومته المفاجأة تأخذه إلى مشهد يبدو غير مُريح يمشى بحلمه ذاهلاً مفتوح العينين مُعلقاً عينيه على وجه تلك الغجرية، التى سبق وسكنت لوحته قبل خلوده مباشرة إلى النوم. المرأه تلتقط له صورا بعينيها المُخضبتين بلون الشفق الأحمر على خلاف ما منحهما هو من لون بريشته سالفا ! تمد يدها فى شغف تجاهه، وتضع خلف ظهرها خنجرا، تفيض منه الدماء، ويسقط فى سلاسه على أرض غرفته. قلبه يعتصر من شدة الخوف، ويحتله ألم أكثر من ذلك الناجم عن انسحاق العظام! العرق يلتصق بتفاصيل مكتبه الذى يتوسده فى غرابة وعجلة. عيون الغجرية الناقمة على وجهها المرسوم بفعل هذا الفنان ذو الوجه النحيل المستطيل والذى يبدو كنصف آدمى، أوغل كثيرا فى الخيال حد العيش فيه! المنام يؤرق الصبى، يحرق جفونه، والمسكين عاجز عن خروجه من دائرة الخيال، التى رسمها لنفسه، وتلوح فى وجهه الرغبة الجادة فى الصحو من ثباته الذى يخلو من كل شىء إلا تلك الغجرية، التى تبدو وكأنها تؤنبه أن ريشته أنطقت نظراتها بالسعادة! محاولاته المُستميته فى الإفاقة من غيبوبته المؤقتة تبوء بالفشل! منامه يُصر على مُتابعة المشهد، الذى بدا مُريعا خانقا. للغجرية حاجبيان مقلوبان متباعدان، صفحة وجهها تُنافس فى طولها عمود كهربائى! السيدة تخلو كليا من الإغراء، كل مابها يدعو إلى الإختباء خلف أحد المقاعد إن وُجدت. تُصدِر بشفتيها صوت يُشبه حفيف الأشجار، تدنو من كيان الصبى، وهى ترقص رقصات مُريعة وكأن جسدها أستقبل لِتَوه احدى صواعق السماء ولم يحتملها وبدا هكذا مُدهشا كريها، رقصته غير مُحببة للنفس، وأداؤه غير باعث على السلام. تنهيدات الصبى، تنفلت من صدره، وبداخله عويل مكتوم الغجرية تواصل قفزاتها المُتتالية من السماء إلى الأرض، وتلوح بيديها المنقوشتين بالدماء باتجاه الصبى الذى يرتعد خوفا من رؤيتها. لم تكن لصورتها تلك منزل مُلائم لديه من حيث التعود. ريشته لم ترسمها هكذا! وانفعالات كل من زار معرضه الفنى التى كانت لوحة «الغجرية الضاحكة» تتصدر لوحاته به، كانت داعية للبهجة ودالة على الهناء! فكيف تأتيه غجريته تلك على هذة البعثة غير المحمودة الجمال والأثر؟! توقفت الغجرية عن رقصتها المُربكة، وتقدمت خطوات تجاه الصبى الفنان، وجلست غير بعيدة منه، ونظرت إليه هنيهة ثم اقتربت من جلسته واضعة الخنجر الذى كانت تخبأه وراء ظهرها أمامه. كان الصبى فى منامه يخشى النظر إلى السيدة عن قُرب، ربما تُفاجئه بطعنة نافذة فى القلب ! كان وعيه يُدرك أنه نائم، مع ذلك كان الخوف يُمسك بكل جسده ويكبله من يديه وقدميه كما يفعل أفراد العصابات الدولية! وجم الصبى لها، وحاول أن يصرف عينه عن المشهد العجيب الخاطف. سكنت الغجرية بعد وضعها الخنجر أمام الصبى وفجأه، انتفضت كالمذعورة من جلستها، وهمت بالإمساك بخنجرها الذى شردت منه قطرتين دم على ثياب الصبى، وأخرجت من صدرها رضيع مُكَفن فى البياض. تَلَبس الصبى الرعب، وأراد أن يفيق من نومته الآن. خلعت الغجرية الغاضبة نعليها وثبتت قدميها على الأرض، مُمسكة بخنجرها مُقبلة على فعل شىء! الصبى يحاول الهرب، لا يُريد أن يرى أكثر! صدى رهيب يجول فى ارتياب وينفخ فى آذان الصبى، فيتجمد مكانه. الغجرية تقترب من الفنان الصغير تُعطيه «مولودها» الرضيع فى إجبار. يحمله الصبى الفنان فى عَجب، رافعا رأسه نحوها وما إن حدث ذلك إلا وأطارت السيدة رأس مولودها بالخنجر المُلَوث بالدم. هرع الصبى ودخل فى نوبة صراخ مؤلم بينما كانت الغجرية تتحسس أشلاء رضيعها فى حرارة. حاول الصبى طمأنة نفسه بأن هذة الفاجعة هى مجرد منام ليس أكثر. ومن ثم أتت من خلفه الغجرية هامسة بصوت خفيض يتخلله النحيب: «هكذا قتلوا طفلى، هذا مافعلوه غلاظ القلوب والأكباد» و تابعت حديثها: «أنا من أقرضتُ الأسى اسمه، سيدة المِحَن قضيتُ زمنى أتوسل العمر أن يلين.. أنا بائسة أيها الفنان الصغير فكيف أضحكتنى فى لوحتك؟!». كانت قوة حزنها مؤثرة، أبكت الأقمار والنجوم وأدمت قلب الصبى، الذى انقضى منامه بعد أن ذاع صوت نشيجها المُختَنق فى كل جانب.