مثله مثل كل شخص، يكره النقد، يكره أن يرى الآخرون عيوبه فيحاول أن يخفيها عن نظر الجميع، وربما تمنى أن يخفيها عن نفسه حتى لا يجلد ذاته، تمنى دوما أن يحظى باحترام وحب الناس جميعا. وذات يوم جلس هو وأصدقاؤه يتبادلون أطراف الحديث فسألهم: ماذا تتمنون؟، فقال أحدهم: أتمنى قصر فاره وفخم ومال كثير أحقق به ما أريد، وقال الآخر: أريد أن يذاع صيتى... أن أكون ذا مركز ومكانة عالية. وتوالت الأمنيات واختلفت، إلى أن جاء دوره، فسألوه وماذا تريد أنت؟.. فنظر إلى السماء مليا ثم نظر لهم وتفوه بكلمة واحدة: «الكمال». الكمال ؟!! استعاذوا جميعا من الشيطان الرجيم وطالبوه بالاستغفار فالكمال ليس إلا لله.. فقال لهم: نعم الكمال لله وحده، ولكن هل نسيتم أن الله قادر على كل شىء، ولمَ كل هذه الثورة على؟ أنتم أيضا تبغون الكمال ولكن بطريقة غير مباشرة.. فحينما تتمنى أنت أن تمتلك قصرا فارها وفخما فهذا لأنه ينقصك، وعندما تمتلكه ستبحث عن شىء آخر، إذا فأنت تبغى الكمال ولكنك لا تعى، كل من يأتى لهذه الحياة إلى أن يموت يسير فى دائرة مفرغة اسمها الكمال.. يبحث عنها ولا يجدها.. يتوهم أنه امتلكها، ليفاجأ أنها بعيدة كل البعد عن متناول يده. • إذا أنت تعرف أنك لن تحصل عليه فلمَ تتمناه؟ • ليقينى بأن الله قادر على كل شىء. ضربوا كفا على كف ساخرين من حديثه، وتخيلوا أنه قد فقد عقله، وفى طريق عودته للمنزل تملكته الفكرة، هو قد سأم أخطاءه، أرهقته ذنوبه، وأعيته نظرات الناس وسخريتهم وسخطهم، مل زوجته التى لا تكف عن الثرثرة عن أزواج صديقاتها اللذين هم أفضل منه، وعن الفرص التى رفضتها لأجله لتجد هذا الجحيم معه، لم يعد يطيق كلمات رئيسه الغاضبة دوما، لم يعد يحتمل أعين جيرانه بأنه الأدنى والأقل والأضعف. شعر بالحياة تضيق رويدا رويدا وكأنها تخنق أنفاسه، فهو لا يجد راحة فى أى مكان يذهب إليه، ورغم أنه يسير فى الشارع بهوائه الطلق إلا أنه يشعر وكأنه فى حجرة مظلمة محكمة الأبواب تقترب جدرانها أكثر فأكثر، يشعر بالغربة فى كل شىء يفعله، ومع كل شخص يقابله، وفى كل مكان يجلس فيه. لن يعود إلى البيت، فإن كان الهواء لا يشفى علته، فكيف لبيت بجدرانه، بزوجته، وبهمومه سيفعل؟!.. ظل يسير شاردا لا يعلم أين يذهب، كل ما يعرفه جيدا أنه لا يريد العودة إلى البيت، وبينما هو سائر فى طريقه غارقا فى أفكاره، لمح هذا المسجد من بعيد فساقته قدماه إليه.. دخل عله يجد راحته.. فتوضأ وشرع فى الصلاة، أطال فى السجود وفى البكاء أيضا، أخذ يبكى ويدعو «الكمال ياالله، لا أبغى سواه، أعلم أنه مستحيل ولكن ألم تقل «وقال ربكم ادعونى أستجب لكم»، وأنا أتمنى الكمال، فأنت لم تشترط الدعاء، أريد أن أحظى برضا كل الناس، فقد تعبت من تجريحهم، يارب كرهت ضعفى وهوانى عليهم.. ياااارب الكماااال». راح فى سُبات عميق وهو يبكى ويدعو ولازالت هذه الكلمة على شفتيه «الكمال»، وفى نومه رأى هذا الشيخ الذى يُسقيه ماء، وحينما سأله ما هذا الذى أشربه قال: «إنه الكمال». وهل هكذا سأصبح كاملا؟.. فقال له: «نعم.. أنت الآن كاملا». استيقظ من نومه على آذان الفجر والمصلون يتوافدون وتتردد فى أذنه جملة واحدة: «نعم أنت الآن كاملا»، صلى الفجر وذهب عائدا لمنزله حاملا هم أسئلة زوجته: أين كنت؟ ولمَ تأخرت؟ وكل تلك الشتائم التى ستكيلها له. ماذا لو اشترى لها هدية وقدم لها هذه الورود البنفسجية التى طالما أحبتها؟.. بالفعل أخذ معه هديته ووروده وعلى الرغم من أن معه مفتاح المنزل إلا أنه وضع الهدية والورود أمام البيت ودق جرس الباب واختبأ. كانت نائمة فاستيقظت وهى تلعن من بالباب لأنه أيقظها فى هذه الساعة، وعندما فتحت إذ بها تجد الورود أمامها وإلى جانبها الهدية، تعجبت فلم تدر ما هذا ومن أتى به إلى هنا، فوجدته أمامها يبتسم.. نظرت له بكثير من الدهشة فلم يفعلها منذ سنين حتى نست أو تناست أنها أنثى.. عانقته وقالت له: كاد القلق أن يميتنى خوفا عليك.. أحبك. تذكر أنها كانت غارقة فى نوم عميق ولم يبد عليها أى آثار للقلق لكنه تجاهل ذلك ثم ابتسم وقال: شكرا لأن مثلك فى حياتى.. أحبك جدا. ذهب لعمله بنشاط لم يشعر به من قبل فدوما كان الذهاب للعمل حملا ثقيلا على عاتقه كل صباح، وهناك بالعمل اقترح أفكارا ومشاريع جديدة، لقيت استحسان الجميع وقبولهم، وفى نهاية اليوم طلبه المدير وأخبره أنه سعيد به. أصبح شخصا آخر، إذا تحدث أنصت له الجميع، إذا تكلم وجد كل الترحيب لما يقول، الكل يحبه، الكل يحترمه ويسعى لمودته، لا يختلف عليه اثنان، فيقول الرأى المناسب فى الوقت المناسب بالأسلوب المناسب... أصبحت تتجسد فيه الصورة المثالية لبنى البشر، كل الأشخاص يريدون أن يصبحوا مثله ويفعلون ما يفعل، ولكنه بالنسبة لهم ليس إلا «حلم بعيد المنال». ورغم كل هذا أخذ يتساءل هل أنا سعيد؟! فحياتى تسير كما ينبغى أن تكون، كل ما يتمناه بنو البشر أفعله أنا، وكل ما يبغونه وصلت إليه. وكعادة البشر لا شىء يرضيهم بدأ الملل يتسرب إلى نفسه، فلا مشاكل تقابله ولا انتقادات توجه إليه، ولا ذنوب تثقله ولا شىء يبغى الوصول إليه، فماذا سيطلب بعد الكمال؟.. كل شىء بعد الكمال لا معنى له . وذات يوم وجد شابا فى المسجد يبكى بحرقه يكاد يتمزق ألما... فسأله لمَ كل هذا البكاء؟ هون على نفسك. فقال له: كيف وقد بلغت ذنوبى عنان السماء.. كيف وأنا المخطئ المذنب العاصى لله؟ فقال له: آه لو تعلم كم أحسدك. تعجب الرجل واندهش: تحسدنى أنا؟ على أى شىء؟....على ذنوبى وأخطائى؟! • بل على دموعك التى خلفتها هذه الذنوب والتى يحبها الله.. على كلمة يارب التى تخرج من الأعماق.. على أنك لازلت تتمنى وترجو شىء فى الحياة. ترك الشاب غارقا فى دهشته وسار لا يعرف ماذا يريد؟ فقط يتأمل وجوه الناس، قابله أحد أصدقائه وكان وجهه مشرقا على غير العادة فسأله عن سر سعادته هذه التى تنطق بها ملامحه فكان رده: كانت عندى مشكلة كبيرة الأيام الماضية مع زوجتى وكدنا أن ننفصل، إلا أننا تمكننا أخيرا من حلها، لذا أنا سعيد. هو ليس سعيد، حتى وإن تحقق له الكمال... بل إن الكمال لبنى البشر لعنة تسرق منهم كل معنى للوجود وللحياة.. وكأن السعادة فى أخطائك التى تُصححها، فى عيوبك التى تُصلحها، وكأن السعادة هى أن ينقصك دوما شىء فتسعى لتحقيقه وعندما تحققه تبحث عن غيره، وكأنها تكمن فى السعى نحو الكمال وليس تحقيقه. أخذ يفكر فى حلٍ لما حل به من عذاب، كان يدعو الله أن يعطيه الكمال وعندما أعطاه إياه فكيف له أن يدعوه بشىء آخر بل وبالنقيض؟ حاول أن يجد مخرجا لما هو فيه ولحياته التى لا تكتمل أبدا سعادتها.. ولكنه لم يجد.. ليس فى يده أى حل أبدا سواه. إنه الموت نعم الموت هو ما سيريحه من كل هذا العذاب، وبالفعل نظر لهذا البرج العالى، سيذهب ليلقى بهمومه منه، صعد البرج، أغمض عينيه، هم بالسقوووط . • استيقظ يابنى، الفجر قد أذن وأنت لازلت نائما، فكيف تكون فى بيت الله ولا تصلى فرضه! فتح عينيه ووجد نفسه لازال فى المسجد وهذا الشيخ أمامه يحدثه، فأخذ نفسا عميقا وقال: «الحمد لله على نواقصى وعيوبى وذلاتى وأخطائى، فبدونها لا معنى لأى شىء».. وقام يصلى الفجر.