قرار بناء عاصمة جديدة لم يتخذه مجلس نواب ولم تتداوله حتى «أبواق الحكومة» الإعلامية إذا كان لدينا 500 مليار جنيه للعاصمة الجديدة.. أليس من الأفضل أن ننفقها على حل مشكلة القاهرة؟! لسنا فى حاجة لبناء 30 خط مترو.. ولكن أعتقد أنه لو توافر لدينا هذا المبلغ لتمكنا من إيجاد حلول لمشكلات النقل والإسكان والقمامة كان من الأفضل رصد المبالغ لعشوائيات حرم أهلها منذ خمسين سنة من مياه الشرب النظيفة والرعاية الصحية والهواء النقى والمرافق إذا قيل إن المستثمر الأجنبى لن يرض بضخ أمواله فى المدينة القديمة.. فأرد بأننا نريد أن نعلم تحديدا الشروط التى يشترطها المستثمرون الأجانب لبناء المدينة الجديدة هل ستحذو الحكومة حذو الخديوى إسماعيل فى عنايته بالقاهرة.. أم ستحذو حذو سعيد فى استرضائه ديليسبس وولعه بتلبية جميع طلباته تخيل أنك روسى استيقظت فى يوم من الأيام لتكتشف أنه بسبب مشكلات المرور التى لاتُحتمل فى العاصمة موسكو، قرر الكرملين أن ينشئ، لا نظام نقل جماعى جديد، لكن عاصمة جديدة بالكامل. أو، إذا كنت صينيا، وبسبب مشكلة التلوث المستوطنة فى بكين، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى، وبدلا من استصدار قوانين جديدة للحد من انبعاثات الكربون والتقليل من عدد السيارات الخاصة، نقل العاصمة إلى موقع آخر غير معلوم حتى الآن. وإذا كنت إيطاليا، تخيل أن حكومتك قررت التخلى عن روما كعاصمة ونقل الأخيرة إلى الساحل لتكون قريبة من الطرق البحرية. تخيل فى كل هذه الحالات أن حكومتك فعلت ذلك بدون أن تجرى نقاشا عاما حول موضوع بهذه الأهمية، ناهيك عن استشارتك كأحد ساكنى أى من هذه المدن القديمة أو كمواطن فى أى من هذه البلدان. هذا بالضبط هو ما فعلته الحكومة المصرية؛ ففى خطوة مثيرة، وفى عرض لخططها المستقبلية، كشفت الحكومة فجأة عن خطة لبناء عاصمة إدارية واقتصادية جديدة لمصر، تبعد نحو 50 كيلومترا فى الشرق من المدينة ذات الألف سنة: القاهرة. نحن القاهريين والمصريين، لم نجر حوارا مجتمعيا حول هذه الخطوة المحورية، وبالطبع لم تتم استشارتنا حولها. المدينة الجديدة المقترحة، كما أُعلن عنها فى الموقع الإلكترونى للمشروع، تحوى صورا متلألئة لمبانى ما بعد حداثية، ناطحات سحاب مثل دبى، وصورا لامعة ل«مدينة عالمية ببنية تحتية ذكية لمستقبل مصر، التى ستوفر العديد من الفرص الاقتصادية وكذلك نمطا مميزا من الحياة»، يشير الموقع الإلكترونى أيضا إلى «كابيتال سيتى بارتنرز». وهى شركة استثمار عقارى خاصة يترأسها الإماراتى محمد العبار، العبار هو أحد المستشارين الرئيسيين لحاكم دبى، محمد بن راشد آل مكتوم، وهو أيضا الرئيس التنفيذى لشركة إعمار، الشركة الرائدة التى قامت ببناء برج خليفة فى دبى، والتى لديها مشاركة واسعة النطاق فى قطاع الأعمال فى مصر. لن أطيل الحديث عن الانبهار بدبى كنموذج للتنمية الحضارية وكيف أنه غير مناسب للتطبيق فى مصر، حيث يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى نحو 8% من مثيله فى الإمارات العربية المتحدة، ولن أطيل الحديث أيضا عن اللامساواة السياسية والاجتماعية الكامنة تحت القشرة المتلألئة فى دبى، ولا عن الآثار السياسية الخطيرة التى يبشر بها هذا النموذج إذا طُبق فى العاصمة الجديدة المقترحة لمصر. أنا أود فقط أن أطرح بعض الأسئلة للنقاش العام حول هذه القضية المحورية. أول هذه الأسئلة يبدو كأنه سؤال شكلى أو إجرائى ولكننى اعتبره لب الموضوع، وهو يتعلق بطريقة إخبارنا بهذه الخطوة الخطيرة. فقرار بناء عاصمة جديدة لم يتخذه مجلس النواب (لأننا لا نملك هذه المؤسسة بعد بسبب النزاع القانونى الذى تأجلت الانتخابات على إثره لأجل غير مسمى)، ولم تتداوله وسائل الإعلام حتى تلك التى أصبحت فعليا أبواقا للحكومة، ولكنه أُعلن أمام مجموعة من قادة العالم والمستثمرين الأجانب الذين يدّعون أنهم يركزون جهودهم على تعزيز الازدهار فى مصر والمنطقة، على حد تعبير وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى. ثانى الأسئلة يتعلق بجدوى بناء مدينة جديدة ستكون مساحتها، حسب ما أُعلن، أكبر من مساحة برازيليا وإسلام أباد وتشانديجار مجتمعة، وهى أكبر ثلاث مدن بنيت من عدم فى العصر الحديث. فى حديث لشبكة أخبار بلومبرج يوم 26 فبراير، وتمهيدا لمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى، أعلن أشرف سالمان، وزير الاستثمار، إن مشروع العاصمة الجديدة سيتكلف 500 مليار جنيه سيتحملها المستثمرون الأجانب. سؤالى يدور حول جدوى إنفاق هذا المبلغ الضخم على بناء مدينة جديدة، وبشكل أكثر تحديدا حول ما إذا كان من الأفضل إنفاق هذا المبلغ على القاهرة الموجودة بالفعل، عاصمتنا لأكثر من ألف عام. الرد التلقائى الذى يتداوله الكثيرون هو أن القاهرة أصبحت مدينة ميؤوسا منها، فمشاكل المرور والتلوث والضوضاء جعلت منها مدينة غير صالحة للسكنى أو على الأقل مدينة لاتصلح كعاصمة «تليق بنا». والغرض من إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة هو تخفيف الضغط عن وسط البلد عن طريق نقل الوزارات والمكاتب الحكومية، بغرض جذب نحو 5 ملايين نسمة عند إتمام المشروع. ولكن إذا كان لدينا 500 مليار جنيه، أليس من الأفضل أن ننفق هذا المبلغ على حل مشكلة المواصلات فى القاهرة؟ إن الكلفة الإجمالية للخط الأخير من مشروع مترو الأنفاق بلغت قرابة 15 مليار جنيه، وبعبارة أخرى، تكلفة بناء العاصمة الجديدة يمكنها أن تغطى كلفة إنشاء أكثر من 30 خط مترو فى القاهرة. طبعا نحن لسنا فى حاجة لبناء 30 خط مترو فى القاهرة، ولكن اعتقد أنه لو توافر لدينا هذا المبلغ لتمكنا من إيجاد حلول عملية لمشكلات النقل والإسكان والصرف الصحى والقمامة. بل أعتقد أيضا أن بهذا المبلغ الطائل سنتمكن من حل مشكلات ما تسميه الدولة بمؤسساتها المختلفة «العشوائيات» أى تلك الأحياء التى يقطنها 63% من القاهرة؛ إذ يمكن لنا أن نوفر لهم الاحتياجات الأساسية التى حُرموا منها على مدى السنوات الخمسين الماضية: مياه الشرب النظيفة والرعاية الصحية والهواء النقى والمرافق الترفيهية وأكثر من ذلك بكثير. ب500 مليار جنيه يمكننا أن نحسن مستوى معيشة الملايين من القاهريين والمصريين الذين يتم التعامل معهم، فى أحسن الأحوال، كمواطنين من الدرجة الثانية فى بلدهم. فهل فكرنا فى عقد مقارنة بين فوائد بناء عاصمة جديدة وفوائد تحسين مستوى معيشة سكان العاصمة الحالية؟ بل يمكن طرح السؤال بشكل أوسع: هل أجرت الحكومة دراسة تقارن بين جدوى بناء عاصمة جديدة وجدوى صرف هذه الأموال الطائلة للتصدى لمشكلة الصرف التى تهدد الدلتا برمتها والتى رفعت من مستوى المياه الجوفية فيها وزادت من ملوحة الأرض الزراعية وأضعفت إنتاجية الفدان؟ ولكن قد يرد البعض ويقول إن هذا المبلغ ليس متوفرا بالفعل، ولكنه مبلغ وعد به المستثمرون وأصحاب الشركات العقارية بغرض محدد وهو بناء هذه المدينة الجديدة، وهؤلاء المستثمرون ليسوا على استعداد لضخ أموالهم فى مشروعات لحل مشاكل العاصمة الحالية. وردى على هذه النقطة هو أننا يجب أن تكون لنا أولويات واضحة وثابتة وألا نُخضع تلك الأولويات لتوافر فرص التمويل الأجنبى. فهل تكمن أولوياتنا فى إنشاء عاصمة جديدة سيتحمل المستثمر الأجنبى كلفة بنائها ولكن ستمدها الدولة بما تحتاجه من جميع المرافق، أم فى العمل على تحسين خدمات المدينة القائمة بالفعل ومدها بما تحتاجه من مرافق، وخاصة «العشوائيات»، وتقديم مقترحات لمشاريع ربحية للمستثمر الأجنبى ليستثمر فيها؟ وإذا قيل إن المستثمر الأجنبى لن يرضى بضخ أمواله فى المدينة القديمة، فأرد بأننا نريد أن نعلم تحديدا الشروط التى يشترطها المستثمرون الأجانب لبناء المدينة الجديدة. هل نحن الذين نضع شروط العمل؟ أم أننا بصدد مشروع عقارى ربحى يضع قواعده المستثمرون الأجانب بغرض الربح السريع؟ ولنا أن نتذكر أن مشروع قناة السويس (القديمة وليس الجديدة) كان قائما على نفس تلك العقلية «الريعية»: هناك مستثمر أجنبى لديه فائض نقدى. وهناك بقعة من الأرض تمتاز بتفرد موقعها وصلاحيتها لإقامة مشروع استثمارى على مستوى عالمى. وهناك رغبة من الحكومة المحلية لتيسير العمل لهذا المستثمر الأجنبى (ديليسبس) حتى يعم النفع على المستثمر والحكومة والمجتمع، وكلنا يعرف كيف أدى غياب أية رقابة مجتمعية إلى أن تحول المشروع إلى مشروع ربحى أفاد المستثمر الأجنبى ولم يستفد منه المجتمع بالمرة. ثالث الأسئلة يتعلق بموقع المدينة الجديدة. فعلى مدى اليومين الماضيين تعالت الأصوات قائلة إننا لسنا وحيدين فى سعينا لإقامة عاصمة جديدة، وقد سبقتنا دول عديدة فى هذا الصدد. ولكن بالمقارنة مع برازيليا أو أنقرة (والأولى استحدثت، أما الثانية فكانت مدينة عريقة فى القدم جُددت)، فإن العاصمة الجديدة كانت تبعد آلاف الكيلومترات عن العاصمة الجديدة، وكان الغرض هو نقل مرتكز الحكم والإدارة إلى إقليم ناء حتى يصبح، بدوره، مركز جذب للسكان وللنشاط الاقتصادى والتجارى والإدارى. أما فى حالتنا وإذا أخذنا فى الحسبان الزيادة السكانية والتوسع العمرانى المرتقب، فإن العاصمة الجديدة ستصبح، عمليا، حيا من أحياء القاهرة. وإذا كان الغرض هو إقامة مدينة جديدة من عدم، والابتعاد قدر الإمكان عن القاهرة بمشاكلها، فلم وقع الاختيار على مكان بهذا القرب من القاهرة المكتظة بسكانها؟ وهنا يقال إن العاصمة الجديدة ستكون بالقرب من طرق الملاحة العالمية التى تمثلها قناة السويس. ولكن ألم يكن من الأنسب، إذا كنا سننشىء مدينة من عدم، أن نفعل ذلك فى الصعيد، ذلك الإقليم الذى نضن عليه بالموارد والذى يعانى من الإهمال الحكومى على مدى عقود إن لم يكن أجيال، هذا مع كونه يمثل مركز ثقل سكانى غنى؟ رابع الأسئلة يتعلق مرة أخرى بالقاهرة الموجودة بالفعل وبمكانها فى خطط الحكومة. أنا أطرح هذا السؤال لهاجس فى نفسى، أتمنى أن أكون مخطئا فيه، وهو أن الحكومة، ومعها قطاع كبير من النخبة السياسية والاقتصادية والمالية، يبدو أنها قد ضاقت ذرعا بالقاهرة، وبمشاكلها، وبسكانها. فإضافة إلى الزحام والضوضاء، هناك المظاهرات والهجمات الإرهابية. تخوفى هو أن يكون الغرض من إقامة المدينة الجديدة هو الهروب من المدينة القديمة وتركها لترزخ تحت وطأة مشكلاتها. وعلى مدى اليومين الماضيين تلقيت الكثير من التعليقات التى تقول إن ذلك ليس بجديد. فتاريخنا، من أخناتون للخديو إسماعيل، ملىء بنماذج لحكام بنوا مدنا جديدة وتركوا أخرى قديمة. وردى على هذه الأصوات هو الرجوع لتجربة الخديو إسماعيل. فأنا دارس، على مدى أكثر من عشر سنوات، لهذه التجربة تحديدا، وأستطيع القول بثقة إن على مبارك والخديو إسماعيل ومستشاريهما العديدين عندما بنيا «الإسماعيلية» على الأطراف الغربية للقاهرة المعزية، لم يهملا أبدا المدينة القديمة. صحيح أنهما بنيا دار الأوبرا، وشقا الشوارع المستقيمة، ونصبا التماثيل فى الميادين الجديدة، واستحدثا طرازا للعمارة جديدا. ولكن ما من درب وما من حارة من «أثمان» القاهرة المعزية العشرة (الجمالية وباب الشعرية وقيسون والأزبكية والسيدة زينب والدرب الأحمر وعابدين والخليفة وبولاق ومصر القديمة) إلا ونال حظه من الرعاية الحكومية التى كان من أهم سماتها تقديم الخدمات الصحية للأهالى. سؤالى، إذن، هو هل ستحذو الحكومة حذو الخديو إسماعيل فى عنايته بالقاهرة المعزية إضافة لاهتمامه ب«إسماعيليته»؟ أم ستحذو حذو سلفه، سعيد، فى استرضائه ديليسبس وولعه بتلبية جميع طلباته؟ ••• أنا أدرك أن هذه أسئلة صعبة وشائكة. لكننى أظنها مهمة ومن الضرورى طرحها للنقاش المجتمعى وإدارة حوار حولها. وليس الغرض من هذا الحوار هو الوصول إلى اتفاق تام حولها أو العثور على إجابة نموذجية لها. فهذه أسئلة سياسية بطبيعتها، والسياسة يجب أن تكون محل خلاف لا اصطفاف وتوافق. فى أى مجتمع يوجد من يعتقد أن الناس بطبعها غير مؤهلة لحكم نفسها، وآخرون الذين يرون أن الناس بطبيعتها تدرك مصلحتها وتسعى لسعادتها. وبخصوص مدينتنا، سيكون هناك دائما من يعتقد أننا نستحق أن تكون عاصمتنا شيك، حضارية، ذات مسطحات خضراء، على مستوى عالمى، قريبة من طرق الملاحة الدولية. وسيكون هناك آخرون الذين يرون إن ما نستحقه هو مدينة تحفظ لنا آدميتنا، وتقدم لنا الخدمات الضرورية، من صحة لمواصلات لفرص عمل لإسكان لأماكن للترفيه والمتعة. وسيكون هناك دائما من يفضلون الأمن، والنظام، والبوابات، واللجان الأمنية، والمولات التجارية المكيفة، والطرق الواسعة لسير العربات الخاصة. وآخرون يفضلون الميادين المفتوحة، وقهاوى الرصيف، والمواصلات العامة النظيفة والرخيصة، والشوارع المفعمة بالحياة، والدكك تحت الشجر. فأى مدينة نبغاها كعاصمة لبلادنا؟ هذا سؤال يبدو أن حكومتنا قررت ألا تشركنا فيه. ولكنه سؤال يهمنا جميعا، سواء منا من سكن القاهرة أم لم يسكنها. إنه سؤال ضرورى وأساسى يجب أن نطرحه على أنفسنا، ويجب أن نجتهد للتفكير فيه، ويجب أن نتعب للإجابة عليه. لن نتوصل، بالطبع، لتوافق مجتمعى على إجابة هذا السؤال، فالاصطفاف والاتفاق على سؤال بهذا العمق لن يكون ممكنا أو مرغوبا. ولكن بما أننى أؤمن أن مصر ليست مكتظة بسكانها بل منورة بأهلها فأنا على يقين أننا قديرون على التصدى لهذا السؤال وعلى قبول اختلافنا حوله.