لماذا توجهون أصابع الاتهام دائما إلى الحكومة، وكأنها المسئولة عن كل بلاوى البلد؟ كان هذا سؤالا جادا ألقاه علىّ أحد القراء، الذين تابعوا ما كتبته أمس عن مسئولية السياسة وقلت إنها إذا صلحت صلح البلد كله والعكس صحيح. وهو رأى لى عبرت عنه فى أكثر من مناسبة، فضلا عن أننى لست الوحيد الذى يقول به. وإذا جاز لى أن أدقق فى صياغته الآن فلعلى أقول إن السلطة التى تمثلها الحكومة هى المسئول الأول، وأن المجتمع بمؤسساته ومثقفيه يتحملون المسئولية أيضا فى مرتبة تالية سواء عن تقويم السلطة إذا انحرفت، أو عن مقاومة فسادها وعدم الاستسلام له. وهذا يفترض أن المجتمع يتمتع ببعض العافية التى تمكنه من أن يقوم أو يمانع ويقاوم. قبل أكثر من عشرين عاما صدر لى كتاب بعنوان «التدين المنقوص» تحدثت فيه عن «الحكومة وأخلاق الناس». قلت فيه إن السلطة لا تنشئ قيما ولا غطا فى السلوك، ولكن ممارساتها أو إقرارها لأوضاع معينة. أو حتى سكوتها عن تلك الأوضاع. أما هى فبمثابة إشارات أو إجازات تزكى قيما وتحجب أخرى. فالكذب والاحتيال والغش والتدليس مثلا رذائل متوطنة فى المجتمعات الإنسانية منذ الأزل، ولا تملك سلطة فى الأرض أن تجتثها وتقضى عليها. لكن أى سلطة تستطيع بممارساتها أن تكسب تلك الرذائل شرعية، وتثبتها كقيم فى المجتمع. قلت أيضا إن ممارسات السلطة قد تبدو فى ظاهرها جولات سياسية أو حسابات اقتصادية أو أهدافا تنموية تتعجل بلوغها، بشكل أو آخر وهذا حق، غير أن ذلك يظل فقط الوجه المرئى منها والمحسوس. الوجه الآخر هو أن تلك الممارسات تشكل منهجا فى تربية الجماهير من ناحية، ومدرسة تتخرج فيها كوادر السلطة المبثوثة فى كل مكان من ناحية ثانية. فإن وجدت بين الناس فضائل شاعت، أو رذائل ومعايب تفشت وذاعت ففتش عن الحكومة، ودقق فيما تقول وتفعل. حتما ستجد ذلك الحبل السرى الذى يربط فيما بين الاثنين. حتى ليخيل إليك أنك بإزاء نهر واحد، السلطة منبعه والناس مصبه. فى الأثر أن الله يزع بالسطان بأكثر مما يزع بالقرآن. وهى عبارة تختصر الفكرة ببلاغة شديدة منبهة إلى أن تأثير النموذج الذى تقدمه السلطة فى صياغة الواقع، أقوى وأعمق من تأثير التعاليم حتى إذا كان مصدرها القرآن. وفى التراث العربى شهادات عديدة أخرى تعبر عن الفكرة ذاتها. من ذلك قول الإمام على بن أبى طالب: الناس بأمرائهم، أشبه منهم بآبائهم فى التمثيل والتلقى والتقليد. ومما كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فى وصاياه: أن الرعية مؤدية إلى الإمام، ما أدى الإمام إلى الله. فإذا رتع الإمام (أسرف وتنعم)، رتعوا! وفى الطبرى أنه لما حمل الجندى إلى عمر بن الخطاب سيف كسرى وجواهره، بعد هزيمته أمام جيش المسلمين، فإن أمير المؤمنين قال: إن قوما أدوا هذا لذوو أمانة. فعقب على بن أبى طالب، موجها كلامه إلى عمر قائلا: إنك عففت، فعفت الرعية. وهذا ابن الاثير، يسجل فى موسوعته التاريخية «الكامل»: كان الوليد بن عبدالملك (الخليفة الأموى) صاحب بناء، واتخاذ المصانع والضياع، فكان الناس يلتقون فى زمانه فيسأل بعضهم بعضا عن البناء. وكان سليمان (بن عبدالملك) صاحب طعام ونكاح. فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن النكاح والطعام. وكان عمر بن عبدالعزيز صاحب عبادة، فكان الناس يسأل بعهم بعضها عن الخير: ما وِردُك الليلة، وكم تحفظ من القرآن: وكم تصوم من الشهر؟ الفكرة ذاتها، عبر عنها الفيلسوف الفرنسى هلفيتيوس فى القرن الثامن عشر، عندما قال: إن التفاعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد. فالشعب لا يؤثر فى طبيعة السلطة وإنما تؤثر السلطة فى خصائص الشعب وأخلاقه. واستنتج من ذلك أن السلطة مسئولة عن مساوئ الشعب، كما أنها مسئولة عن محاسنه.. فالسلطة التى تقوم على الابتزاز، ويتمتع أقطابها بامتيازات استثنائية لابد وأن تخلف جهازا مرتشيا. والسلطة التى تتعامل مع الشعب بطريقة فاشية، فإن جهازها لابد وأن يكون فاشيا، سواء بتشكيلاته، أو بالنزعة التى تسيطر على أفراده. وأنا أقلب الأمر فى ذلك الوقت المبكر، استوقفنى وصفه (روشتة) صدرت عن فقيه مصر الأشهر الليث بن سعد، الذى دخل على الخليفة العباسى هارون الرشيد، فسأله: ما صلاح بلدكم؟.. فكان رده: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا اجراء النيل (جريانه) وصلاح الأمير. أن من رأس العين يأتى الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت العين. وهى وصفة تستحق التفكير، لأن أمر النيل بات محل منازعة، وشأن الأمير كما تعرف، بحيث تعين علينا أن نلهج جميعا بالدعاء: يا خفى الألطاف نجنا مما نخاف.