كان كل من يقابله يدعوه إلى الخروج من الصندوق وتبنى خيال جديد فى إدارة رئاسة الحكومة التى تولاها بعد (30) يونيو. ولم يكن الدكتور «حازم الببلاوى» مستريحا على أى نحو لهذه الدعوة كأنها وصفة سحرية تُنهى كل المشاكل وتُغلق كل الملفات دون أن يقول له أحد «كيف؟». فى ضيقه بها أزمة دولة وجدت نفسها أمام تحديات وجودية دون تأهب مسبق أو استعداد كاف. كل شىء معلق فى الهواء ولا أرضية صلبة تقف عليها حكومته. أية إجراءات تهز ما هو ثابت بالكاد فى بنية الدولة يفضى إلى تقويضها فى لحظة طوارئ ومواجهات بالسلاح، وهذا طبيعى ومفهوم لرئيس وزراء انتقالى فى لحظة صعبة. الآن القضية تختلف والمستقبل كله على محك الخروج من الصندوق. لا يكفى أن يقول الرئيس «لا عودة إلى الماضى» حتى لا نعود إليه. القطيعة مع الماضى تعنى بالضبط تأسيس نظام جديد وفق القواعد الدستورية يخرج بالبلد كله من أسر الصندوق القديم بأفكاره وتوجهاته واختياراته وخياله السقيم. وبغض النظر عن أية نوايا معلنة فإن تأخر الحسم أدى إلى أن يطل الماضى من جديد. فى أية عودة محتملة مشروع اضطراب سياسى ينهك الدولة بأكثر مما تحتمله وينزع أية رهانات على نظام الحكم الجديد. بمعنى آخر فالحسم مسألة دولة تبحث عن تعافيها ومسألة نظام يطلب تأكيد شرعيته. بلا قواعد جديدة لنظام حكم مختلف فإننا سوف نظل نتخبط بين جنبات الصندوق القديم. القضية ليست فى إجراء هنا أو تغيير هناك، يصح أو يخيب، فالقواعد قبل أى شىء آخر. حركة المحافظين المنتظرة تلخص أزمة الانتقال من قديم لا يغادر وجديد لا يعلن عن نفسه. ما هو قديم يؤكد نهجه وما هو جديد يكتفى بنواياه. السؤال الرئيسى ليس من يجىء أو من يذهب من محافظين بل على أية قاعدة يجرى الاختيار وبأى أسس يجرى التقييم. التفكير من أوله لآخره على النمط القديم ولا جديد بعد ثورتين، فالمحافظون من القيادات العسكرية والأمنية المتقاعدة أو من بين الهيئات القضائية وهيئات التدريس، وبعض الاختيارات أقرب إلى مكافآت نهاية الخدمة. لا سياسيون يتولون هذا المنصب الذى هو بالتعريف سياسى، ولا امرأة أسندت إليها هذه المهمة ولا قبطى تولاها إلا على سبيل الاستثناء. ربما تؤدى حركة المحافظين الجديدة إلى تنشيط الجهاز التنفيذى أو تحسين شىء من الأداء العام لكن ذلك كله داخل المعروف والموصوف. المعنى نفسه ينصرف إلى الحكومة وتعديلاتها المتوقعة فلا معنى سياسيا فى القصة كلها. حرفيا فهذا هو الصندوق القديم بكل آلياته وحساباته واختياراته. ورغم كل ما جرى بعد ثورة «يناير» من تحولات فإن مؤسسات الدولة وأجهزتها مازالت تعمل على ذات القواعد وتفكر بذات الطريقة التى اعتادتها على مدى أكثر من أربعين سنة دون أى توجه جدى لإصلاح بنيتها، وهناك فارق جوهرى بين الهدم والإصلاح، فالأول يبدد إرث البيروقراطية المصرية دون رؤية أو إدراك لأهميته والثانى يصحح الخلل الفادح فى البناء المخرب لإعادة تأهيله من جديد وفق حقائق العصر ومقتضياته. بجملة واحدة: التزام القواعد الدستورية من متطلبات إصلاح مؤسسات الدولة وتأسيس نظام جديد تستحقه مصر بعد ثورتين. بقدر التخريب فإن الإصلاح سوف يطول وقته، غير أن المشكلة الآن أن هناك من يتصور أن بوسعه التقدم إلى المستقبل بسياسات الماضي. مرة بعد أخرى تتأكد أهمية إصلاح الأجهزة الأمنية ورد اعتبار السياسة وأن يبدو البلد واثقا فى نفسه لا مهزوزا أمام أى نقد على نحو ما جرى فى قصة المحامية اللبنانية الأصل «أمل كلونى». الكلام الرسمى الملتبس عما إذا كانت على قوائم ترقب الوصول إلى القاهرة أم لا يسىء إلى أية دولة تحترم أبجديات حرية التعبير عن الرأى أو تعرف شيئا عما هو مستقر فى الغرب من قيم رئيسية. لا يعقل أن يلتبس الكلام حيث يجب النفى أو أن ينسب للنظام الجديد أنه لوح باعتقال محامية دولية لمجرد أن فريقها القانونى انتقد إحدى مؤسسات الدولة، من طبيعة عملها أن تنتقد ومن واجب الدولة هنا تحاول أن تقتنع. المعنى أنه لا احترام لحريات الرأى والتعبير فى مصر وأن دولتها بوليسية. وهذه أسوأ رسالة بالنسبة لنظام يتقدم إلى عالمه باسم «مصر الجديدة». غابت السياسة وتصرف الأمن بما اعتاد عليه. إنه الصندوق القديم نفسه بشىء أكبر من العصبية التى لا يمكن تبريرها بأية ذريعة. من المستحيل أن تضع قدما فى الماضى وأخرى فى المستقبل، أن تتبنى مشروعات طموحة للبناء والتعمير دون أن تطلق السياسات العامة التى جرفت البلد وخربته بتعبير الرئيس نفسه. فى السعى إلى البناء تناقض مع تجريف الماضى لكنه يفتقد إلى ما يلهم ويرسخ فى الروح العامة، فإلهام أى مشروع من سياقه وأهدافه والاقتناع بجدواه فى تحسين الأحوال، الناس مستعدة أن تصبر وتحتمل بشرط ألا تدفع الفئات الأكثر فقرا وعوزا الفواتير وحدها ومستعدة أن تؤيد إلى أبعد مدى وأطول وقت بشرط أن تثق فى سلامة الانحيازات الاجتماعية. بقدر وضوح الرؤية تتأكد الشرعية ويصبح ممكنا الخروج من الصندوق القديم. الرؤية مسألة توافق وطنى أو أن يعرف المجتمع إلى أين هو ذاهب. هناك خشية من أن تفضى الانتخابات النيابية فى ظل قوانين لم يجر حولها أى حوار أو توافق إلى برلمان يعجز عن احتواء تفاعلات المجتمع فتنتقل إلى الشارع، يعطل إنفاذ الدستور فى قوانين بأثر هيمنة المال السياسى على بعض كتله فيتبدى الغضب خارجه. يتحدث الرئيس عن ضرورات الاصطفاف الوطنى، وهو محق تماما، غير أن ما يطلبه يستدعى اقترابا جديدا من الملفات الملغمة، أن يفسح المجال للمستقبل بأقصى ما يستطيع، فهذا وحده الذى سوف يصنع صورته فى التاريخ. فكرة الاصطفاف الوطنى ذاتها مشروع حوار وطنى واسع يعمل على بناء التوافقات بالوسائل الديمقراطية ومواجهة أية أزمات بروح من يريد مساعدة بلده على الانتقال إلى عصر جديد بأقل تكاليف إضافية. أزمة الأجيال الجديدة تستحق خروجا آخر من الصندوق، فالقضية لا تلخصها نسبة الشباب فى المجلس النيابى ولا الكلام عن إسناد مناصب تنفيذية للأجيال الأقل سنا. الفكرة الأولى، «حالة وصاية»، فى القوائم التى تعدها شخصيات مقربة والفكرة الثانية «حالة تعيين» فى الهيكل الحكومى. فى مثل هذا النوع من التفكير عودة إلى الصندوق حيث تصور أنه خروج منه، فالوصاية من أسوأ الخيارات فى التعاطى مع أجيال الشباب، فى الحاضر كما فى الماضى، هنا كما فى العالم. الأجدى اتخاذ إجراءات واضحة ومحددة مثل الإفراج عن المعتقلين أو العفو عمن صدرت بحقهم أحكام وفق قانون التظاهر الذى يرى وزراء الداخلية والعدل والعدالة الانتقالية ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية نفسه أن تكلفته السياسية أكبر من أية اعتبارات استدعت إصداره. أية إجراءات من مثل هذا النوع تفسح المجال لحوار جدى بلا وصاية يذيب طبقات الثلوج المتراكمة بين الدولة وشبابها، ولابد أن يكون المعنى واضحا من أن أزمة الأجيال الجديدة لا تخلصها الجماعات المسيسة باختلاف توجهاتها. فهناك قضية استقرت فى يقينها بعد ثورتين من أن مصر لا يصح أن تحكم مرة أخرى بالطريقة التى كانت تحكم بها من قبل. وهذا هو جوهر الخروج من الصندوق القديم.