«المطلوبون ال18» فيلم عامر الشوملى «المطلوبون ال18» هو رحلة حنين «نوستالجيا» إلى ماضٍ ليس ببعيد، ماضٍ لم يتجاوز العقود الثلاثة، لكن الفيلم، بالنسبة إلى مَن شاهده، يعطى شعورا بأن أحداثه جرت قبل قرنٍ من الزمن. يروى الشوملى قصة «بيت ساحور» التى استطاعت أن تبتدع نموذجا من العمل الكفاحى المقاوم فى زمن لم تكن فيه تكنولوجيا الاتصال والتواصل الاجتماعى متوفرة كما فى هذا الزمن. إذ قرر أهالى مدينة بيت ساحور التمرّد على المحتلّ على طريقتهم، وقرروا (بعد واحد وأربعين عاما على نكبة فلسطين، وبعد اثنين وعشرين عاما على احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة) أن يكتفوا ذاتيا، متأثرين على ما يبدو بما قاله جبران خليل جبران: «ويلٌ لأمّةٍ تأكل ممّا لا تزرع وتشرب ممّا لا تعصر». فكيف الحال بأمّة تشرب وتأكل وتلبس ممن يستعمر أرضها ويقتل أبناءها ويحجب شمسها ومستقبلها! قرّر أهالى البلدة الطيبون الذين لم يتجاوز عددهم حينها (سنة 1989) بضعة آلاف، أن يقاطعوا سلطات الإدارة المدنية الإسرائيلية التى تمثّل دولة الاحتلال. فهى التى تجبى الضرائب وتمنح تصاريح العمل وتشرف على الصحة والنظافة والتعليم أيضا، طبعا بحدّها الأدنى. وهى التى تتكفّل بتحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم أو مكافأتهم إن أحسنوا التصرف، فمنح رخص العمل وإجازات المهن أو حتى خطوط الهاتف كان مرهونا بحسن سلوك، وحسن السلوك هذا مرتبطٌ بالتعاون مع السلطات أو الحياد، وذلك ضمن الحدّ الأدنى. فإذا كان طالب الرخصة أو التسهيل له أى علاقة بالعمل الوطنى، فإن طلبه لم يكن ليحظى بقبول أو توجّب عليه الانتظار إلى أجلٍ غير مسمّى، وتتخلل هذا الانتظار مساومات لها أول وليس لها آخر. بعدها، تحوّلت بيت ساحور إلى مصدر إزعاج واستنزاف لجيشٍ صوّر نفسه ولا يزال كالجيش الأكثر أخلاقية فى العالم. وتحدّت المدينة ضباط الجيش والإدارة المدنية، لا بل تحدّت وزير الجيش إسحق رابين الذى أمر جنوده بكسر أيدى الأطفال راشقى الحجارة وأرجلهم فى إبّان الانتفاضة الأولى، وأمر جباة الضرائب بفرض أقصى العقوبات على الأهالى الذين أعلنوا العصيان المدنى ومقاطعة دولة الاحتلال بصورة كاملة وتسليم بطاقات هوياتهم إلى الجيش الإسرائيلى والإدارة المدنية. لقد كان وقْع هذا التمرد على المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية كبيرا، فقد عبّروا عن خشيتهم من فقدان السيطرة على السكان الفلسطينيين أو فقدان قدرة دولتهم على استمرار احتلالها. تفوّق أهالى بيت ساحور على قيادات العمل الفلسطينى فى ابتداع نموذجٍ كفاحى نضالى استطاعوا من خلاله التوجه إلى العالم بلغة جديدة. لقد استطاعوا، بسهولة، حسم المعركة أخلاقيا ليظهر الجندى الإسرائيلى ومن ورائه دولة الاحتلال بكامل مؤسستها وهى تطارد مجموعة من الأبقار اشتراها أهالى المدينة لتأمين حليب أطفالهم دونما الحاجة إلى شرائه من دولة تحتلهم. فهذا لم يرُق لسلطات الاحتلال، ولم يرُق لهم أن تسأم الضحية جلادها وجرائمه، وتعلن تمردها جاعلة من صورته تهتز أمام العالم. ••• لقد استحضر هذا الفيلم التوثيقى واحدة من أهمّ المحطات التاريخية فى حياة الشعب الفلسطينى، وقد وقعت فى أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، وكان جوهرها المبادرة الشعبية المتراكمة. فعلى الرغم من اليد القاسية والقبضة الحديدية التى شهرتها دولة الاحتلال ضد شعبٍ أعزل فكسرت عظام راشقى الحجارة وهدمت البيوت وأغلقتها وأغلقت المؤسسات التعليمية واعتقلت وفرضت الغرامات، فإن الشعب الفلسطينى استطاع صوغ معادلة جديدة للصراع. إن هذه المبادرة أنتجت قيادة وطنية موحّدة للانتفاضة وصاغتها، وساندتها لجان شعبية فى التجمعات الفلسطينية كانت مهمتها تنفيذ البرامج الكفاحية التى استندت بصورة كبيرة إلى بلورة آليات وأدوات للعصيان المدنى وللمقاومة الشعبية. أبدع الناس حينها صورا نضالية يومية للردّ على سياسات الاحتلال القمعية، وأظهرت هذه الإبداعات القدرة الكبيرة على التأقلم: فمن التعليم الشعبى ردّا على إغلاق المدارس والجامعات، إلى لجان الحراسة ردّا على هجمات المستوطنين والجيش على المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، إلى رفض دفع الضرائب، فتحويل الحدائق المنزلية من حدائق للأزهار والورود إلى زراعة الخضار، وطبعا مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية والاستعاضة عنها بأُخرى فلسطينية. عامر الشوملى، ومن خلال فيلمه «المطلوبون ال18»، حضر بمثابة شاهد على مرحلةٍ لم يعشها، إذ كان طفلا لم يتجاوز الأعوام العشرة من عمره حينها، يعيش فى أحد المخيمات الفلسطينية فى سوريا، لكنه استطاع من خلال فيلمه الوثائقى الروائى إعادة صوغ الحكاية وبنائها بصورة مبدعة وذكية ذكّرت وأكدت للناس أنهم قادرون. بعد انتهاء الفيلم، سألتنى ابنتى يارا التى لم تتجاوز الأعوام التسعة: «بابا، ايمتى بصير كمان انتفاضة؟». أكاد أجزم بأن سؤال يارا الصغيرة سألته يارا الكبيرة، زوجة عامر، التى سمّى إحدى البقرات فى الفيلم على اسمها، وهو سؤال نحو ألف مشاهد آخر حضروا العرض الافتتاحى للفيلم فى 31 أكتوبر 2014 فى فلسطين، وكان منهم من عايش مرحلة عصيان بيت ساحور والانتفاضة الأولى، ومنهم من عايش النكبة، ومنهم من عايش حصار بيروت، وأكثرهم عايش اجتياح الضفة الغربية فى سنة 2002. كلهم عايشوا الحرب الأخيرة «المحرقة» على قطاع غزة»، فسألوا السؤال نفسه، ليس حنينا إلى ماضٍ، إنما تعبيرا عن القناعة الراسخة بأن الاحتلال مستمر بمشروع استيطانى إحلالى، ما لم يجد من يقارعه وينغّص حياته كما ينغّص حياة شعب بأكمله منذ أكثر من ستة وستين عاما. إن تجربة عشرين عاما من التفاوض والاتفاقيات لم ولن تعيد الحقوق. تحيةٌ إلى عامر الشوملى، وتحية إلى أهالى بيت ساحور الذين أوصلوا قضية شعبهم إلى مجلس الأمن الدولى فى سنة 1989، وأبدعوا نموذجا انتفاضيا قلّ نظيره. لا يُجيدون قيادة السيارات إسرائيل هى واحدة من الدول التى تضع القيود الأشدّ على قوانين السير وعلى السائقين وعلى الطرقات، وتخضع السائقين لدورات تأهيلية. كلّ من يحمل رخصة قيادة فيها، له سجلٌ يحدّث باستمرار ويظهر حسناته وسيئاته، يُحتسب فيه ما له وما عليه. وبالإضافة إلى ذلك، يجرى التعامل فى إسرائيل مع بعض حوادث السير، وخصوصا التى تنتج عنها حالات قتل، معاملة الجريمة وتلقى أحيانا عقوبة السجن مدى الحياة، مع أن الموضوع يبقى فى إطار حوادث السير، ولا يصب فى خانة «الأعمال العدائية»، كما توصف العمليات الفدائية الفلسطينية ضد أهداف إسرائيلية. لكن ذلك كله لا ينطبق على المستوطنين فى الضفة الغربية. فهم، على ما يبدو، لا يخضعون للتأهيل والتدريب أسوة بغيرهم من المواطنين فى الدولة، ثم إن قدرتهم على قيادة المركبات تبدو مبتدئة وتحديدا فى الآونة الأخيرة، وفيما يتصل بحوادث السير التى تستهدف الأطفال الفلسطينيين أو العمال الذاهبين والعائدين من أماكن عملهم! يبدو أن المؤسسة الشرطية الإسرائيلية تحصر التحقيق فى حوادث السير، ولا تضع أى احتمال آخر كأن تكون هذه الحوادث مقصودة وتهدف إلى القتل العمد. فهل يُعقل أن تسجل عشرات حوادث السير، وتحديدا الدهس، ويكون ضحاياها من الفلسطينيين فى الضفّة الغربية وأغلبهم من الأطفال؟ الطفلة إيناس شوكت، ابنة الأعوام الخمسة، قُتلت. وصديقتها تولين عمر، أُصيبت بإصابات بالغة. وكان ذلك بعدما دهسهما مستوطنٌ فى قرية سنجل بالقرب من رام الله. وبحسب الإعلام الإسرائيلى، قام أحد المستوطنين بإبلاغ الشرطة عن تورطه بحادثة دهس على الطريق العام بين رام الله ونابلس، من دون أن يقف فى مكان الحادث. اكتفى بإعلام الشرطة، وكان ذلك فى 19 أكتوبر 2014. لم نسمع منذ ذلك الحين عن أية نتائج لتحقيق الشرطة الإسرائيلية، وعُدّت الجريمة كمجرد حادث سير، ما نفاه شهودٌ عيان من قرية سنجل لوسائل الإعلام. على أية حال، ما يُسجّل على أنه حوادث سير فى طرق الضفة الغربية ما هو إلاّ أعمال انتقامية تقودها مجموعة من المستوطنين الذين تجرى حمايتهم من قبل نواب فى البرلمان ووزراء فى الحكومة وضباط فى الجيش. إن ما يسمّى بحوادث السير والدهس لا يمكن فصلها عن الأعمال الإجرامية الأُخرى التى ينفذها المستوطنون ودولة الاحتلال. فمن حادثة إحراق الطفل محمد أبو خضير وقتله، إلى حادثة قتل الشاب المقدسى عبدالرحمن الشلودى فى محطة القطار، إلى مجرزة سوق الشجاعية خلال الحرب على غزة، وليس أخيرا حادثة اغتيال الشاب المقدسى بدم بارد معتز حجازى... كل هذه الحوادث تعبّر عن التكامل الموجود بين دولة الاحتلال وقطعان المستوطنين فى الضفة الغربية، الذين اشتدّ عودهم وأصبحوا قوة تهدّد كل ما هو فلسطينى فى الشوارع والطرقات الفلسطينية. على ما يبدو، قرر المستوطنون المضى قُدما فى تفجير الوضع خصوصا فى مدينة القدس، فالتسارع الكبير فى اقتحامات باحات الحرم القدسى تؤشر إلى حالة التماثل بين المغالاة فى التطرف فى إسرائيل وحكومتهم اليمينية، مستفيدين من حالة الترّهل العربى والفلسطينى، ومعتبرين الوضع قد نضج لفرض وقائع جديدة على الأرض. أقصى العقوبات لراشقى الحجارة أمر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الجيش والشرطة وجهازه القضائى بتنفيذ أحكام وعقوبات قاسية بحق الأطفال راشقى الحجارة، وخصوصا فى مدينة القدس وأحيائها، فى ظل تصاعد وتيرة الانتفاضة المقدسية الصامتة، كما يحلو لسكان القدس تسميتها، والمندلعة منذ يونيو الماضى، أى منذ جريمة إحراق الطفل أبوخضير. أخذ الغباء السياسى الإسرائيلى بالتفاقم، وهو على ما يبدو لا يتعلم من تجاربه السابقة. والأسئلة فى هذا السياق كثيرة: فهل توقفت انتفاضة الحجارة «الأولى» عندما أمر إسحق رابين وزير الجيش فى حينه، تكسير عظام راشقى الحجارة؟ وهل توقفت الانتفاضة عندما قررت قيادات الجيش فى الضفة الغربية وقطاع غزة هدم منازل المنتفضين بعد زجّهم فى السجون ليُترك ذووهم فى العراء؟ وهل نجحت العقوبات الجماعية التى فرضها كل من شارون وبن العيزر وأولمرت وموفاز فى وقف الفعل الانتفاضى فى إبّان الانتفاضة الثانية؟ سينطق القضاء الإسرائيلى المنحاز وغير النزيه أحكاما قاسية بحق الأطفال المقدسيين، وهذا لن يوقف الفعل الانتفاضى المتصاعد فى القدس والذى سيمتد حتما إلى كل المدن والقرى والمخيمات فى فلسطين. إن «المطلوبين ال18» والأطفال المقدسيين وانتقام قطعان المستوطنين المنظم، هى عوامل ستنتج عنها حتما انتفاضة ستتعاظم وتكبر وتعيد صوغ الحقوق الفلسطينية. نعم، قد تبدو الحالة الفلسطينية متراجعة إلى حدٍّ لا تمكن معه المراهنة على المواجهة مرة أخرى، فمن الحالات الفاشلة السابقة إلى القمع الإسرائيلى إلى الانقسام إلى الانشغال العربى، هذه كلها أسباب قد تعيق المواجهة الشاملة، لكنها حتما لن تمنعها إلى الأبد. التعنّت الإسرائيلى حيال الحقوق الفلسطينية، والتنكيل بالأسرى، والمحاولات المستميتة لتقسيم الحرم القدسى، وصولا إلى حوادث الدهس والقتل التى غدت يومية، فإحراق المحاصيل الزراعية، خصوصا موسم الزيتون، والكثير الكثير سواها من الاعتداءات.. أمامها، لن يقف الفلسطينيون مكتوفى الأيدى إلى الأبد.