أراد أحد المصريين المقيمين فى الخارج، التبرع بالمال لدور رعاية أطفال من ذوى الاحتياجات الخاصة «باعتبارهم أكثر الفئات عرضة للتهميش والعزلة وحاجة للمساعدة والدعم»، وبتوجهه إلى إحدى جمعيات رعاية الأطفال بمحافظة الجيزة، شاهد آثار ضرب مبرح على جسد بعضهم، ما دفعه إلى التقدم ببلاغ عن سوء معاملة الطفل المعاق داخل دور الحضانة. البلاغ كان طرف خيط لطرح تساؤلات عدة، حول طبيعة عمل دور رعاية الأطفال المعاقين في مصر، وما هو حجم المخالفات والتجاوزات التى ترتكب بين الحين والآخر، والتى قد تصل أحيانا إلى حد الاعتداء الجنسى، وسط غياب تام لدور وإشراف الدولة على القائمين على هذه الدور.. ليكون هذا التحقيق. على باب الدار، يقف فرد أمن، يصوب نظراته إلى المارة فى الطريق، متفحصا وجوههم بيقظة وعناية، كما لو كان يؤمِّن جهة سيادية فى الدولة، فى الجهة المقابلة للدار مقهى شعبى، جلست عليه متأملا وجوه من يخرج ويدخل الدار على أمل العثور على إحدى الأسر، ومعرفه طبيعة الأوضاع التى تدور بالداخل، وتأثيرها على أطفالهم، ولم أجد أحدا. بعد انتظار لأكثر من ساعة، خرج رجل فى الثلاثينيات من العمر يقود دراجة بخارية، اقتربت منه على أمل أنه والد لأحد الأطفال، فوجئت بأنه اخصائى اجتماعى يعمل داخل الدار، وبمجرد علمه بكونى محررا صحفيا، تغير وجههُ وغاب، وظل يردد: "كل اللى بيتقال عن الدار ده افتراء دول ملائكة إزاى ح نعذبهم؟". محاولة دخول الدار وبحيلة أخرى، حاولت دخول الدار، بعد الظهيرة، حتى لا يرانى الموظف، بحجة أنى أحد المتبرعين وأريد أن أتبرع بالمال لصالح أطفال الدار، وبالفعل قُوبلت بترحاب شديد، وطلبت منهم المرور إلى الغرف ورؤية الأطفال المعاقين، وهو ما تم بأريحية تامة وحفاوة منقطعة النظير. بمجرد دخول الدار، ترى الذباب محيطا بك من كل اتجاه، لا يوجد أطفال فى الطريق، جميعهم داخل غرف محكمة الغلق حتى لا يستطيع أحد الخروج إلى الصالة الرئيسية للزائرين، على بعد مترين من الباب، يجلس فردان على أريكة خشبية لمقابلة الوافدين إلى الدار ومعرفة هويتهم. داخل إحدى غرف الأطفال، مساحتها لا تتجاوز خمسة أمتار، طولا وعرضا، يجلس بها عشرات الأطفال كل منهم ملاصق للآخر، تختلف إعاقاتهم من حركية إلى ذهنية، ولكن النسبة الغالبة منهم إعاقات ذهنية. رائحة كريهة تملأ المكان من كل اتجاه، الذباب يتطاير هنا وهناك، فلا يوجد منفذ واحد للتهوية يسمح بمرور ضوء الشمس، أعمار الأطفال داخل الغرفة متفاوتة، فالطفل ذو العشرة أعوام يرافق ذوي ال 18 عاما، وهو ما تمنعه إدارة التأهيل بوزارة التضامن الاجتماعى، وجمعيات حقوق الطفل، حتى لا تحدث انتهاكات واعتداءات جنسية بين الكبار والصغار. وبالرغم من عدم وجود حصر دقيق لعدد الأطفال المعاقين فى مصر، إلا أن احصائيات منظمة الصحة العالمية أكدت فى تقرير لها أن عدد الاشخاص من ذوى الإعاقة فى مصر يترواح بين 10 إلى 13%، من تعداد السكان، أى ما يقرب من 12 مليون معاق، يمثل الأطفال 3.4% منهم، أى ما يقرب من نصف مليون طفل معاق، وتمثل هذه النسبة حوالى 8% من إجمالى عدد الأطفال فى سن الثامنة عشرة. ضرب وتعذيب الأطفال على جسد بعض الأطفال تظهر علامات ضرب مبرح، أحدهم يعانى من جروح فى القدمين، تمنعه من الوقوف ثابتا، وآخر يجلس وحيدا يرفض الحديث خوفا من مشرفى الدار، وآخر ملابسه مهلهلة بها ثقوب واضحة تعبر عن الإهمال الجسيم والمعاملة غير الآدمية التى تمارس بحق أطفال ليس لهم حول ولا قوة. "أنا أتولدت لاقيت نفسى هنا لا أعرف من هم أهلى، بأكل وبشرب هنا، بس المشرفين بتوعى بيضربونى بالخرطوم، وبيحمُّونى مع أصحابى الخمسة فى حمام واحد، وبنكون واقفين على كنبة عالية، وكتير من بيننا بيعانوا من تخلف عقلى"، هكذا وصف أحد الأطفال من ذوى الإعاقة الحركية وضعهم قبل أن يستوقفه المشرف، ويدعونى لزيارة غرفة أخرى. تشترط إدارة التأهيل بوزارة التضامن الاجتماعى، وجود كل من إخصائى اجتماعى مدرب على معاملة الاطفال اجتماعيا، واخصائى تغذية حرصاُ على صحة الأطفال، وطبيب مرافق، واخصائى نظافة للاستحمام، وملابس خاصة لكل طفل، فضلا عن وجود امكانيات تناسب حاجة الطفل المعاق، من جاهزية غرف الإيواء، وحجم دورات المياه، وارتفاعها، ووجود صيدلية داخل كل دار، باعتبار أن الطفل المعاق لديه طقوس ونظام معيشة يختلف بشكل كلى عن حياة ذويهم من الأسوياء. بالحديث مع أحد المشرفين على الدار، عن عدم توافر حياة آدمية للأطفال المعاقين يقول "يا باشا ما البركة فيكوا بقى أنت والمحترمين إلى زيك، احنا بنعيش على تبرعاتكم وخيركم والوزارة مفهاش فلوس ومش بتدينا أى حاجة تخلينا نساعد الاطفال دية، ده حتى الموظفين والاخصائيين مش بتمدنا بيهم، وأما نطلب منها ترد: هو ده إلى عندنا تعايشوا على قدر مواردنا الوزارة مفهاش فلوس". وأضاف المشرف أنه بسبب توقف التعيينات فى الدولة، اضطروا إلى الاستعانة ببعض العاملين بأجر من الخارج، لكنهم لا يستمرون كثيرا ويتركون المكان بعد أسبوع على الأكثر بسبب المجهود الكبير الذى يبذلونه مع الأطفال الذين يحتاجون لطريقة معينة فى التعامل. "والله لو ما كنت مؤمن لكنت أتحولت لإرهابى فجرت نفسى وفجرت الدنيا كلها" بهذه الكلمات بدأ «م.م.ع» حديثه ل «الشروق» وسرد معاناة ابنه مع دور الحضانات، يقول: ابنى أتولد وكان عنده نقص أكسجين، ثم تطور الأمر وأصيب بعد ذلك بمرض التوحد، كان ضعيف القدرة على التحرك، لا يستطيع المشى بمفرده، ألحقته بدار «ر.ع» بكوبرى القبة، وهى تابعة لوزارة التضامن الاجتماعى. وتابع: "بعد معاناة ولف على المراكز، اكتشفت أن كلها بتاجر بالأطفال، معاملة سيئة، أشخاص غير مدربين على معاملة الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة، أطعمة ملوثة، انتهاك لآدمية الطفل، ومن كثرة الإهمال والفساد، أصيب ابنى بمرض فى عينه، فتركوه وحيدا دون علاج أو رعاية، حتى فقد عينه اليسرى، وزادت إعاقته، وتحول إلى انسان يتنفس بدون حياة". واختتم حديثه: «نفسى الدولة دى تحترم حق الطفل فى الحياة بدل ما بتروح تصرف الملايين على الانتخابات وتترك أطفالنا معرضين للاعتداءات الجنسية والبدنية دون مساءلة أو حساب". الاعتداء الجنسي وفى مدينة الخصوص بمحافظة القليوبية، تعرض طفل لم يتجاوز عمره 4 أعوام، لاعتداء جنسى داخل احدى الحضانات من أحد زملائه يبلغ من العمر ستة عشر عاما، وهو ما أكده والده عندما ذهب إلى قسم الشرطة التابع له المركز، وتقدم ببلاغ رقم 853 الخصوص، ضد القائمين على الحضانة بعد إصابة ابنه بألم شديد بمنطقة الإلية، بالإضافة إلى واقعة اعتداء جنسى بإحدى دور الرعاية بمنطقة السيدة زينب لطفل يبلغ 9 أعوام على ايدى أحد زملائه البالغ 18 عاما. يقول حسن يوسف، مدير إدارة الحماية القانونية بالمجلس القومى للإعاقة، إن المجلس كثير ما كان يتلقى شكاوى باعتداءات جنسية واتجار بالأطفال فى بعض الجمعيات الأهلية، معتبرا أن معدلات الإهمال تتزايد مع مرور الوقت نظرا لضعف الرقابة على دور الرعاية. واتهم يوسف وزارة التضامن الاجتماعى، بالصمت المخزى تجاه تلك الوقائع والمخالفات الجسيمة داخل دور الرعاية سواء الحكومية أو الأهلية، حتى أصبحت دور الرعاية «بيزنس» مربحا لأصحابها. وأضاف: نعانى من أزمة كبيرة تتمثل فى عدم موافقة حضانات الاطفال المعاقين على مراقبتها وممارسة عملنا بها وفقا للقانون، وتطلب منا تصريحا من وزارة التضامن، بالرغم من سماح القانون للمجلس طبقا لقرار انشائه بممارسة دوره فى الرقابة والاشراف على عمل جمعيات ودور رعاية الأطفال. وزارة التضامن تقر بالانتهاكات وفى مفاجأة، اعترفت وزارة التضامن الاجتماعى بوجود تجاوزات واعتداءات جنسية داخل بعض دور الرعاية، على لسان مصدر رسمى، تحفظ على ذكر اسمه، قائلا: "أعترف بوجود تجاوزات داخل بعض دور رعاية الأطفال المعاقين سواء الحكومية أو الأهلية، ولكن هذه المخالفات فى طريقها للإزالة، خاصة أنها كانت تحدث منذ سنوات طويلة"، معتبرا أن جهود الوزارة للحد منها والقضاء عليها ساعدت كثيرا فى تقليل حدتها. وأضاف: وجود هذه الانتهاكات والتجاوزات يرجع إلى القصور الذى تعانى منه الوزارة، كنقص الامكانات، والموارد، والأموال، مثلنا مثل أى وزارة أخرى، يصعب علينا فى ظل الأزمات الاقتصادية الطاحنة التى تعانى منها البلاد وغياب الأمن والاستقرار أن نقضى على جميع هذه المخالفات، خاصة انها تحدث فى الخفاء، ولا يمكن اكتشافها بسهولة، لأن هناك من يقوم بعمل عقود داخلية فى الجمعية، وتعيين اشخاص غير مسئولين أو مدربين مقابل مبلغ مادى، مما يؤدى إلى حدوث انتهاكات بحق الأطفال، مؤكدا أنه بمجرد اقرار القانون الجديد الذى انتهت الوزارة من اعداده، سيتم القضاء من خلاله على كافة الثغرات التى تتعلق بالمجتمع المدنى ودور الرعاية الحكومية والأهلية، ونتتهى تماما من القانون رقم 49 لسنة 1982 الخاص بالطفل وتأهيله. وتابعت: "ومع ذلك إدارة التأهيل بالوزارة تقوم بحملات دورية على كافة الجمعيات الحكومية والأهلية، للكشف عن وجود تجاوزات"، مشيرا إلى أنه تم تحويل القائمين على العديد من دور الرعاية التحقيق، وأغلقت بعض الجميعات بعد اثبات تورطها فى أعمال غير قانونية. وتحدث المصدر عن طبيعة المخالفات التى يتم ضبطها، من بينها، انتهاكات لآدمية الأطفال المعاقين، وإحداث جروح بأجسادهم، ومعاملاتهم بطريقة غير آدمية، وعدم توافر الهيئة المنوط بها رعاية الأطفال، فمثلا من المفترض أن يوجد لكل طفل اخصائى اجتماعى، وطبى، ونفسى، وعامل نظافة، وخبير تعامل، لأن الطفل المعاق له طبيعة خاصة يتطلب تدريبا وخبرة فى التعامل معه، مشير إلى أن الوزارة تعقد دورات تدريبية بصفة دورية للرفع كفاءة العاملين بها وتدريبهم على رعاية الاطفال المعاقين. واضاف: من ضمن التجاوزات أيضا جمع الأطفال من سن الثامنة وحتى الثامنة عشرة فى حجرة واحدة أو حجرتين، مما قد يدفع إلى حدوث الاعتداءات الجنسية بينهم، كما حدث فى جمعية الطفولة من حادث الاعتداء الجنسى، بالرغم من خضوع الدور إلى وزارة التربية والتعليم وليس التضامن كما ادعى البعض. وعن وجود جمعيات أهلية تعمل بدون ترخيص، قال المصدر أكثر من 50% من الجمعيات الأهلية تعمل بمجرد الإشهار دون الحصول على ترخيص، وتعتمد على التبرعات كوسيلة للتربح، خاصة قبل شهر رمضان نجد العديد من الجمعيات تشهر نفسها من أجل «البزنس»، وتعمل مخالفة للقانون. وأضاف: الجمعيات فى المحافظات المختلفة تخضع لإشراف مدير مديرية الشئون الاجتماعية، ولا يستطيع غلق جمعية إلا بعد تصديق المحافظ وموافقته، فإذا رفض المحافظ، لا يجوز لمدير المديرية غلق الدار، وهو ما يعنى ان المسئولية ليست على عاتق وزارة التضامن الاجتماعى، وانما عمل متكامل بين كافة الاطراف، وبالتالى دور ادارة التأهيل إشرافى وتوجيهى وليس تنفيذيا