دولتنا لا ينبغى أن تسيطر على غزة أبدًا!    مواهب كوكب اليابان    عائلات الأسرى لنتنياهو: إذا قررت احتلال غزة وقتل أبنائنا سنطاردك في كل مكان    مصر ترحب بالتوصل إلى اتفاق سلام بين جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان    تنسيق الجامعات 2025.. طريقة التقديم للالتحاق بكليات الجامعات الخاصة والأهلية    رسميًا.. ضوابط تحويل الطلاب بين المعاهد الأزهرية ومدارس التربية والتعليم (آخرموعد)    تنسيق المرحلة الثالثة 2025.. توقعات كليات ومعاهد تقبل من 55% وحتى 50% أدبي    «النقل» تحدد أسبوعًا لاستخراج اشتراكات الأتوبيس الترددي لطلاب المدارس والجامعات    الشيخ خالد الجندي يذيع فيديو للشيخ محمد متولي الشعراوي عن قانون الإيجار القديم    اقتربت نهاية دوناروما مع سان جيرمان؟ ليكيب: شوفالييه يخضع للفحوصات الطبية    غليان داخل بيراميدز بعد الوقوع في فخ التعادل أمام «دجلة»    فيديوهات تحمل ألفاظ خادشة للحياء.. تفاصيل القبض على التيك توكر نعمة أم إبراهيم    ضبط تشكيل «بياضة وطوبسية» بتهمة الاتجار في المواد المخدرة بالدقهلية    نزاع إيجار قديم ينتهي بقتل مالك عقار.. والمحكمة تصدر قرارها    وزير الزراعة يتفقد أعمال التطوير بمحطة الزهراء للخيول العربية الأصيلة    إلهام شاهين تستمتع بإجازتها في الساحل مع نجوم الفن: «ربنا يجمعنا دايمًا في أوقات حلوة»    259 كرسيًا و6 أدوار.. مستشفى أسنان جامعة سوهاج يستعد للافتتاح قريبًا -صور    ينظم الضغط ويحمي القلب.. 6 فوائد ل عصير البطيخ    امتحانات الدبلومات الفنية التحريرية للدور الثاني.. 9 إجراءات من التعليم    محمد صلاح غير راضي عن سعره في الفانتازي "لا يجب أن أكون الأغلى"    3 أبراج على موعد مع حب العمر قريبا.. القدر يخبئ لك مفاجأة    غرق في النيل.. النيابة تحقق في وفاة سائق "توكتوك" بالصف    ترخيص 817 مركبة كهربائية خلال يوليو الماضي ..المركز الأول ل بى واى دى    الموز والتمر- أيهما أفضل لسكري الدم؟    ب"فستان أنيق".. أحدث ظهور ل نرمين الفقي والجمهور يغازلها (صور)    رئيس لبنان: دماء شهدائنا الأبرار لن تذهب هدرا وستبقى منارة تضيء طريق النضال    شيخ الأزهر يلتقى عدد من الطلاب ويستذكر معهم تجربته فى حفظ القرآن الكريم فى "كُتَّاب القرية"    جامعة بنها الأهلية تعقد 3 شراكات تعاون جديدة    محافظ الإسماعيلية يستقبل سفير دولة الهند ويتفقدان مصانع EMBEE    «المستلزمات الطبية» تبحث الاثنين المقبل أزمة مديونية هيئة الشراء الموحد    وزير المالية: حريصون على الاستغلال الأمثل للموارد والأصول المملوكة للدولة    نائب رئيس هيئة الكتاب: الاحتفال باليوم العالمي لمحبي القراءة دعوة للثقافة    اليوم .. عزاء الفنان سيد صادق بمسجد الشرطة    محافظة الجيزة: أنشطة وبرامج مراكز الشباب من 10 إلى 15 أغسطس 2025    «اتفق مع صديقه لإلصاق التهمة بزوج خالته».. كشف ملابسات مقتل شاب بطلق ناري في قنا    حبس مزارع وشقيقته تسببا في وفاة زوجته بالشرقية    «الوافدين» تنظم لقاءات افتراضية مع المكاتب الثقافية للتعريف بفرص الدراسة في مصر    الصحة: إحلال وتجديد 185 ماكينة غسيل كلوي    رغم الغضب الدولى ضد إسرائيل.. قوات الاحتلال تواصل قتل الفلسطينيين فى غزة.. عدد الضحايا يقترب من 62 ألف شخصا والمصابين نحو 153 ألف آخرين.. سوء التغذية والمجاعة تحاصر أطفال القطاع وتحصد أرواح 212 شهيدا    تتبقى 3 أيام.. «الضرائب» تعلن موعد انتهاء مهلة الاستفادة من التسهيلات الضريبية المقررة    أخبار الطقس في الإمارات.. صحو إلى غائم جزئي مع أمطار محتملة شرقًا وجنوبًا    "إكسترا نيوز" تذيع مقطعًا مصورًا لوقفة تضامنية في نيويورك دعمًا للموقف المصري الإنساني تجاه غزة    بحضور صفاء أبوالسعود.. تعرف على موعد افتتاح ملتقى فنون ذوي القدرات الخاصة    رئيس الوزراء يوجه بالاهتمام بالشكاوى المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة    تمويلات خارجية وتقنيات متطورة.. خطة الإخوان لغزو العقول بالسوشيال ميديا.. الفوضى المعلوماتية السلاح الأخطر.. ربيع: مصانع للكراهية وتزييف الوعى..النجار: ميليشيا "الجماعة" الرقمية أخطر أسلحة الفوضى    ما هو الصبر الجميل الذي أمر الله به؟.. يسري جبر يجيب    زوجة أكرم توفيق توجه رسالة رومانسية للاعب    أحمد كريمة: أموال تيك توك والسوشيال ميديا حرام وكسب خبيث    رسميًا.. مانشستر يونايتد يضم سيسكو    ارتفاع أسعار البيض اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    الري: 32 مليون متر مكعب سعة تخزينية لحماية نويبع من السيول    تفاصيل حفل تامر عاشور بمهرجان العلمين    موعد قرعة دوري أبطال أفريقيا والكونفدرالية والقنوات الناقلة    خلال استقباله وزير خارجية تركيا.. الرئيس السيسى يؤكد أهمية مواصلة العمل على تعزيز العلاقات الثنائية بين القاهرة وأنقرة.. التأكيد على رفض إعادة الاحتلال العسكرى لغزة وضرورة وقف إطلاق النار ورفض تهجير الفلسطينيين    «100 يوم صحة» قدمت 37 مليون خدمة طبية مجانية خلال 24 يوما    فتوح : قرار حكومة الاحتلال إعادة احتلال غزة كارثة وبداية تنفيذ خطة تهجير وقتل جماعي    تنسيق المرحلة الثانية.. غدا آخر فرصة لتسجيل الرغبات بموقع التنسيق الإلكتروني    علي معلول: جاءتني عروض من أوروبا قبل الأهلي ولم أنقطع عن متابعة الصفاقسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا وقد استوطنا الغضب؟
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 02 - 2009

ماذا نفعل وصور قتلانا تتزاحم في العقل وتحفر لنفسها حفرا عميقة في الذاكرة؟ ماذا نفعل إزاء صورة طفلة جميلة مسجاة فوق لوح خشبي، تبدو نائمة - "تأكل أرزا ولبنا مع الملائكة" - لو لم تكن محمولة علي أكتاف أهل يوشكون أن يواروها التراب؟
ماذا نفعل وصورة محمد الدرة -مرتعدا ومحتميا بأبيه من لعبة نيشان يتسلي بممارستها بضعة جنود ملولين- تقبع متخندقة في ثنايا المخ لا يمحوها مرور الزمن ولا يقتلعها طوفان الصور المتتالية لعشرات وعشرات من الأجساد الصغيرة والهشة والبريئة والممتلئة حيوية، وقد مزقت وانتهكت وانتزعت منها الحياة.
ماذا نفعل إزاء الصورة المروعة التي يغرسها في عقولنا غرسا خبر أطفال بقوا أربعة أيام قابعين فوق جثث أمهاتهم، ممنوعين من رشفة ماء أو لقمة خبز أو حضن من قريب أو غريب يخفف ولو قليلا من فزع وحسرة يعجز الخيال عن تصورها؟
نتذكر سنوات طفولتنا، وكم كان عالم الكبار موحشا ومخيفا، لو لم تكن طمأنينة الأهل والأقارب والجيران. نفكر في أطفالنا فيجفل العقل مرتعدا من طيف يمر في ثواني ليصورهم في موقع طفلة ترقد فوق لوح خشبي أو ولد يقتل وهو محتميا بظهر أبيه أو طفل يحاول إيقاظ أمه القتيلة طلبا لبعض الطمأنينة ورشفة ماء.
نغضب، ونغضب ويعتصرنا الغضب. دورات من الغضب لا يبدو لها من نهاية تختلط فيها صور القتل والقتلى. الكابوس هو نفسه يعاودنا بتعديلات طفيفة مرة بعد مرة، فتكاد الفواصل بين الأحداث واختلافات الزمان والمكان تذوب بعضها في البعض الأخر. مشاهد من بعيد لطائرات ومروحيات تقصف أهدافها، دخان يتصاعد وجنود يتضاحكون ويتغامزون وهم يعبون فوهات مدافعهم. ومشاهد من قريب لقتلي وجرحي، أجساد محترقة وممزقة وبيوت مهدمة، أمهات تبكي علي جثث أطفالها، وأطفال يبكون فوق جثث أمهاتهم. الصور هي هي، وكذا السياقات وكذا التوابع وردود الأفعال.
تقلب في الجرائد وتكاد توقن بأنك قرأت نفس العنوان بل والخبر نفسه من قبل، وتتنقل بين الفضائيات فتكاد توقن أن كل ما تراه وتسمعه رأيته وسمعته من قبل.
يسمونها بالفرنسية ديجا فو dejas vu))، ومعناها الحرفي "شوهد من قبل". العبارة تشير إلي ذلك الإحساس الذي يصيب المرء أحيانا بأن ما يحدث له في التو واللحظة قد حدث بنفس الشكل منذ زمن بعيد، ويبدو إننا بتنا نعيش حالة متواصلة وجماعية من "الديجا فو"، لا تشمل المذابح المتتالية فحسب، وإنما تمتد لتشمل كل شيء، كأن الجميع، معتدون ومعتدي عليهم، أنظمة وشعوبا، قوي دولية وإقليمية، قد اتفقوا علي لعب نفس الأدوار مستخدمين الحوار نفسه – مع بعض التعديلات الطفيفة التي تليق بالمناسبة.
تعبيرات الغضب العربي صارت هي أيضا موضوعا "للديجا فو". مظاهرات ومانشتات صحف وعواميد كتاب وتعليقات فضائيات، جميعها تكاد أن تكون نسخ طبق الأصل مما سبقها، مع كل عدوان جديد، ومع كل مذبحة جديدة.
مضت عقود منذ أن بشرتنا فيروز بأن "الغضب الساطع آت"، وجاء الغضب بالفعل، وظل يجئ ويجئ أعواما بعد أعوام وعقدا بعد عقد حتى صار العرب ومعهم المسلمون في عرف العالم بأسره هم أكثر الشعوب غضبا وإحساسا بالمهانة وطلبا للانتقام. غضب الشارع العربي بات موضوعا للنظريات والدراسات والندوات والمؤتمرات. المحافظون الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية وجدوا فيه ضالتهم لصياغة سياسة عالمية قوامها الحرب وعمادها التفوق العسكري. والأنظمة العربية بدورها اعتمدت عليه باعتباره أهم كارت في جعبتها لمفاوضة الغرب وإسرائيل.
كم من المرات سمعنا أو قرأنا تصريحات لزعماء سياسيين وخبراء أكاديميين وموظفين إقليميين ودوليين يهددون بأن فشل هذه المفاوضات أو تلك، أو الاستمرار في هذا العدوان أو ذاك سيقذف بالمنطقة العربية كلها، بل والعالم الإسلامي بأسره، إلي هوة سحيقة من الفوضى والعنف والإرهاب مطلقة العنان؟ كم من المرات شهدنا الزعماء العرب أنفسهم يحذرون إسرائيل وأمريكا وأوروبا من مغبة إهمال مقتضيات استقرار أصدقائهم المعتدلين، ليستمدوا من ضعفهم بالذات ومن هشاشتهم وكهولتهم وسخط شعوبهم عليهم قوة تفاوضية قوامها خطورة البديل القابع في ذلك الكيان المجهول والمخيف والمسمي "بالشارع العربي".
المشكلة أن أحدا لم يعد يصدق في أن الغضب العربي بكل هذه الخطورة. كافة الأطراف تقريبا تري فائدة في التلويح بمخاطره. يستخدم في أحيان كمبرر للعدوان، وفي أحيان أخري درءا له، ولكن لا يبدو أن أي من هذه الأطراف يضعه في الاعتبار حين يصوغ سياسته إلا في أدني الحدود.
الكل شارك في تحويل غضبنا من طاقة للتحدي إلي ما يشبه الذهان العصبي، فورات من الهياج يتلوها هدوء مترنح لتتلوها فورات هياج مجددة. الحكومات نجحت نجاحا مبهرا لا في محاصرة السخط الشعبي وقمعه وتبديده في مسارات شائهة فحسب وإنما في القضاء علي المجال السياسي بأسره، مستبدلة السياسية بصراعات قبائل وطوائف وشيع. المثقفون والزعماء السياسيون شاركوا بدورهم حين أعلو من المصالح الشخصية أو الحزبية أو القبلية فوق المصلحة العامة، وحين قبلوا – بل وساهموا – في الانحطاط بالعقلانية إلي مستوي الواقعية الذليلة والقبول بالأمر الواقع، وحين جعلوا من المقاومة مرادفا للانتحار والطنطنة الفارغة والضجيج بلا طحن. الشعوب بدورها استجابت استجابة متحمسة لمساعي كل من الحكومات والزعماء السياسيين والأيديولوجيين فأشهرت السيوف فوق الزجاج الخلفي للسيارات، ووجهت سخطها نحو نفسها (علي طريقة "مقدرش علي الحمار...").
انتهي العدوان الإسرائيلي علي غزة تاركا ورائه أكثر من ألف وخمسمائة قتيل، من بينهم قرابة خمسمائة طفل، و5450 جريح وأكثر من عشرين ألف منزل مهدم، وتاركا ورائه أيضا احتفالات مخجلة بالنصر، ومطاردات وإعدامات لعناصر من حركة فتح.
آتي الغضب إلي العرب واستقر بينهم، ترك "جياد الرهبة" وتوطن، يعتادنا ونعتاده، يعتريه الصدأ، وتعلوه الأتربة، ننفض بعضها بين حين وأخر وما تلبث أن تعود.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.