• مخالفة الحكومة لملاحظات قسم التشريع بالمجلس تستوجب إعلان ذلك للرأى العام يختص مجلس الدولة منذ نشأته بالقانون رقم 112 لسنة 1946 بمراجعة وصياغة مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية، وهو اختصاص قديم، جرى العمل فى معظم الدول الآخذة بنظام القضاء المزدوج على إسناده للجهة التى تتولى مهمة الفصل فى المنازعات الادارية، والامثلة على ذلك عديدة لا مجال لحصرها فى هذا المقام. وتنص المادة 190 من الدستور الحالى على أن «يختص مجلس الدولة بمراجعة وصياغة مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية». وبموجب هذا النص الدستورى، أصبح قيام مجلس الدولة بمراجعة وصياغة مشروعات القوانين والقرارات ذات الصفة التشريعية وجوبيا كأحد الاجراءات الشكلية اللازمة دستوريا للقاعدة القانونية، وبدونها تفقد تلك القاعدة احد اركان قوالبها الشكلية. ولاشك أن الدستور عندما أسند هذا الاختصاص لمجلس الدولة، لم يشأ ان يُهدر به جهد اعضائه من شيوخ وشباب القضاة العاملين بقسم التشريع، ولا أن يُضيّع وقت الحكومة والبرلمان فى انتظار ما ستسفر عنه المراجعة التشريعية لمجلس الدولة لمشروع القانون او القرار، إنما أراد أن يكون لهذه المراجعة جدوى وقيمة، وذلك من واقع ما كشفت عنه التجربة المصرية فيما مضى من انحراف السلطة الحاكمة باستخدام الأدوات التشريعية، وفى ضوء ما كشفت عنه الأحكام العديدة الصادرة بعدم دستورية بعض القوانين، وتضارب التطبيقات القضائية نتيجة عدم انضباط صياغة النصوص، بما سمح بأفهام وتفسيرات مختلفة. وقد ثار فى الآونة الاخيرة جدل حول مشروع القانون الذى قدمته رئاسة الجمهورية لقسم التشريع لمراجعته بشأن بتعديل بعض أحكام قانون الجامعات، وارتأى القسم عدم وجود حاجة إليه، ورغم ذلك صدر القانون برقم 15 لسنة 2014، مما أثار عدة علامات استفهام نجيب عنها فى النقاط التالية: الاختصاص الدستورى للحكومة: تختص الحكومة بموجب المادة 167 من الدستور، باعداد مشروعات القوانين والقرارات. وممارسة هذا الاختصاص الدستورى يستلزم التخصص فى علم القانون، وعادة ما تقوم وزارة العدل فى كل دولة بهذه المهمة نيابة عن الحكومة وبالتنسيق معها، وبالتالى فوجود إدارة متخصصة للتشريع بوزارة العدل تقوم بصياغة مشروعات القوانين المقدمة من الحكومة بالتنسيق مع الوزارات المختلفة يجد سنده فى اصل مهام الحكومة فى الدستور. فلا تعارض بين وجود إدارة التشريع بوزارة العدل، وقسم التشريع بمجلس الدولة، فعملهما متكاملان، وليس هناك تعارض، وبالتالى لا اخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، فاذا كانت الدولة تريد تشريعات تحقق المصلحة العامة الحقيقية دون اغراض او اهداف خفية. فان رقابة قسم التشريع بمجلس الدولة للقوانين ضمانة للأفراد والحكومة على السواء. رأى قسم التشريع استشارى، وتتحمل الحكومة والبرلمان المسئولية السياسية والقانونية عن القانون أو القرار: قدّر واضعو الدستور ان كلا من السلطة التنفيذية او التشريعية تحتاجان لمن يلقى نظرة تالية على التشريعات التى تقترحها من شخص محايد، لا يتبعهما من الناحية الادارية، ولا تملكان التأثير فيه، فينبهّما مبكرا وبموضوعية إلى مواطن الخطأ حال وجودها، او يحذرهما مسبقا من شبهات عدم الدستورية حال قيامها، تلافيا لها، ولهما فى النهاية اى الحكومة والبرلمان الحرية الكاملة فى تقرير ما يريانه بقدر وبمدى خضوعهما لمبدأ سيادة القانون، ويتحمل كل منهما مسئوليته امام البرلمان والشعب بحسب الأحوال. مع التأكيد مرة اخرى وبوضوح ان الرأى الصادر من قسم التشريع هو رأى استشارى، وان واجب الحكومة والسلطة التشريعية مجرد أخذ الاستشارة، ولكليهما بعد ذلك الحرية الكاملة فى سن التشريع لانها (اى السلطة التنفيذية) تتحمل المسئولية أمام البرلمان، فلها حرية الاخذ بما ينتهى اليه قسم التشريع، ويتحمل البرلمان المسئولية السياسية أمام الشعب. لكن اذا ثبت فيما بعد ان قسم التشريع كان على صواب، فان هذا يعنى انهما قد خالفا صحيح حكم القانون. تبعات مخالفة الحكومة لرأى قسم التشريع: إذا كان رأى قسم التشريع استشاريا كما سبق القول، فإننا نلحظ فى ديباجة القوانين إيراد عبارة (وبناء على ما ارتأى مجلس الدولة)، فإن المنطق والانصاف يقتضيان أن يتم ايراد هذه العبارة، عندما يكون مجلس الدولة قد قام بمراجعة مشروع القانون أو القرار على الاقل وأفرغه فى الصيغة القانونية، أما اذا كان رأى مجلس الدولة هو عدم الحاجة إلى إصدار التشريع، لوجود ما يكفى من القواعد فى التشريع القائم التى تحقق ذات الغرض وأكثر، فلم يقم قسم الشتريع لهذه الاسباب بافراغ المشروع فى الصيغة القانونية، فلا اظن انه من السائغ ايراد عبارة (وبناء على ما ارتآه بمجلس الدولة)، واستبدال عبارة (وبعد العرض على مجلس الدولة) بها، مع ضرورة إعلام الرأى العام برأى مجلس الدولة فى هذا الشأن. والتقاليد التى جرى عليها العمل فى قسم التشريع، ان العلاقة بينه وبين الحكومة او السلطة التشريعية هى علاقة مستشار بطالب الاستشارة، فلا يُفصح المستشار عن مضمون الاستشارة، ويترخص من طَلَبها فى الافصاح عنها، فان أُخذ بالنصيحة او الاستشارة، ذَكر طالبها ان ذلك كان (بناء على ما ارتآه مجلس الدولة). أهمية دور قسم التشريع: وكمثال عملى على ما تقدم، أن قسم التشريع بمجلس الدولة سبق له أن أجرى المراجعة التشريعية لقانون الضريبة العامة على المبيعات، فأثار شبهات بعدم الدستورية على فرض ضريبة المبيعات على عبارة (خدمات التشغيل للغير) لانها كانت من وجهة نظره عبارة غامضة، والتشريع الضريبى يجب أن يكون واضحا، ونبّه الحكومة إلى ذلك بشكل واضح. لكن الحكومة أصرّت على رأيها، فأصدرت القانون، وقامت المحكمة الدستورية العليا بعد ذلك بعشر سنوات لتقضى بعدم دستورية هذه العبارة لذات الاسباب التى انتهى اليها قسم التشريع تقريبا. ولو كانت الحكومة قد اخذت برأى قسم التشريع ما كانت وقعت فى هذا الخطأ. أنواع الآراء الاستشارية فى مجال التشريع والإفتاء توجد ثلاثة أنواع من طلبات الرأى التى قد تحتاجها الجهات المختلفة وهى: أولا: طلب رأى وجوبى: تلتزم الحكومة باستطلاع الرأى فى مسألة ما وتلتزم بتنفيذ ما ينتهى اليه الرأى، مثل اخذ رأى مجلس الدولة الفرنسى قبل حل النقابات، فرأى مجلس الدولة الفرنسى واجب التنفيذ بنص القانون، وكذلك فى مصر فى اعفاء المتعاقد من غرامة التأخير الذى لا يكون الا بعد موافقة ادارة الفتوى المختصة. ثانيا: طلب رأى استشارى: تلتزم فيه الحكومة او الجهة المعنية بأخذ الرأى، ولها حرية تنفيذه من عدمه، لكنها ان خالفت الراى فيكون ذلك تحت مسئوليتها السياسية والقانونية، مثل معظم طلبات الرأى التى تقدم إلى قسم الفتوى بمجلس الدولة من الوزارات ووحدات الحكم المحلى، والرأى الصادر من قسم التشريع فى صياغة مشروعات القوانين والقرارات اللائحية. ثالثا: رأى اختيارى: تكون لكل الحرية فى طلبه ولك الحرية فى تنفيذه وكلما كانت الدولة متمسكة بأحكام القانون، فإنها ستكون حريصة على تنفيذ ما يصدر من جهة الافتاء المحايدة، وستعمل على تنفيذ هذه الآراء بأنواعها الثلاثة دون تمييز، لان هذه الآراء لا تصدر إلا تطبيقا للدستور وتحقيقا لسيادة القانون، اى ان القيمة القانونية الملزمة لهذه الانواع الثلاثة من الآراء من وجهة نظرنا فى الدولة القانونية واحدة.