قوبلت دعوات المصالحة الوطنية، وآخرها تلك التى أطلقها الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية المعروف، بكثير من الاستياء من جانب دوائر شعبية ونخبوية عديدة، وذلك على نحو ما استقبلت به دعوات مماثلة من جانب بعض أقطاب الحكومة الحالية، والتى دفعتها إلى الرحيل بعد أن كادت تفقد ظهيرها الشعبى.. ورغم أن المصالحة، فى حد ذاتها، لا يستطيع محب لهذا الوطن أن يرفضها، حرصا على حرمة دم أبنائها، وإشفاقا على اقتصاده المنهك، خاصة بعد ما كشفت عنه الممارسات الإرهابية للجماعة من ضرورة مراجعة أداء المؤسسات الأمنية، ومعالجة ما اعترى أداؤها من قصور، ولا ينتقص من قدر القائمين عليها، أو امتنان كل من الوطن والمواطن للتضحيات الجسيمة التى قدمها رجالها البواسل والتى ستظل جميلا فى أعناقنا جميعا. ••• إن النظر فى دعوات المصالحة يستلزم متابعة الطريق الذى اتخذه الرئيس السابق فى إدارة شئون البلاد، والتى كانت تنبئ بمزيد من الخراب لمؤسساتها، استكمالا لمسيرة الرئيس السابق.. بالإضافة إلى ضياع مفهوم الوطن والمواطنة، لصالح دعوة تنكر الوطنية وتستنكر الحداثة، فالوطن بالنسبة للجماعة هو كل أرض يتواجد فوقها مسلم فرده كما جاء فى تعاليم مؤسسها، بل ويعتبر هذا الفرد مكلفا، وفق عقيدة الجماعة بالعمل على إسقاط الحكم فى تلك الدولة واستباحة دماء أبنائها إذا عرض عليهم الدخول فى الإسلام وقابلوا هذه الدعوة بالرفض (من رسائل البنا) وقد كان لتطبيقات تلك الدعوة عواقب وخيمة، عندما اتخذ دعاة الإخوان من الإرهاب طريقا لنشر دعوتهم، فكانت وبالا على المسلمين فى العالم الإسلامى وخارجه. لقد ارتكب نظام مبارك جريمة نكراء عندما أدخل الجماعة طرفا فى معادلة الحكم لتضليل العالم الخارجى على حساب أمن واستقرار البلاد، وإتاحة الفرصة لهم لسد حاجات الشعب الضرورية التى فشل نظامه الفاسد فى مواجهتها. ••• لقد فقد الرئيس السابق ونظامه الكثير عندما ارتكب أخطاء أثارت الشكوك حول نواياه الحقيقية، مثل دعوة قتلة السادات إلى احتفالات السادس من أكتوبر التى أكدت أن تلك الجماعات جزء أصيل من نظام الإخوان، وتأكدت هذه الرؤية فى المؤتمر الذى عقده فى قاعة قصر المؤتمرات والتى تسابق المشاركون فيه إلى تأكيد توجهات نظام الحكم نحو مزيد من التشديد والانغلاق، خاصة أن بعضهم كانت أياديه مخضبة بدماء المصريين الأبرياء، أو من المتورطين فى أعمال إرهابية قاموا بها فى عهد سلفه بينما قام بتقليدهم مناصب رفيعة فى الدولة. إن مصير الجماعة قد تحدد عندما اصطدمت بمعوقات الشخصية المصرية التى عرفت علاقة الأرض بالسماء منذ فجر التاريخ، وقدمت للبشرية بدايات التجلى الإلهى، وغيبيات ما بعد الحياة، فأبدع فنانوها أولى أساطير الخلق، جاءت الرسالة المحمدية مصدقة لما بين أيديهم، وربما كانت النزعة الصوفية التى ترعرعت فى أحضان الطبيعة الريفية المعطاءة هى التى حالت دون تجذر دعوة البنا التى تميل إلى العنف وتستهين بمعتقدات الآخر، وكانت سببا فى عدم تمكن الجماعة من التعايش مع أى من أنظمة الحكم التى تعاقبت على مصر، سواء فى المرحلة شبه الليبرالية، أو فشلها فى فرض وصاياتها كاملة على ثورة يوليو ثم قيام حلفائها باغتيال الرئيس السادات. ••• لقد شاءت العناية الإلهية ووعى شعبنا الفطرى أن تكون فئات مجتمعنا المهمشة فى مقدمة القوى التى تصدت لدولة الجماعة، وهى ظاهرة لا يستطيع إنكارها غير جاحد للحقيقة، وقد دعم هذا التوجه الشعبى ابتعاد دولة الجماعة عن أسس الحكم الرشيد، وفى مقدمتها ولاية من يصلح، واستبدالها بولاية من ينتمى للجماعة والأقدر على خدمة اهدافها، وليس القادرين على القيام بأعباء الحكم، وأصبح شأنهم هذا شأن الديكتاتوريات العسكرية التى فشلت حكومتها فى غالبية العالم الثالث، وبدلا من أن يكون الأمر شورى، والحقوق قضاء كما قال شاعرنا العظيم فى نهج البردة «استبدلت الديمقراطية بعبارة البنا» واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم فى العسر واليسر والنشط والمكره» وضاع شرع الله «سبحانه» فى متاهات الفتاوى، واختلاف أصحابها، عن قناعة، أو لإرضاء حاكم يستعين شرع الله لتثبيت أركان حكم، أو يؤسس لملك عضوض، كما فعل خلفاء المسلمين بعد الراشدين الأربعة. إنهم يريدوننا أن نستبدل الوطن بأمة لا خير فيها إلا رسالتها السمحاء التى انحرفوا بها نحو كهنوت لم يكن يوما من ثوابت عقيدتها. ••• لقد شكل اعتصام رابعة منعطفا مهما فى مسيرة العلاقات بين الدولة والجماعة، بل وبين الدولة والمجتمع الدولى، إذ تزايدت فى أعقابه حدة الاستقطاب، خاصة بعد أن اصبح المجتمع الدولى طرفا فى هذا الصراع الداخلى، وربما المصيرى بعد أن انقسمت الأمة إلى شعب وجماعة هى فى الأساس جزء من هذا الشعب، انقسمت إلى دولة وطنية الدين أحد أهم مقوماتها، وجماعة تنتمى إلى عقيدة أممية تتجاوز انتماءها الوطنى. إن ما يريده الشعب هو استرداد وطنه الذى حاولوا انتزاعه عنوة، بعد أن تعذر أن يكون وطنا للجميع. إن تمسك الجماعة بالشرعية يضحضه تقييم أداء حكم الجماعة ولا أقول حكومة الجماعة، وهنا يطل علينا راشد الغنوشى الإسلامى التونسى الأشهر فى كتابه «الحريات العامة فى الدولة الإسلامية» الذى جاء فيه «أن الحاكم حرى أن يظل على وعى أن استمرار سلطانه مرهون باحترام تعهده وكسب رضا المحكومين، فإن سقط المشروط وفقد حقه فى الطاعة، وأصبحت كل وسائل المقاومة مشروعة مادامت تهدف إلى إخراجه من الخلافة بعد أن أصبح بقاؤه فيها غير شرعي» لقد كانت كلمات الغنوشى أفقا يسع الجميع، إضاعته إلى غير رجعة جماعة أخذتها العزة بالإثم فاستكبرت وتكبرت.