كمواطنة مصرية من الطبقة الوسطى، وتحديدًا من النصف الأدنى لهذه الطبقة، لا أمتلك سيارة، ولا حتى سكوتر. توقفت منذ زمن عن استخدام الأتوبيس، إما لأنني لا أجده عادة، أو لأنني إن وجدته لا أجد مكانًا لقدمي فيه، أو لأنني إن وجدته ووجدت مكانًا لي بين كتل اللحم المتكدسة داخله، يقرر السائق صاحب الغزالة المتقلبة أن يغير مساره الرسمي لأجد نفسي في مكان أبعد ما يكون عن وجهتي، وأضطر لبدء رحلة البحث عن مواصلة أخرى من جديد. أين ذهبت الأتوبيسات؟ لا أعلم، حلت بدلا منها أتوبيسات الشركات الخاصة خضراء اللون في القاهرة، صاحبة الأجرة الموحدة التي بدأت بجنيه وربع حتى وصلت لاتنين جنيه، والمشترك بين جميع الأتوبيسات: أنها جنة المتحرشين. أفكر أنه في اللحظة التي سأصبح فيها رئيسة جمهورية، أول ما سأفعله هو إعادة هيكلة النقل والمواصلات في مصر.. ولا بلاش إعادة هيكلة عشان بتزعل وزارة الداخلية. أضطر غالبًا إلى استخدام التاكسي، أينعم عزيزي المواطن الذي يربت ببطء على جيبه ويتحسس مسدسه قبل أن يقرر التلويح لتاكسي أبيض أو إسود، أصبحت أستخدم التاكسي منذ فترة حتى في المشاوير التي لا تستغرق عادة أكثر من 15 دقيقة، مهما كانت ميزانيتي الضحلة متضررة. الفضل في اضطراري للتاكسي يرجع طبعًا إلى الإخوة منتفخي الأوداج بالذكورة، والرغبة في أذية أي كائن حي يندرج تحت بند "الأنثى". لكن خطة التاكسي أصبحت كابوسًا في حد ذاتها أيضًا، طبعًا أنت كمواطن مصري يجب أن تكون قد تعودت على المبدأ القائل "قليل البخت يلاقي العضم في البانيه"، فالتاكسي الذي أصبح سائقه يتعامل منذ سنوات باعتباره "البيه" الذي يقرر ما إذا كنت جديرًا بالركوب معه أم لا، هو الآخر تحول إلى كابوس، لتجد نفسك واقفًا أحيانًا نصف ساعة وأكثر من أجل أن يحن ويمن عليك أي سائق تاكسي بتوصيلك للمشوار الذي كما أشرنا يمكن ألا يزيد عن 15 دقيقة مثلا. وإذا استثنينا المشاجرات المعتادة حول العدّاد الملعوب فيه لحساب أجرة أعلى بمراحل من المقررة، أو عدم وجود العدّاد من الأصل، أو عدم وجود فكة كالعادة، أو قيام السائق بالتلميح والتصريح بقصص جنسية أو عبارات سخيفة (ويتوفر هذا الأوبشن في حالة كونك أنثى مصرية طبعًا)، فالمفترض أن التاكسي هو الحل الوحيد الآن، يتعين عليك فقط تخصيص ربع ميزانيتك أو نصفها شهريًا له، والاحتفاظ بأعصابك باردة، في تلاجة موتى لو عرفت، أثناء التعامل مع السائق. أما المترو، مترو الأنفاق، الذي يعايرنا به فلول السيد الرئيس المعزول الأسبق (آه والله أسبق) مبارك، فحدث ولا حرج. يكفي فقط أن أشير إلى أن نصف سكان القاهرة وضواحيها يوجهون دعواتهم يوميًا بالشلل، والمرض، والسرطان، والبهدلة، والحوجة إلى صاحب قرار غلق أهم محطات المترو، وأكثرها ازدحامًا ومحورية، محطتي التحرير (السادات عشان مايزعلوش) والجيزة. لكل هذه الأسباب، والله وأكثر، قررت مؤخرًا الاستغناء عن كافة أنواع المواصلات في القاهرة، واستخدام أقدامي العزيزة المستحملاني منذ 26 سنة دون أدنى شكوى. أصبح الطريق من السيدة زينب حيث أسكن، إلى وسط البلد وجاردن سيتي حيث أعمل يحفظني تقريبًا. ألفع شنطة الظهر وبها اللابتوب العزيز على كتفي وأبدأ رحلة السير. هل مثلا أرتاح أخيرًا؟ عيب والله، مش قلنا "قليل البخت يلاقي العضم في البانيه"؟ اكتشفت أن المشي كابوس، لا رصيف هنالك يا عزيزي، الباعة احتلوه، تمامًا، وكله بدافع "أكل العيش" رغم أن أكل العيش لا يتضمن أن تقتطع الرصيف بشماعات الملابس، وتلاجات الكولا، والموبايلات، وصناديق الحلويات، والإيشاربات حتى لا يصبح هناك موضع قدم حتى للزبائن يا أخي! أضطر للمشي في نهر الطريق، وهو يشبه نهر النيل في القاهرة بالضبط، يحتله هؤلاء القادرون الذين قرروا شراء سيارات، وكانوا من الصفاقة بحيث ركنوها صف تاني وتالت ورابع إذا لزم الأمر. هنا يتبقى للسيارات التي "تسير" فعلا حارة واحدة، فمن أنا لأمشي فيها وأعوق تقدمهم الذي يقاس بالخمسين متر في الساعة؟! تخيل أن تخرج من بيتك يوميًا وأنت لا تعرف ماذا تفعل، المواصلات كاختيار مرفوض من البداية، المشي المُجهِد وتحمل السير وسط السيارات والكلاكسات، والتحرشات، والسخف اللانهائي، الدخول في دائرة من القهر، شخص يقهرك لأنه يستطيع احتلال رصيف يعرف أنه ليس من حقه بأي حجة، وأنت تسير في عرض الطريق لتعيق سائقي السيارات المقهورين أساسًا من زحمة الطرق المعتادة، تعرف أنك تبذل أضعاف أضعاف الجهد لتتقبل تلك الحياة اليومية الطاحنة رغم أن مطالبك بديهية وبائسة، تعرف أن غضبك سيقهر آخرين، وليس من أحد مذنب في النهاية سوى مؤسسات تسرق من راتبك لشراء أسلحة تقتلك بها في الاحتجاجات بدلا من القيام بواجباتها المفترضة. هل رأيت ميدان العتبة مؤخرًا يا عزيزي؟ حسنًا، يمكنك الآن أن تفهم كيف أصبحت كل شوارع القاهرة مؤخرًا، وكيف صار المشي فيها كابوسًا، مهما فعلت. يقول محمود درويش "ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة"، أما أنا من مصر أم الدنيا، التي وعد الفريق السيسي بأنها "هتبقى قد الدنيا"، فلا أريد سوى رصيف!