تناولت الصحف كثيرا خلال الأسبوعين الماضيين أخبارا عن نتائج مقابلات وفد الدبلوماسية الشعبية الساعى لشرح وجهة النظر المصرية (الرسمية) لحقيقة الأوضاع فى مصر فى إطار حرب العقول والقلوب التى كثفت السياسة الخارجية المصرية منها منذ 3 يوليو. ويبدو أن أحد المهام الأساسية للوفد هو كسب الدعم الدولى لمسار 3 يوليو والذى أثار الكثير من اللغط حول حقيقة كونه مسارا ثوريا أم انقلابيا. وبغض النظر عن تشكيل الوفد والرسائل التى حملها، تبقى الحقيقة الثابتة هى صعوبة المهمة. تتضمن الدبلوماسية العامة كل أساليب التفاعل ليس فقط مع الحكومات، ولكن أيضا مع الجماعات والمنظمات غير الحكومية والأفراد العادية وذلك بهدف التأثير على توجهات الرأى العام. ويقوم الافتراض الأساسى هنا على أن المزيد من الشرح والتفسير لسياسات دولة ما والتفاعل مع الرأى العام فى دولة أخرى يمكن الأولى من تحقيق أهداف سياستها الخارجية. وبهذا فإن الدبلوماسية العامة هى إحدى أدوات القوة الناعمة للدول والتى تعمل على تحقيق المصلحة القومية لدولة ما فى علاقاتها الخارجية من خلال الاقناع وليس عن طريق الإرغام أو اللجوء لاستخدام وسائل أخرى كالرشاوى. وقد حدد جوزيف ناى، أستاذ العلاقات الدولية فى جامعة هارفارد وأول من استخدم المصطلح، ثلاثة مصادر للقوة الناعمة للدولة: ثقافة الدولة (وهى تشير إلى كل ما يتصل بالأبعاد التى يراها الآخرون جذابة فى دولة ما)، القيم السياسية للدولة (خاصة عندما تكون هذه القيم متسقة داخليا وخارجيا)، وسياساتها الخارجية (كلما رأى الآخرون أن السياسة الخارجية لدولة ما مشروعة، كلما كان ذلك دليلا على قدرتها على الإقناع).
وإذا ما نظرنا للحالة المصرية، نجد أن مصر قد فقدت الكثير من عناصر قوتها الناعمة على مدار العقود الماضية. وكانت القوة الناعمة لمصر قد وصلت ذروتها فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، ثم بدأت فى التدهور مع هزيمة 1967. خلال هذه الفترة، قامت مصر ببناء مكانتها وتأثيرها الإقليميين مستفيدة من تاريخها وحاضرها الثقافى بالمعنى الواسع للثقافة والذى يضم الفكر والفن والإعلام... إلخ. كما كانت لقوافل المعلمين والأساتذة والأطباء والمهندسين وغيرها من المهن دورها فى تعزيز المكانة الإقليمية لمصر. وكان للقيم السياسية التى رفعها النظام المصرى فى ذلك الوقت والمتمثلة فى مساندة تحرر الشعوب، التخلص من التبعية والسعى لتحقيق التنمية المستقلة أثر فى اتساع النفوذ المصرى فى آسيا وإفريقيا خاصة وأن الرسائل كانت متسقة مع السياسات المتبعة مما أكسبها قدرا كبيرا من المصداقية. مع هزيمة 1967، اهتزت دعائم القوة الناعمة لمصر. فمشروع التحرر الوطنى انقلب إلى دولة على درجة كبيرة من السلطوية وانتهى بهزيمة غير متوقعة، وبداية لانحصار الدور الخارجى لمصر. واستمر الاستنزاف لمقومات القوة الناعمة المصرية فى العقود التالية. وكان لارتماء مصر فى أحضان السياسة الأمريكية أثره فى فقدانها الكثير من الظهير الإقليمى الشعبى الذى سبق وتمتعت به. من ناحية أخرى، فإن انخفاض جودة التعليم أدى إلى تدهور مستوى الخريج المصرى ومن ثم قدرته على المنافسة أمام كوادر أخرى سواء أمام خريجى دول عربية أخرى (كالشام والعراق) أو لجوء الكثير من الدول العربية إلى العمالة الآسيوية. خلال العقدين الأخيرين، بدأت مصر تفقد الريادة الإعلامية أيضا. فقد أصبح الفضاء الإعلامى أكثر منافسة بعد دخول مرحلة القنوات الفضائية من ناحية، ومن ناحية أخرى تدهور صناعة السينما والمسرح فى مصر. وليس أدل على ذلك من النجاح الساحق الذى حققته المسلسلات التركية فى العالم العربى والتى سحبت البساط من تحت نظيرتها المصرية فى السنوات الأخيرة. ويعنى هذا أن مصر فقدت ميزة نسبية لها فى هذا النطاق تتمثل فى المجالات التى كانت فى السابق حكرا على مصر مثل صناعة الفن والإعلام بشكل عام.
إذا انتقلنا إلى مجال القيم السياسية التى يمكن أن تعبر عنها السياسة المصرية فى هذه المرحلة، سنجد أن الوضع لا يخلو أيضا من الصعوبة. كانت ثورة 25 يناير فرصة ذهبية لمصر للبناء على نموذج ميدان التحرير وإعادة بناء القوة الناعمة لمصر. وكان التحرير قد لاقى قبولا وشهرة واسعة النطاق ظهرت فى محاولة استنساخ الميدان فى العواصم العالمية المختلفة من خلال حركة «احتلوا وول ستريت» ونظيرتها فى العواصم العالمية. إلا أن هذه الفرصة لم يتم البناء عليها، فمن الناحية الشكلية، لم يعد التحرير المدينة الفاضلة التى تم تصويرها فى ثورة 25 يناير. حيث ترك الميدان فريسة للباعة الجائلين والبلطجية ما يقرب من السنتين حتى تغير الوجه الحضارى الذى مثله أثناء الثورة. من ناحية أخرى، فإن القيم التى عكسها التحرير لم تدم. فقد انعكس المسار المتعثر والحزين الذى سلكته الثورة على الميدان والذى لم يعد بوتقة ينصهر فيها الجميع ولكن يتلون بلون التيار الذى يصل إليه أولا. ولم يحل مسار 3 يوليو المعضلة، بل زادها تعقيدا وهذا مربط الفرس فى صعوبة مهمة الوفود الشعبية فى هذه المرحلة. فقد ادعى المسار بداية لمصر جديدة، ولكن ما هذا الوجه الذى يراه العالم؟ وما هى مقوماته؟ والأهم كيف يمكن الدفاع عنه؟ هل هو وجه الدولة التى لا تميز بين العنف والتظاهر السلمى فى الكثير من الحالات؟ هل هى الدولة التى تحجب الرأى الآخر لمجرد اختلافه معها؟ هل هى الدولة التى تعتقل الفتيات الصغيرات عقابا على تعبيرهن عن اختلافهن؟ هل هى الدولة التى تدعى عدم التمييز بين المواطنين بناء على انتمائهم الدينى فى الوقت الذى تميز فيه بينهم على أساس انتمائهم السياسي؟ هل هو وجه الدولة التى تقيد الحق فى التظاهر الذى أعطى النظام القائم شرعيته من الناحية النظرية؟
إن أى محاولة لإعادة بناء مصر لقوتها الناعمة ينبغى أن تبدأ من إعادة ترتيب البيت من الداخل. ويكفى فى هذا السياق الإشارة إلى أن ثورة 25 يناير لم تحتج إلى من يسوقها عالميا، بل كان التماسك الداخلى للميدان أقوى من تأثير مئات الوفود. وكانت القيم السياسية والرسائل التى تبثها مصر للعالم واضحة لا لبس فيها: عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية. حاولت كثيرا أن أصل إلى القيم السياسية الإيجابية التى تمثلها مصر بعد 3 يوليو، فلم أجد إلا قيما سلبية تعكس واقع مجتمع فى أزمة. فقد تمحورت هذه القيم فى «ضد الإرهاب»، و«ضد الإخوان»، و«ضد الفوضى». وهو خطاب على الرغم من اكتسابه لمشاعر قطاع كبير من المواطنين بإعلائه للنظام والقانون بعد إنهاك شعبى من حالة الانفلات الأمنى، إلا أنه صعب تسويقه خارجيا. وهكذا فإن الوفود الشعبية التى تشكل من آن لآخر تفتقد لمقومات نجاح المهمة. فالمركز الثقافى الريادى لمصر قد اهتز بشدة، ومن ثم محاولة الاعتماد على عناصر الجذب السابقة غير واقعى على أقل تقدير. كما أن القيم السياسية التى تدعى مصر تبنيها ليست فقط غير واضحة، ولكنها متناقضة أيضا. فلا تستقيم ادعاءات بناء الديمقراطية ودولة القانون مع تقييد الحريات والعنف المفرط من قبل الأجهزة الأمنية ومحاكمات لا تنطبق عليها المعايير الدولية للعدالة، وخطاب إعلامى سياسى يعمق من مناخ الانقسام وعدم التسامح.
وأتساءل كيف كان وفد الدبلوماسية الشعبية سيرد إذا ما وجه إليه أحدهم التساؤلين التاليين: السؤال الأول: خلال الأيام الماضية تناقلت الصحف المصرية خبرين أساسيين. الأول: العقوبة المشددة التى وقعها النادى الرياضى الكبير على لاعب لمجرد أنه رفع علامة ذات معنى سياسى بعد إحرازه هدفا. وسبقت هذه الواقعة معاقبة لاعب الكونغ فو الذى حقق ميدالية ذهبية لمصر، بل وتهديد وزير الرياضة بحل اتحاد اللعبة بالكامل، أليس من الأولى أن يقوم الوفد بمحاورة هذه القطاعات الرافضة لما حدث فى 3 يوليو، واقناعها بوجهة نظره قبل أن يأتى إلى هنا واقناعنا بما فشل فى تحقيقه مع قطاع كبر أو صغر من الشعب المصري؟ السؤال الثاني: جاء تقرير لوكالة رويترز ليبرز أن مصر أسوأ مكان يمكن أن تعيش فيه المرأة فى العالم، ما هى خطط «مصر الجديدة» لمواجهة ذلك وكيف يمكن اقناعنا بعودة السياحة لمصر مرة أخرى؟ أليس من الأجدى أن توجه الدولة جهودها للتعامل مع المتحرشين فى الشارع بدلا من القبض على الفتيات الصغيرات المتظاهرات؟.