فلنبدأ بالقصص. فى 2006، اعتلى الشاب الوسيم المرشح للرئاسة المنصة ليخطب بين مؤيديه. كان محور برنامجه عن العدالة الاجتماعية، فى بلد حديث الديمقراطية، فقير رغم أنه منتج للنفط، يعانى من الديون الخارجية وتعثر فى السداد أكثر من مرة فى العقود الأخيرة. وفى كل مرة يعلن تعثره، تلزمه الدول والمؤسسات الدائنة بمزيد من الفوائد، وتقرضه ديونا جديدة كى يستطيع سداد القديمة، فيما يسمى بإعادة هيكلة القروض، وأسميها مصيدة القروض. وهكذا بين 1982 و2006، سددت الإكوادور مبالغ صخمة من أقساط ديون متراكمة وفوائد ومع ذلك زادت مديونيتها. حيث ارتفع صافى الدين الخارجى خلال تلك الفترة إلى 16,7 مليار، مقابل 6,7 فى بداية الثمانينيات برغم سدادها أكثر من مائة مليار دولار ما بين فوائد وأقساط. وكان صندوق النقد الدولى، كى يوافق على إقراض الاكوادور فى الثمانينيات قد اشترط تقليص الإنفاق على التعليم والصحة وتقليص آلاف الوظائف فى الحكومة وتقليص الدعم على البنزين والكهرباء. واستمرت هذه الاجراءات التقشفية إلى التسعينيات، ما نتج عنه تنامى الاحتجاجات الاجتماعية والإضرابات بل وتصاعد الاشتباكات الطائفية (تشابهت الحكايات؟). لهذا كله، وعد المرشح الشاب الذى درس بالولاياتالمتحدة وعمل بالبنك الدولى بأن يدقق ويراجع فى كل القروض التى أخذتها الحكومات السابقة، حتى إذا تأكد أنها قامت على فساد، سيتوقف فورا عن سدادها ليوجه موارد الدولة الشحيحة إلى ما يفيد عموم الشعب من تعليم وصحة. وقد كان، ما إن أصبح رئيسا حتى عين لجنة مستقلة لمراجعة الديون، من خبراء محليين ودوليين. وبعد عام كان تقرير اللجنة قد أثبت فسادا فى كثير من الديون. مفهوم «الديون الكريهة» لم يكن من اختراع لجنة المراجعين فى الاكوادور، ولكن المصطلح ظهر فى عشرينيات القرن العشرين، ليخلق جدلا قانونيا واسعا، سرعان ما خبى. ثم فى 2003، تبنته الولاياتالمتحدة لتعيده إلى دائرة الضوء. وفى هذا قصة أخرى. عبرة لمن يقترض فى 2003، عندما سقط العراق تحت الاحتلال الأمريكى، كانت تلك الدولة النفطية مثقلة بالديون الخارجية، فتذرعت أمريكا بأن سداد الاقساط والفوائد سيحرم الدولة من إعادة بناء المشافى والمدارس والطرق والكبارى، بعد حصار وتدمير دام أكثر من عشرة سنوات متواصلة.واستندت الولاياتالمتحدة إلى ذريعة فى القانون الدولى، هى الديون الكريهة، وهى الديون التى تعقدها الأنظمة الدكتاتورية بلا رقابة شعبية ولا تستخدم فى صالح الشعب، بل لفائدة النظام البائد. (كأن نقول ديون مبارك وليست ديون مصر). وافقت وقتها الدول الدائنة أن تسقط نصف ديون العراق الخارجية بعد تفاوض سهل، لأن تلك الدول، وفقا للقانون الدولى، كانت على علم بأنها تقرض نظاما شموليا بما يشمله ذلك من مخاطر سقوط ذلك النظام. وحيث أن أمريكا استخدمت المصطلح، فهذا يتيح للدول الأخرى خاصة حلفاءها أن تستخدمه أيضا. وقديما فى 1943، تخلصت البرازيل أيضا باستخدام الثقل السياسى من نصف ديونها بعد أن قامت بأكبر وأنجح عملية مراجعة وتدقيق للديون الخارجية فى التاريخ. حيث أثبتت اللجنة المكلفة من الحكومة المنتخبة حديثا بعملية المراجعة أن عمليات الاقتراض الخارجى شابها الإهمال والفساد من جانب المقرضين كما شابها عدم الدستورية فيما يتعلق بخطوات التعاقد. استنادا على هذا التقرير، استغلت البرازيل وضعها كحليف استراتيجى خلال الحرب العالمية الثانية، ودخلت فى مفاوضات مع الدائنين أسفرت عن إلغاء أكثر من نصف تلك الديون. وقد حذا حذوها فى ذاك الوقت 13 دولة فى أمريكا اللاتينية. باختصار، دائما ما وفر سقوط الأنظمة الديكتاتورية فرصة ذهبية للشعوب لكى تتخلص من قروض ذاك النظام. وقد تكون اللحظة الحالية فى مصر مواتية لانطلاق عملية التدقيق والمراجعة، تتبناها الحكومة ضمن برنامجها للعدالة الانتقالية. ولكن بدلا من ذلك، راحت تقترض فى شهور ما اقترضه مبارك فى عشر سنوات! (لن تنفقهم لا فى تعليم ولا صحة، كما صرح وزير المالية الحالى) بل وسوف تنفقهم فى غياب أى برلمان يناقش أولويات إنفاق تلك المبالغ الضخمة. فإذا كانت تلك الحكومة الانتقالية تريد أن تؤسس لنظام يقوم على الشفافية والعدالة، عليها أن تشرع فى الإعلان عن برنامج لمراجعة القروض. وها هى الأممالمتحدة تصدر حديثا «دليل الشطار من المقترضين والمقرضين»، تنادى فيه الدول المدينة بضرورة مراجعة ديونها والتدقيق فيها وتسمح لها بالامتناع عن سداد ما ثبت فساده. هذا المفهوم «مراجعة الديون» يعرفه أصحاب الشركات الكبرى ويثمنون فوائده، إذ إنه يؤدى إلى تخفيض سعر الفائدة على الاقتراض، ويسهل من شروطه ويحسن إجمالا من سمعة الشركة المالية. ولا تختلف الفكرة فى حالة الدول. وهو موجود بشكل رسمى فى بعض الولاياتالأمريكية وبعض الدول الاسكندنافية، كما تقوم كل الدول بمراجعة قروضها ولكن عن طريق مؤسسات الدولة، وليس تدقيقا مستقلا. واستنادا إلى دليل الأممالمتحدة، بدأت النرويج فى مراجعة القروض التى أقرضتها لدول الربيع العربى، ولكنها تبقى مراجعة من طرف واحد، لا تشترك فيها مصر لا حكومة ولا منظمات أهلية. قل ديون مبارك ولا تقل ديون مصر لا شك فى أن أى وزير مالية مصرى يحلم بمعجزة تخلصه بين ليلة وضحاها من تلال الديون وفوائدها التى تلتهم خمس الانفاق الحكومى كل سنة. 2011/2012، بلغت مدفوعات الفوائد على القروض ضعف الإنفاق الحكومى على التعليم، بل كان أكبر من مجموع الإنفاق على التعليم والصحة والمعاشات مجتمعين. وفيما يتعلق بقروض مبارك، فقد قدرت إحدى المنظمات المعنية بقروض العالم الثالث أن مصر دفعت ما قيمته 80 مليار دولار منذ 1981، فى شكل فوائد وأقساط للقروض الخارجية فى حين بقيت مصر-عشية الثورة- مدينة بأكثر من 30 مليار دولار. وساء الوضع بعد الثورة بتسريع معدلات الاقتراض من الخارج ليجاوز ال50 مليارا. وها هى التجارب الدولية تمدنا بفكرة جريئة من شأنها أن تعدل المائلة وتحرر بين عشية وضحاها عشرات المليارات من الجنيهات المصرية كل سنة للإنفاق على التعليم والصحة وتحديث البنية التحتية فى الصناعة والزراعة. ويمكن أن تمتد عمليات التدقيق فى كل من الديون المحلية والخارجية، خاصة أن تعريف الديون الكريهة ينطبق من حيث المبدأ على تلك القروض التى تقدر بمئات المليارات، سواء أقرتها برلمانات مبارك المزورة، أو أقرها المجلس العسكرى وبعده مرسى فى غياب البرلمان. كما لم تستخدم فى إحداث نهضة تعليمية أو صحية بالبلاد، بل لفائدة مجموعة محدودة من محاسيب النظام الحاكم أو شراء أسلحة قد لا تمثل أولوية فى دولة نصف مواطنيها فقراء. وفى حين يقوم الجهاز المركزى للمحاسبات بعملية مراجعة لكل قرض (فى حالة الاقتراض الخارجى)، إلا أن تقاريره غير منشورة من ناحية، كما أن التدقيق يجب أن يشمل أيضا الجانب الاجتماعى وليس فقط الفنى أو التقنى. فمثلا، إذا اقترضت الدولة لتوصيل خط مياه نظيفة لمدينة السادات، واتبعت كل الخطوات السليمة عند التعاقد وعند السداد، سيكون تقرير الجهاز إيجابيا. ولكن وحده التدقيق الاجتماعى المستقل سيكتشف أن هذا الخط تم إيصاله إلى منزل أو مصنع أحد المقربين إلى النظام ليستفيد منه بشكل شخصى، أو لمشروعه على حساب باقى سكان المدينة، أو أن الألوية كانت لمنطقة أخرى أكثر تكدسا بالسكان، ويكون السداد على حساب «صاحب المحل»، أى من جيوب المصريين. وهكذا، دققوا تصحوا.