اندلعت مظاهرات فى كل من تركيا والبرازيل.. فهل هناك ارتباط بينها بل السؤال الأكثر إلحاحا هل لهما علاقة بما يحدث فى مصر. تقديرنا أن الحالات الثلاث متشابهة فى أن المظاهرات فيها جاءت نتاجا لتهميش الشباب بعد أن نكرت لهم النخب والحكومات فى الدول الثلاث الحق فى المشاركة السياسية العادلة والاستفادة بالقدر الكافى من عوائد النمو الاقتصادى الذى تحقق بمعدلات كبيرة فى الأعوام الماضية. هذا عن أوجه التشابه، فماذا عن الاختلافات وعن طريقة تعامل كل حكومة مع ما تواجهه من تطلعات الشعب. ففى هذه الحالة يبدو الوضع مختلفا ما بين تصرّف هادئ يراعى مطالب الجماهير، وآخر متكبر يرى أن تغطية أحداث هذه المظاهرات اتّسم بالمبالغة وأن وراءها مؤامرة للنيل من الحكومة وانجازاتها، وثالث يغلب على تعامله مع الأوضاع حالة من الانفصال عن الواقع مع إرجاع أسبابها إلى نظريات المؤامرة داخليا وخارجيا.
وليكن تناولنا للحالات الثلاث بدءا من التعامل مع النموذج الأكثر إدراكا للمشكلة وانفتاحا على الواقع بشكل أكثر سرعة مرورا بما هو أقل تكيّفا وعدم قدرة على احتواء تفاقم الوضع.
●●●
فإذا ما نظرنا إلى طريقة تعامل الحكومة البرازيلية مع المظاهرات نجد أنها بدأت بالاعتراف بوجود مشكلة والتسليم بأن رد الفعل المبدئى فى التعامل معها كان خاطئا من حيث الإفراط فى استخدام العنف وتنادى توصيف طرفى النزاع بأنهما من معسكرين مختفلين، حيث نجد رئيسة الجمهورية البرازيلية وقد سارعت بإلغاء زيارة لها لليابان لتؤكد لجموع الشعب ماهية أولوياتها. أما فى تركيا، فقد ظلت الحكومة غافلة عن وطأة الأزمة وحجمها، واستنكرت على المتظاهرين حقوقهم الكاملة فى التظاهر وهى التى حقّقت من الإنجازات الاقتصادية الكثير، واتّسمت ردود فعل رئيس الحكومة التركية إزاء هذه الأزمة بالغطرسة، ولم يلغ أردوغان رحلته إلى الجزائر والمغرب، ومع ذلك كان يوجد اتجاه ديمقراطى داخل حزب العدالة والتنمية أكثر مرونة، الأمر الذى يفتح المجال أمام تعامل أكثر إيجابية فى مرحلة لاحقة مع طلبات المعارضة.
أما فى مصر، فلا يبدو أن هناك اعترافا من الحكومة بعدالة مطالب المعارضين أو رغبة حقيقية منها فى دمجهم فى عملية تقاسم السلطة، إذ يظل النظام سائرا فى منهجه القائم على التمكين بغض النظر عما يدور من حوله من ظروف غير مواتية حتى إذا كان الواقع الشعبى رافضا لذلك، كما يظل استخدام القوة للتصدّى للمتمردين وللخارجين عن القانون هو الخيار الحاسم الذى يتوافق مع ما يستشعره النظام من أحقّية فى الانفراد بالسلطة وعدم رغبة فى الانفتاح الكامل على الآخر.
●●●
ولكن ما إذن تفسير هذا التباين فى طريقة تصرف ثلاث حكومات لدول يجمعها الكثير من الخصائص؟ إن الردّ على ذلك يكمن فى تقديرى فى عاملين أساسيين الأول طبيعة التجربة الديمقراطية فى البلاد الثلاث، والثانى الإطار الزمنى المسموح لكل منها لاحتواء المظاهرات أو حالة السخط الشعبى السائد.
فعلى الرغم من أن البرازيل مازالت ديمقراطية منقوصة بسبب تأثيرات سوء توزيع الدخل، إلا أنه لا يمكن أن ننكر أن الشعب البرازيلى هو الأقرب لثقافة الديمقراطية وأن الحكومات المتعاقبة فيها هى الأكثر ممارسة لها.
على صعيد آخر فإن الوقت المُتاح للحكومة للتعامل مع هذه المظاهرات مرتبط بانتخابات عامة عام 2014، فسيكون على الحكومة إيجاد التوازن اللازم بين تلبية طلبات المتظاهرين من تحسين الخدمات الصحية والتعليم ومكافحة الفساد وهو ما بدأت فيه بالفعل باقتراح حزمة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة لتحقيق النضوج فى الديمقراطية البرازيلية وبين توفير المواد المالية المطلوبة لإنجاح كأس العالم لكرة القدم العام القادم.
●●●
أما فى تركيا فإن تجربتها الديمقراطية فريدة للغاية لأن الحقوق السياسية وتداول السلطة فيها يرتبط بمفهوم الهوية، إذ ظلت الديمقراطية فى تركيا منذ انتهاء الخلافة مرتبطة بألا تتعدّى حدود الحفاظ على علمانية الدولة وكانت محاطة فى الكثير من الأحيان بحماية الجيش ومن ثم لم تكن أبدا ديمقراطية مكتملة أو مطلقة حتى صعد الإسلاميون إلى الحكم، الذين وإن وعدوا باستمرار الحفاظ على علمانية الدولة، لم يلتزموا كليا بالتمسك بما اعتاد عليه الشعب التركى طيلة هذه السنين من تراجع نسبى فى مكانة الدين سعيا لتقليد النموذج الغربى، فعلى الرغم من الصحوة الإسلامية التى أتى بها أردوغان والتغير الذى شاب ملامح المجتمع نحو المزيد من «الأسلمة»، إلا أن ذلك لا ينفى أن قطاعات كبيرة من الشعب التركى لاتزال شديدة التمسك بالعلمانية الكمالية. أما الوقت المُتاح للحكومة التركية للتعامل مع الأزمة فهو أيضا مرتبط بالاستحقاق الانتخابى فى عام 2014، أى أن الضغط الجماهيرى لن ينصب على حدث تنظمه الحكومة يرى الشعب أنه ليس ذا أولوية كما هو الحال فى البرازيل، ولكنه كفيل بإسقاط الحكومة إذا لم تتحسن أموره.
●●●
وفى مصر فإن الوضع يختلف كثيرا، فلاتزال التجربة الديمقراطية تحبو وفى مراحلها الأولى فتتقدم خطوة للأمام ثم تعود خطوتين إلى الوراء، ولاتزال ثقافة التعدّدية وقبول الآخر واختلاف الرأى وصيانة المؤسسات والفصل بين السلطات والتوحد مع الإبقاء على الاختلافات هى ثقافة غير مترسخة. أما عن الفسحة المُتاحة للحكومة لإيجاد حل يُرضى الجماهير ويوقف الحشد التصعيدى، قد يكون نهايتها يوم 30/6/2013.
فالقيادة المصرية أمامها خياران لا ثالث لهما، إما أن تمدّ يدها الى المعارضة حتى تتوصل كافة الأطراف الى اتفاق يسمح بتصحيح مسار عملية التحوّل الديمقراطى، وإما الاستمرار فى السياسة الحالية من تجاهل أو الالتفاف على مطالب المعارضة ومن ثم إطالة مرحلة التحوّل الديمقراطى الذى سيتمّ فى كل الأحوال عاجلا أم آجلا. المشكلة هى الثمن الذى سيدفعه الشعب المصرى.