أودعت محكمة جنايات القاهرة برئاسة المستشار مكرم عواد، حيثيات "أسباب" حكمها الصادر أمس بإدانة 43 متهمًا في قضية التمويل الأجنبي غير المشروع للمجتمع المدني، والتي تراوحت فيها الأحكام ما بين الحبس لمدة عام واحد وحتى السجن لمدة 5 سنوات وغرامات مالية. وقالت المحكمة في حيثيات حكمها: إنها اطمأنت إلى شهادة شهود الإثبات، وهم كل من: الدكتورة فايزة أبو النجا، وزير التعاون الدولي السابق، وكذلك شهادة السفير مروان زكي، المشرف على مكتب الوزيرة، وأسامة عبد المنعم شلتوت، مدير شئون المنظمات غير الحكومية بوزارة الخارجية، وليلى أحمد بهاء الدين، نائب مساعد وزير الخارجية لشئون حقوق الإنسان، وعزيزة يوسف رئيسة الإدارة المركزية للجمعيات والاتحادات بمنظمات التضامن والعدالة الاجتماعية.
وأضافت المحكمة أنها تطمئن كذلك إلى صحة ما جاء من معلومات بتحريات الأمن الوطني وهيئة الرقابة الإدارية ومباحث الأموال العامة، وما جاء بتقرير لجنة تقصي الحقائق المشكلة في هذا الشأن، وما قرره المتهمون أمام قاضي التحقيق (المستشار سامح أبو زيد) من قيامهم بتأسيس هذه الفروع لتلك المنظمات، وتمويلها من المراكز الرئيسية للمنظمات بالولاياتالمتحدةالأمريكية، وكذلك من ألمانيا، وما أسفر عنه الضبط والتفتيش لمقر المنظمات الذي تم بمعرفة النيابة العامة.
وأشارت المحكمة إلى أن "التمويل" أصبح أحد الآليات العالمية التي تشكل في إطارها العلاقات الدولية بين مانح ومستقبل، وأنه أصبح أحد أشكال السيطرة والهيمنة الجديدة، واصفة إياه بمثابة "استعمار ناعم" أقل كلفة من حيث الخسائر والمقاومة من السلاح العسكري تنتهجه الدول المانحة لزعزعة أمن واستقرار الدول المستقبلة التي يراد إضعافها وتفكيكها.
وقالت المحكمة: "إنه في ظل النظام البائد تقزمت مكانة مصر الإقليمية والدولية وانبطح (النظام) أمام المشيئة الأمريكية في مد جسور التطبيع بين مصر وإسرائيل، فبرز على السطح "التمويل الأجنبي" لمنظمات المجتمع المدني، بدعوة الدعم الخارجي والحوار مع الآخر ودعم الديمقراطية والحكم ومنظمات حقوق الإنسان، وغيرها من المسميات التي يستترون في ظلها وقد أفرغوها من محتواها الحقيقي".
وأشارت المحكمة إلى أن: "الهدف من وراء هذا اختراق أمن مصر القومي وإفناء موجباته، وتقويض بنيان مؤسسات الدولة، وتفكيك أجهزتها، وصولًا لتقسيم المجتمع وتفتيته، وإعادة تشكيل نسيجه الوطني، وخريطته الطائفية والسياسية، بما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية التي كانت تعلو، في ظل النظام السابق، على صالح الوطن العام للشعب المصري وبلاده".
وذكرت المحكمة في حيثيات حكمها أنه "إزاء تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر وإحساس الشعب بضعف ورخاوة الدولة وتفككها بأنه ترك مصيره في يد جماعات سياسية (عصابة) تحكمها المصالح الخاصة، ولا يحكمها الولاء للوطن، اندلعت في 25 يناير 2011 ثورة شعبية حقيقية لإزاحة هذا الركام عن كاهل الشعب المصري، وكسر قيود الهيمنة والتبعية والارتهان الإسرائيلي التي أدمت معصم كل مصري.. واستعادت الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية التي غابت عن مصر كثيرًا".
وأضافت المحكمة "أن الثورة أطاحت بالقائمين على السلطة، ومهدت الطريق نحو بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة، فأوجس ذلك في نفس الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الداعمة لإسرائيل خيفة ورعبًا، فكان رد فعل أمريكا أنها رمت بكل ثقلها ضد هذا التغيير الذي لم تعد آلياتها القديمة قادرة على احتوائه، ومن ثم اتخذت مسألة التمويل أبعادًا جديدة في محاولة لاحتواء الثورة وتحريف مساراتها وتوجيهها لخدمة مصالحها و مصالح إسرائيل".
وأوضحت المحكمة "أن من مظاهر ذلك تأسيس فروع لمنظمات أجنبية تابعة لها (أمريكا) داخل مصر خارج الأطر الشرعية؛ لتقوم بالعديد من الأنشطة ذات الطابع السياسي التي لا يجوز على الإطلاق الترخيص بها لما يمثله من إخلال بمبدأ السيادة الوطنية، وهو المبدأ المتعارف عليه، والمستقر في القانون الدولي، ويعاقب على انتهاكه في كافة دول العالم ومن بينها الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها".
وأشارت المحكمة إلى أن "الجانب الألماني قام عن طريق المركز الرئيسي لمنظمة كونراد إليناورد الألمانية، بتمويل القائمين على تلك المنظمة من أجل إدارة نشاط سياسي لا يجوز الترخيص به أصلًا، حيث قام بتنفيذ المئات من برامج التدريب السياسي وورش العمل، وتمويل العديد من الأشخاص الطبيعيين والمنظمات والكائنات غير المرخص لها بالعمل الأهلي والمدني، وذلك لا يجوز الترخيص به لإخلاله بسيادة الدولة المصرية".
وردت المحكمة على الدفوع التي أبداها محامو المتهمين، من جهلهم بالقانون الخاص بالجمعيات الأهلية، حيث قالت المحكمة: إن العلم بأن القانون الجنائي والقوانين العقابية المكملة له مفترض في حق الكافة، ومن ثم لا يقبل الدفع بالجهل كذريعة لنفي القصد الجنائي.
وأكدت المحكمة أن قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية رقم 84 لسنة 2002 ذو جزاء جنائي، ومن ثم فهو بهذا الاعتبار قانون مكمل لقانون العقوبات، وله حكم قانون العقوبات، ومن ثم لا ينفي الغلط فيها القصد الجنائي، وبالتالي فإن كون المتهم غير عالم بأن المنظمة غير مرخص بها من الحكومة هو أمر لا ينفي لديه القصد الجنائي، ويعتبر جهلًا منه بحكم القاعدة الجنائية ذاتها، وهو جهل لا يصلح عذرًا طالما أن هذه القاعدة الجنائية تفرض على المخاطب بها التزام التحري عن المنظمة التي يعمل بها قبل إقدامه على ذلك، فإن غفل عن هذا التحري وفرط في أداء الالتزام به، فلا يلومن إلا نفسه، فهذا الإهمال والقصد يعتبران شيئًا واحدًا.
وأشارت المحكمة إلى أن المادة 76 من قانون الجمعيات الأهلية بالباب الخامس منه، قد أحال إلى قانون العقوبات أو أي قانون آخر إذا كان به عقوبة أشد من العقوبة الواردة في شأن الجرائم المنصوص عليها بالمادة 76، موضحة أنه لما كانت الجرائم المسندة للمتهمين يعاقب عليها قانون العقوبات بعقوبات أشد من العقوبات الواردة بقانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية، فمن ثم وجب إعمال مواد الاتهام الواردة بقانون العقوبات المنصوص عليها فيها ولا مجال لإعمال القانون الأصلح للمتهم.
وردت المحكمة على الدفع الذي أبداه دفاع المتهمين من منظمة كونراد الألمانية بشأن تقادم الجريمة، موضحة أن الاتهام المسند للمتهمين أنهم أداروا بغير ترخيص من الحكومة المصرية فرع منظمة ذات صفة دولية، وتسلموا أموالًا مقابل ارتكاب تلك الجريمة، مشيرة إلى أن الجريمة المسندة إلى المتهمين ليست تأسيس فرع لمنظمة، ولكن إدارة فرع لمنظمة، وهي طبيعة الفعل المادي فيها جريمة مستمرة لا تبدأ المدة المقررة بانقضاء الدعوى الجنائية بمضي المدة إلا عند انتهاء حالة الاستمرار، وهو استمرار تجددي ويظل المتهم مرتكبًا للجريمة في كل وقت وتقع جريمته تحت طائلة العقاب مادامت حالة الاستمرار قائمة ولم تنته بعد.
وأكدت المحكمة أنه لا يجوز لأي منظمة أجنبية غير حكومية ممارسة العمل في مصر أو فتح فروع لها إلا بعد إبرام اتفاق نمطي مع وزارة الخارجية المصرية وإرساله لوزارة التضامن والعدالة الاجتماعية؛ ليقوم بتسجيل فرع المنظمة بالوزارة، مشيرة إلى أنه لا يترتب على مجرد تقديم الطلب أي آثار قانونية تجيز لتلك المنظمات الأجنبية غير الحكومية العمل في مصر لاختلاف وضعها عن الجمعيات والمؤسسات الأهلية المصرية التي يتيح لها القانون التأسيس وممارسة العمل بعد إخطار وزارة التضامن بذلك إذا لم تقم الوزارة بالاعتراض على التأسيس أو رفضه بعد 60 يومًا من ذلك الإخطار، ومن ثم يستوي في عدم وجود التصريح أو الترخيص أن تكون المنظمة قد تقدمت بطلب للحصول عليه من الجهات المعنية، ولم يبت في هذا الطلب أو صادف رفضًا أو لم تتقدم المنظمة بطلب على الإطلاق.
وقالت المحكمة: "إن الحقيقة الثانية أن من يدفع المال فهو يدفع وفق أجندته الخاصة التي حددها ويريد تحقيقها، وهي في الغالب تتناقض مع الأهداف النبيلة للمنظمات التطوعية الساعية إلى توعية وتطوير المجتمع والدفاع عن الحقوق الإنسانية". معتبرة أن التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية يمثل حجر عثرة أمام مصر التي يريدها شعبها.