حيثيات حكم قضية التمويل الأجنبي الصادر بمعاقبة 27 متهما غيابيا بالسجن 5 سنوات وبمعاقبة 5 آخرين حضوريا بالحبس سنتين، وبمعاقبة 11 آخرين بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، وتغريم كل متهم 1000 جنيه، وغلق جميع مقار وأفرع 'المعهد الجمهوري الحر' و'الديمقراطي الأمريكي' و'فريدم هاوس' و'كونراد أديناورد' الألمانية علي مستوي محافظات الجمهورية، ومصادرة أموالها والأوراق التي ضبطت بها. واستهلت المحكمة أسباب حكمها بمقدمة أوضحت بها أن التمويل أصبح أحد الآليات العالمية التي تشكل في إطارها العلاقات الدولية بين مانح ومستقبل، والتمويل شكل من أشكال السيطرة والهيمنة الجديدة، وهو يعد استعماراً ناعما أقل كلفة من حيث الخسائر والمقاومة من السلاح العسكري، تنتهجه الدول المانحة لزعزة أمن واستقرار الدول المستقبلة، التي يراد إضعافها وتفكيكها. وفي ظل النظام البائد، الذي قزم من مكانة مصر الإقليمية والدولية وانبطح أمام المشيئة الأمريكية في مد جسور التطبيع بين مصر وإسرائيل، برز علي السطح 'التمويل الأجنبي' لمنظمات المجتمع المدني كأحد مظاهر هذا التطبيع، بدعوي الدعم الخارجي والحوار مع الآخر ودعم الديمقراطية الحكم ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من المسميات التي يتدارون ويستترون في ظلها قد أفرغوها من محتواها الحقيقي وطبعوا عليها مطامعهم وإعراضهم في اختراق أمن مصر القومي وإفناء موجباته وتقويض بنيان مؤسسات الدولة وتفكيك أجهزتها وصولا لتقسيم المجتمع وتفتيته، وإعادة تشكيل نسجيه الوطني وخريطته الطائفية والسياسية بما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية التي كانت تعلو، في ظل النظام السابق، علي صالح الوطن العام للشعب المصري وبلاده.. وإزاء تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر وإحساس الشعب بضعف ورخاوة الدولة وتفككها بأنه ترك مصيره في يد جماعات سياسية 'عصابة' تحكمها المصالح الخاصة ولا يحكمها الولاء للوطن، اندلعت في 25 يناير 2011 ثورة شعبية حقيقية لإزاحة هذا الركام عن كاهل الشعب المصري وكسر قيود الهيمنة والتبعية والارتهان الإسرائيلي التي أدمت معصم كل مصري، واستعادت الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية التي غابت عن مصر كثيرا.. فأطاحت بالقائمين علي السلطة ومهدت الطريق نحو بناء دولة يدمقراطية مدنية حديثة.. فأوجس ذلك في نفس الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الداعمة للكهيان الصهيوني خيفةً ورعباً، فكان رد فعل أمريكا أنها رمت بكل ثقلها ضد هذا التغيير الذي لم تعد آلياتها القديمة قادرة علي احتوائه، ومن ثم اتخذت مسألة التمويل الأمريكي أبعادا جديدة في محاولة لاحتواء الثورة وتحريف مساراتها وتوجيهها لخدمة مصالحها ومصالح إسرائيل، فكان من مظاهره تأسيس فروع لمنظمات أجنبية تابعة لها داخل مصر، خارج الأطر الشريعية لتقوم بالعديد من الأنشطة ذات الطابع السياسي التي لا يجوز علي الإطلاق الترخيص بها للإخلال بمبدأ 'السيادة'، وهو المبدأ المتعارف عليه والمستقر في القانون الدولي ويعاقب عليه في كافة دول العالم ومن بينها الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها. وأضافت المحكمة أن الجانب الألماني مول عن طريق المركز الرئيسي لمنظمة 'كونراد أديناورد' الألمانية، القائمين علي تلك المنظمة، من أجل إدارة نشاط سياسي لا يجوز الترخيص به، حيث نفذ المئات من برامج التدريب السياسي وورش العمل وتمويل العديد من الأشخاص الطبيعيين والمنظمات والكائنات غير المرخص لها بالعمل الأهلي والمدني، وذلك لا يجوز الترخيص به لإخلاله بسيادة الدولة المصرية. وأوضحت المحكمة أنها اطمئنت إلي شهادة كل من فايزة أبو النجا وزيرة التخطيط والتعاون الدولي الأسبق، والسفير مروان زكي بدر المشرف علي مكتب وزيرة التعاون الدولي، وأسامة عبد المنعم شلتوت مدير شؤون المنظمات غير الحكومية بوزراة الخارجية، وليلي أحمد بهاء الدين نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون حقوق الإنسان، وعزيزة يوسف رئيسة الإدارة المركزية للجمعيات والاتحادات بمنظمات التضامن والعدالة الاجتماعية وتحريات الأمن الوطني والرقابة الإدارية والأموال العامة وما جاء بتقرير لجنة تقصي الحقائق وما قرره المتهمون أمام قاضي التحقيق بقيامهم بتأسيس هذه الفروع من تلك المنظمات وتمويلها من المراكز الرئيسية للمنظمات بالولاياتالمتحدةالأمريكية وكذلك من ألمانيا، وما أسفر عنه الضبط والتفتيش لمقر المنظمات الذي تم بمعرفة النيابة العامة. وردت المحكمة علي دفاع المتهمين بشأن الاعتذار بجهل المتهمين بالقانون بأن العلم بأن القانون الجنائي والقانونين العقابية المكملة له مفترض في حق الكافة، ومن ثم لا يقبل الدفع بالجهل والغلط فيه كذريعة لنفي القصد الجنائي، وأن قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية رقم 84 لسنة 2002 ذو جزاء جنائي، ومن ثم فهو بهذا الاعتبار قانون مكمل لقانون العقوبات فله حكم قانون العقوبات، ومن ثم لا ينفي الغلط فيها القصد الجنائي، وبالتالي فإن كون المتهم غير عالم بأن المنظمة غير مرخص بها من الحكومة أمر لا ينفي لديه القصد الجنائي، إذ يعتبر جهلا منه بحكم القاعدة الجنائية ذاتها، وهو جهل لا يصلح عذرا طالما أن هذه القاعدة الجنائية تفرض علي المخاطب بها التزام التحري عن المنظمة التي يعمل بها قبل إقدامه علي ذلك، فإن هو أغفل عن هذا التحري وفرط في أداء الالتزام به فلا يلومن إلا نفسه، فهذا الإهمال والقصد يعتبران شيئا واحدا. وتناولت المحكمة أيضا ما أثارته هيئة الدفاع عن المتهمين من أن الاتهامات المسندة إليهم تحكمها المواد التي جاءت في قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية رقم 84 لسنة 2002، واللاحقة في تاريخها علي المواد المضافة لقانون العقوبات، وهي الأصلح للمتهمين، وبحسبان أن مواد الاتهام الواردة بقانون العقوبات ملغاة بموجب نص المادة 7 بالمواد إصدار قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية، قالت المحكمة في هذا الدفع بقولها أن القانون الجنائي يحكم ما يقع في ظله من جرائم إلي أن تزول عنه القوة الملزمة لقانون لاحق، وأن تغيير الدستور لا يلغي الجريمة التي مازالت في نظر المشرع معاقب عليها من وقت حصوله حتي الآن مؤدي ذلك تطبيق مواد الاتهام الواردة في قانون العقوبات. أما ما أثاره الدفاع بتطبيق قانون الجمعيات باعتباره الأصلح للمتهمين ردت عليه المحكمة بأن المادة 76 من قانون الجمعيات المذكور بالباب الخامس منه، أحال علي قانون العقوبات أو أي قانون آخر إذا كان به عقوبة أشد من العقوبة الواردة في المادة 76 ولما كان الجرائم المسندة للمتهمين يعاقب عليها قانون العقوبات بعقوبات أشد من العقوبات الورادة بقانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ومن ثم وجب إعمال مواد الاتهام الواردة بقانون العقوبات المنصوص عليها فيها، ولا مجال لإعمال القانون الأصلح للمتهم. وأضافت المحكمة بأنه بشأن ما أثاره دفاع المتهمين عن المنظمة الألمانية 'كونراد أديناورد' من تقادم الجريمة التي يحاكم بشأنها المتهمين بمضي المدة، فقد ردت المحكمة علي ذلك بأن الاتهام المسند للمتهمين من أنهم أدارا بغير ترخيص من الحكومة المصرية فرع لمنظمة ذات صفة دولية بغير ترخيص من الحكومة المصرية، وتسلما أموالا مقابل ارتكابهما تلك الجريمة، وأن الجريمة المسندة إليهما هي ليست تأسيس فرع لمنظمة ولكن إدارة فرع لمنظمة، وهي طبيعة الفعل المادي فيها جريمة مستمرة لا تبدأ المدة المقررة بانقضاء الدعوي الجنائية بمضي المدة إلا عند انتهاء حالة الاستمرار.. وهو استمرار تجددي ويظل المتهم مرتكبا للجريمة في كل وقت وتقع جريمته تحت طائلة العقاب مادامت حالة الاستمرار قائمة ولم تنته بعد. وأوضحت المحكمة في سياق ما أثاره الدفاع بشأن تقديم بعض المنظمات بطلبات أمام وزارة الخارجية للحصول علي تصاريح بالعمل منذ عام 2005، ولم يبت في هذه الطلبات ما يعد تصريحا ضمنياً بالعمل، بأنه لا يجوز لأي منظمة أجنبية غير حكومية ممارسة العمل في مصر أو فتح فروع لها إلا بعد إبرام اتفاق نمطي مع وزارة الخارجية المصرية، وإرساله لوزارة التضامن والعدالة الاجتماعية ليقوم بتسجيل فرع المنظمة بالوزراة، وأنه لا يترتب علي مجرد تقديم الطلب أي آثار قانونية تجيز لتلك المنظمات الأجنبية غير الحكومية العمل في مصر، لاختلاف وضعها عن الجمعيات والمؤسسات الأهلية المصرية التي يتيح لها القانون التأسيس وممارسة العمل بعد إخطار وزارة التضامن بذلك، إذا لم تقم الوزارة بالاعتراض علي التأسيسي أو رفضه بعد 60 يوما من ذلك الإخطار، ومن ثم يستوي في عدم وجود التصريح أو الترخيص أن تكون المنظمة قد تقدمت بطلب للحصول عليه من الجهات المعنية ولم يبت في هذا الطلب أو صادف رفضا أو لا يكون تقدمت المنظمة بطلب علي الإطلاق. وانتهت المحكمة في حيثيات حكمها إلي 3 حقائق، أولا: لا يُتصور عقلا ومنطقا بأن لأمريكا أو لغيرها من الدول الداعمة للكيان الصهيوني أي مصلحة أو رغبة حقيقية في قيام ديمقراطية حقيقية في مصر، فالواقع والتاريخ يؤكد بأن تلك الدول لديها عقيدة راسخة أن مصالحها تتحق بسهولة ويسر مع ديكتاتوريات العاملة ويلحقها الضرر مع الديمقراطيات الحقيقية. والحقيقة الثانية أن من يدفع المال فهو يدفع وفق أجندات خاصة تحددها وإستراتيجيات تريد تحقيقها من ورائها وأهداف ينبغي الحصول عليها، وهي في الغالب تتناقض مع الأهداف النبيلة للمنظمات التطوعية الساعية إلي توعية وتطوير المجتمع والدفاع عن الحقوق الإنسانية. وتتمثل الحقيقة الثالثة في أن التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية يمثل حجر عثرة أمام مصر، التي يريدها شعبها، ولكن في الوقت ذاته يمهد الطريق أمام مصر التي يريدها أعداؤها. وأنهت المحكمة حيثياتها بالآية الكريمة 'ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين'.