هناك تساؤل يثار بين حين وآخر حول كيفية نمو المعرفة، اليوم يطرح تصور جديد يتحدى الفكرة القائلة إن البيولوجيا وحدها هى التى قادت إلى نشوء المهارات العقلية، إن ما يبرهن عليه هو أن قدرات مثل طاقة الإبداع والمهارات اللغوية والعمل هى نتيجة لعملية مستمرة من التخصيب الثقافى بالتفاعل مع العالم الذى نعيش فيه، سواء مع أناس آخرين أو أشياء مادية أخرى. هذه الفكرة تذهب إلى أن العقل البشرى دائم التغيير يتفاعل مع كل متغير فى الحياة سواء كان هذا المتغير ثقافيا أو أشياء أو تقنيات جديدة، على نحو ما تفاعل الإنسان مع ابتكار البردى كمادة لتسجيل يومياته كوثيقة ترتقى بالتعاملات بين البشر لسلم أعلى فى الإنجاز الحضارى، وكتفاعله اليوم مع الهاتف النقال بتقنياته المتعددة التى تغير مفهوم الاتصال ونقل المعلومات.
يرجح علماء الآثار أن أول ظهور للإنسان على الأرض منذ حوالى 200،000 سنة مضت، مرت منها 140،000 سنة دون تحول كبير فى نمط حياة هذا الإنسان، أو ظهور بوادر لخطوات تنبئ عن تقدم ما فى حياته، فماذا حدث وأدى إلى تحول فى قدرة الإنسان على التفكير والابتكار، كابتكار الأدوات الحجرية والرسم على الكهوف؟ هذا السؤال كان مثار جدل بين العديد من الباحثين فى نقاش علمى جرى بجامعة كمبردج بالمملكة المتحدة عام 2007 تحت عنوان «العقل البشرى الحكيم».
إن القائلين بتطور العقل الإنسانى بيولوجيًا يذهبون إلى أن الإنسان استغرق 140،000 عامًا لكى ينمو عقله بيولوجيًا، لكن الحقيقة أن هذه الحقبة الزمنية الطويلة تكونت خلالها المجموعات البشرية، وتحولت الجماعة إلى قبيلة، واكتسبت خبرات التحرك كمجموعات فى الغابات وأحراشها. إن خبرة التعامل مع محيط الإنسان كانت هى الخبرة التى استنفدت الكثير من السنوات من الإنسان، لتبدأ الذاكرة الإنسانية مرحلة الاحتفاظ بذكريات الماضى والتعرف على الموجودات الحاضرة وتخطيط المستقبل وتصوره. إن الفرق بين البشر والحيوانات فى مجال القدرة العقلية، هو ترجمة حياة المجتمع البشرى إلى قوة مشتركة لمصلحة البشر، أكثر فاعلية بكثير من تحرك مجموعات الحيوانات التى يقتصر دورها إما على الهرب من الحيوانات الأخرى المهاجمة أو الهجوم المنفرد على حيوانات أخرى، فالبشر تمكنوا من التعاون فى مهام مثل استخدام القوة المتحدة لعدد من الأفراد لتحريك شيء ثقيل أو الصيد معًا، هنا يظهر البون بين الإنسان والحيوان، فالأخير لا يجيد سوى التقليد، بينما الأول طور مهاراته عبر السنين، فالقدرة على التعلم هى أبرز مميزات الإنسان التى ساعدته على تنمية ذاكرته والبناء على مخزونها خبرات متراكمة، فالحيوانات تتعلم من خلال الملاحظة العشوائية لما تقوم به الحيوانات الأخرى، ومن النادر جدًا تعرف الحيوانات على قيمة الابتكار.
أدرك الإنسان أهمية القدرة على تخمين نوايا الآخرين، ففى خلال عملية التدريس يدرك كل من المدرس والطالب نوايا الآخر، ولا تكون نظرة الطالب للمدرس هى نظرة الملاحظة العشوائية، لكن الطالب المنتبه جيدًا يضيف لنفسه أكثر من مجرد ملاحظة، بإعمال العقل فيما يطرح عليه، هنا تصبح عملية التعلم أكثر فاعلية.
يرى دويت ريد؛ أحد علماء الأنثروبولوجيا فى جامعة كاليفورنيا، أن النقطة الحاسمة فى تاريخ تطور الحضارة، كانت منذ عشرة آلاف سنة، عندما تغيرت علاقة البشر بالأشياء المحيطة بهم بوضوح، ففى هذا الوقت تقريبًا بدأت مجموعات من الصيادين وممن يجمعون الثمار فى استبدال معدات صيد الحيوانات، باستئناسها وإقامة حظائر لها، وبزراعة المحاصيل ثم جنى ثمارها، بدلاً من مجرد التقاطها من الأشجار، هنا فعل الإنسان تحول إلى الإنجاز، ويضيف دويت ريد: «وبالتالى أصبح حل المشكلات بديلاً للتنقل من مكان لآخر»، هذا يعنى ظهور القدرة على التعليم المنظم والقدرة على العمل والقدرة على حل المشكلات، وظهرت قدرة العقل على التكيف مع التغيير الثقافى فتفتقت عبقرية الإنسان.
لطرح تساؤل هام أيضًا حول علاقة قدرة الإنسان على الابتكار وعلاقة ذلك باللغة، لقد قام ديترايتش ستاوت وزملاؤه فى كلية لندن بعمل مسح ضوئى للمخ لدى ممارسة ثلاثة من علماء الأنثروبولوجى صنع أدوات مماثلة لأخرى تعود للعصر الحجرى، وتوصلوا إلى أن الأجزاء التى نشطت فى المخ عند هؤلاء العلماء هى نفسها الأجزاء المستخدمة فى اللغة. ويقول ستاوت: «إن تكوين جملة معقدة وصنع أداة يشكلان تحديين متشابهين ومن ثم تكون العملية الرئيسية وراءهما متشابهة، فهى تعتمد على أجزاء متداخلة من المخ».
كان سكوت فرى من جامعة أوريجون قد توصل بعد دراسة مرضى إصابات المخ، وبعد عمل مسوح للأفراد الأصحاء إلى أن مناطق الفص الأيسر من المخ حاسمة فى قدرة الإنسان على استخدام الأدوات، وتظهر تلك المناطق كذلك كمحرك لقدراتنا على القيام بإشارات رمزية، هذه المناطق لو دمرت أو دمر بعضها يؤثر ذلك على قدرة الإنسان على الحراك. مراكز النطق فى المخ الإنسانى تؤكد أن اللغة مكون أساسى فى الإنسان مثلها مثل الحواس التى لديه، والتى لها مراكز مماثلة فى المخ، ومن هنا فإن القول بأن اللغة ابتكار إنسانى خالص، قول فى حاجة إلى المزيد من البرهنة على صحته، فاللغة فى بدايتها كانت محدودة لمحدودية حاجة الإنسان لها الذى طورها وأكسبها يومًا بعد يوم مرادفات جديدة تعبر عن تطور الحياة اليومية لديه، فاللغة كائن حى يتطور ويكتسب الجديد يومًا بعد يوم.
لم تكن اللغة فى بداية الحضارة الإنسانية سوى أداة تواصل بين الأفراد ثم يبن الجماعة والجماعات الأخرى ثم بين الأمم، ومع تنامى أعداد البشر وتفوقهم، اختلفت اللغات وتفاعلت مع البيئة المحيطة بها.
إن قدرة الإنسان على التفكير تجعله مختلفًا عن سائر الكائنات، وتقع الأجزاء المسئولة عن التفكير فى القشرة الخارجية للمخ، وهى مع مراكز الذاكرة فى المخ تساعدنا على الربط بين الماضى والحاضر وتصور المستقبل.
والسؤال الذى نختم به، لماذا لم ينمِ القرد ذاكرته بيولوجيًا على غرار الإنسان البدائى أو إنسان الغابة الذى يرى بعض العلماء أن الذاكرة نمت لديه بيولوجيًا، أم الإنسان خُلق والذاكرة جزء أساسى منه؟