يتحدث البيان المالى لمشروع موازنة العام الجديد عن حزمة اجراءات اصلاحية تسعى الحكومة لتطبيقها بما يحقق وفورات مالية تصل فى اجماليها الى 42.6 مليار جنيه، وتشمل جنى 13.1 مليار جنيه من ايرادات غير ضريبية، لا تمثل عبئا على المواطنين، مثل طرح رخص للاتصالات واستغلال المناجم والمحاجر، أو اجراءات لتحسين الاداء الضريبى، كتحقيق 1.1 مليار جنيه من خلال تجريم عدم اصدار الفاتورة الضريبية، الا ان تلك الوفورات تبدو فى مجملها ضئيلة امام الحصيلة المتوقعة من التعديلين الرئيسيين فى ميزانية الدولة للعام الجديد، وهما تعديلات ضريبة المبيعات، والتى ستحقق نحو 15 مليار جنيه، واجراءات تحرير دعم الطاقة، والذى يحقق 36.3 مليار جنيه وفرا للموازنة. وكلا الإجراءين سينعكسان بشكل مباشر على مستويات تكاليف معيشة القاعدة العريضة من المواطنين، كما توقع العديد من دراسات بنوك الاستثمار. ولا يستهدف مشروع الموازنة تحقيق نمو كبير فى بنود النفقات الاجتماعية فى العام المالى الجديد، رغم ان «أى اصلاحات كإعادة هيكلة الدعم بدون نظام موازٍ للحماية الاجتماعية لن تنجح»، كما يقول محمد معيط، خبير السياسات الاجتماعية ونائب رئيس هيئة الرقابة المالية.
فموازنة الصحة التى دخل الاطباء فى اضرابات طويلة من اجل رفعها، لم تزد سوى بنسبة طفيفة لم تتجاوز 0.2%، لتصل إلى 6.5% من صافى الانفاق العام. وبينما يتوقع الخبراء تأثر الفئات الاجتماعية المهمشة من اجراءات تحرير الدعم فإن نصيب الانفاق على نظم المعاشات والضمان الاجتماعى ارتفع بنسبة طفيفة ايضا، 0.3%، ليبلغ 10.9% من اجمالى الانفاق.
ولم تظهر فى الموازنة التحويلات النقدية التى تقدم للأسر لتخفيف آثار تحرير الدعم على الاكثر فقرا، رغم تحدث مسئولين حكوميين عن تطبيقها، ولكن ظهرت زيادة واضحة فى قائمة الدعم والمنح المزايا الاجتماعية تحت بند «نفقات اخرى»، والتى ارتفعت من 3 مليارات جنيه الى 5.2 مليار جنيه، دون توضيح لتفاصيل تلك الزيادة الكبيرة. وفى المقابل تظهر زيادات ملموسة فى مجالات كدعم تنمية الصعيد، فرغم ضآلة حجمه بالنظر للاحتياجات التنموية لتلك المنطقة، زادت مخصصاته فى العام الجديد الى 600 مليون جنيه مقابل 200 مليون فى العام الماضى، كما ارتفع بند دعم المزارعين بشكل كبير الى 2.9 مليار جنيه، مقابل 572.5 مليون فى العام السابق، والذى يشتمل على دعم شراء محصول القمح المحلى ودعم فروق أسعار الفائدة على قروض الفلاحين.
«الانفاق الاجتماعى فى الموازنة لم يأت برؤية واضحة تضمن عدم سقوط فئات من المجتمع فى الفقر بسبب اجراءات الوفر المالى» يقول سامر عطا الله، استاذ الاقتصاد بالجامعة الامريكية، «هذا العام تجتمع على المواطن ازمة تحرير سعر الدولار والتضخم الذى قد ينتج عن تحرير اسعار الطاقة، وكان يجب ان تتوافر بالتزامن مع حزم متكاملة من الخدمات الاجتماعية كإعانة البطالة واعانة التضخم».
موازنة جديدة بنفس المتاعب الصحية
يعانى قطاع التأمين الصحى من مشكلات عدة ابرزها انخفاض مستوى جودة الخدمات التى يقدمها، وهو ما يتسبب فى عدم اعتماد المواطنين عليها، فبينما تقول البيانات الرسمية إن التأمين الصحى يغطى أكثر من 60% من المواطنين، يقدر الخبراء أن من يعتمدون عليه فعليا تتراوح نسبتهم بين 15% الى 25%. ولم يظهر فى موازنة العام الجديد نموا كبيرا فى حجم ما تخصصه الدولة لدعم هذا القطاع، اذ ارتفعت مخصصات دعم التأمين الصحى والادوية هذا العام بنسبة 17.4% الى 820 مليون جنيه.
ولكن على مستوى الاصلاحات الهيكلية أعلنت الحكومة مؤخرا عن مشروع قانون جديد للتأمين الصحى يستهدف تغطية النسبة الغالبة من المواطنين بخدماته من خلال حساب اشتراكات التأمين على الأجر الفعلى، وليس الاساسى، وادخال القطاع الخاص فى تقديم الخدمة مع القطاع العام، على أن تتكفل الدولة بتحمل تكاليف الخدمة على 30% من المصريين من غير القادرين.
ويرى حقوقيون أن القانون الجديد يفتقد الى العدالة فى توزيع اعباء خدمة التأمين الصحى الجديدة «لقد تغاضى القانون عن حساب بدلات تدخل فى اجور الادارات العليا ضمن الاجر الفعلى الذى سيختصم منه اشتراك التأمين، مما يقلل العبء على الفئات الأعلى دخلا»، كما يقول علاء غنام، الخبير بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، مضيفا أن تعريف القانون ل«غير القادرين» الذين ستتحمل الدولة تكاليف تأمينهم «جاء غامضا، مما قد يحرم شرائح من المحتاجين من الحصول الدعم».
وواجه القانون اعتراضات من الحقوقيين بسبب زيادته لرسوم فى خدمات التأمين مثل فرض رسم 5 جنيهات على كل علبة دواء «هذه الرسوم هدفها ترشيد استخدام الدواء وردع من يحصلون عليه ولا يحتاجونه، ولكنها لن تمثل قيمة كبيرة فى ايرادات تمويل النظام التأمينى» كما يقول معيط.
الا ان غنام يرى أن الرسوم الجديدة، كثلاثة جنيهات للممارس العام وخمسة جنيهات للاخصائى، لن تردع اساءة الاستخدام بقدر ما ستعوق تقديم الخدمة، مشيرا الى ان زيادة الرسوم امتدت الى رفع تكاليف التأمين على الاطفال وطلبة المدارس من 4 جنيهات الى حد ادنى 60 جنيها سنويا «الطفل المصرى مسئولية الدولة فى جميع الجوانب التعليمية والصحية والاجتماعية».
ربط قيمة اشتراك التأمين الصحى بالتضخم جاء ايضا غير عادل برأى البعض لأن «متوسطات زيادة الاجور الفعلية عادة ما تكون أقل من مستويات التضخم»، كما يقول احمد شكرى رشاد، خبير السياسات الصحية مضيفا «القانون يتحدث عن توفير ثلث مصادر تمويل الخدمات الصحية من ضرائب على مجالات كالتدخين معتبرا انه بذلك يدعم الاكثر فقرا بإيرادات من شرائح اعلى دخلا، بالرغم من ان المسح الصحى الديموجرافى لعام 2008 أظهر ان الشريحة الأغنى فى المجتمع هى الاقل تدخينا».
تخبط فى سياسات المعاشات
رسميا من المفترض أن يبدأ قانون التأمينات الجديد الذى اعدته حكومة احمد نظيف فى التطبيق، مع بداية السنة المالية فى يوليو المقبل، وعمليا فإن وزارة التأمينات الاجتماعية أعلنت عن تعديلات على القانون القديم، لسنة 1975، ولكن هذه التعديلات لم تصل الى مجلس الشورى بعد ان ابدت نقابة المعاشات اعتراضات عليها، ولاتزال محل تفاوض بين النقابة والوزارة.
تلك العقبات التى تؤجل اصلاح منظومة الدعم وتدفع المواطنين لمواجهة برنامج التوفير المالى وتحرير الدعم بمنظومة التأمينات الحالية «هناك معاشات متدنية الى مستويات غير معقولة، وهناك حالات لمواطنين يسددون اشتراكات المعاشات لمدة 20 سنة ويحصلون فى النهاية على 230 جنيها فى الشهر»، كما يقول سعيد الصباغ، امين نقابة المعاشات.
ولا تقوم 30% من شركات القطاع الخاص بسداد اشتراكات التأمينات على كل او بعض موظفيها، و40% من موظفى القطاع الخاص يدفعون الاشتراكات على اجور رسمية تقل بكثير عن اجورهم الفعلية، بحسب دراسة لبرنامج الاممالمتحدة الانمائى.
وكان وزير المالية السابق يوسف بطرس غالى قد قدم قانونا للتأمينات يقوم على تقدير بأن النظام الحالى من غير الممكن استمراره من الناحية المالية، وارتكزت المنظومة الجديدة على حساب اشتراكات التأمينات للداخلين الجدد فى النظام على اساس الدخل الشامل وليس الاجر الاساسى، وربط المعاش بمعدل التضخم، مع رفع سن المعاشات تدريجيا الى 65 سنة، مما يزيد من سنوات دفع الاشتراكات التأمينية على المواطنين، كما استهدف مشروع غالى العمل تدريجيا على تحسين اوضاع الذين يحصلون على المعاشات بالنظام القديم.
بينما ارتكزت التعديلات التى قدمتها وزارة التأمينات الحالية على رفع الحد الأدنى لإجمالى المعاش إلى 65% من الحد الأدنى لأجر الاشتراك التأمينى، شاملا جميع الزيادة والعلاوات فى تاريخ الاستحقاق، مما سيزيد نسبيا من القيمة الفعلية للمعاشات، وكذلك ربط المعاشات بالتضخم بشرط ضمان زيادة عائد الاستثمار على اموال التأمينات الى 9%. «انتقصت التعديلات الجديدة من امتيازات النظام القائم، كزيادة المدة المطلوبة للحصول على معاش مبكر من 240 شهرا من الاشتراك التأمينى، الى 360 شهرا»، يقول الصباغ.