فجر رفع سعر أنبوبة البوتاجاز قنبلة «الطاقة» التى تخاف الحكومات المتعاقبة من المساس بها خوفا من الغضب الشعبى ..وتنذر الطوابير الطويلة لسيارات نقل الركاب والبضائع امام محطات السولار بانفجارات أخرى قادمة، مع خطة الحكومة لهيكلة دعم الطاقة، وما يترتب عليه من رفع لأسعار الوقود، الذى يجده طالبوه أصلا بصعوبة. قد تدفع مؤشرات الموازنة العامة للدولة إلى الانحياز لوجهة النظر الحكومية فى ضرورة تحرير أسعار الطاقة نظرا لعبء بنودها المختلفة على الموازنة، لكن على أرض الواقع وبالبحث فى موازنة مواطنين ممن يشكلون قطاعات واسعة من مستخدمى الطاقة المدعومة، كالسائقين والمزارعين، تظهر مصاعب تحمل زيادة تكاليف الطاقة وإمكانية انعكاسها على أسعار السلع والخدمات، كما تظهر مشكلات فى التطبيق كالتى واجهت بعض الصناعات الصغيرة فى عدم التزام الوكلاء الموزعين للطاقة بالأسعار التى حددتها الحكومة.. وبين تفاقم عجز الموازنة العامة وعجز موازنة المواطنين ينتظر الواقع المالى المصرى حلا للمشكلة.
معركة البحث عن «الجراكن» لإنقاذ المحاصيل
تنتظر الفلاحين ثلاث أزمات، أولها على بعد أيام مع قدوم موسم الحصاد الذى يحتاجون فيه إلى السولار لتشغيل الماكينات الخاصة بتلك العملية، والثانية أبعد قليلا ستبدأ مع اشتداد حرارة الصيف التى تتسبب فى تشغيل ماكينات الرى بمعدلات أعلى، أما الأزمة الثالثة فقد تستمر معهم إلى الابد فى حال رفع أسعار هذا الوقود فى اطار سياسات تحرير أسعار الطاقة.
«مع ارتفاع الحرارة ونقص الوقود اللازم للرى تعرضت مساحات واسعة من أفدنة القمح لدينا للتدمير»، كما يقول محمد عطية، المزارع بالوادى الجديد، وهو الوضع الذى اضطر بعض الفلاحين فى مناطق أخرى لشراء السولار من السوق السوداء وتحمل خسائر فرق الاسعار، «عندما نتوجه لشراء السولار من المحطات لا يأخذ الفلاح سوى جركن واحد 20 لترا، مما يدفعه إلى شراء باقى احتياجاته من السماسرة بضعف الثمن تقريبا»، بحسب على رجب، النقابى الفلاحى بكفرالشيخ.
ويشعر فلاحون مثل رجب بالقلق من المعلومات المنتشرة عن تحرير اسعار السولار من خلال توفير حصة مدعومة للفلاحين، نظرا لاختلاف احتياجات الارض الزراعية للطاقة من محصول لآخر، مما قد يضطر قطاعات من الفلاحين لتحمل تكاليف الطاقة بالسعر الحر فى حال عدم كفاية الحصة المدعومة للعملية الزراعية، «فمحصول الارز على سبيل المثال الذى تشتهر به محافظتنا كثيف الاستهلاك للمياه ويحتاج لكميات كبيرة من الوقود لتنفيذ عملية الرى».
«أى منظومة لتحرير سعر السولار يجب أن تضمن عدم ارتفاع سعر الطاقة على الفلاح لأن ذلك سيتسبب فى افقار قطاع واسع من المصريين»، كما يقول حمدى الصوالحى، الاستشارى بمركز معلومات مجلس الوزراء، مشيرا إلى أن متوسط صافى عائد الفدان للفلاح يصل إلى نحو 5000 جنيه فى السنة، ومع شيوع نظام الملكيات الصغيرة بالقطاع الفلاحى، فإن نحو 80% من الملكيات أقل من فدانين، وبالتالى فإن «عوائد الاراضى تكفى بالكاد معيشة أسرة من 6 أو 7 افراد عند حدود الفقر».
ويشير الصوالحى إلى أن ارتفاع تكاليف الطاقة على الفلاحين قد يتسبب فى هجرهم لزراعة محاصيل استراتيجية مثل القمح والاتجاه لمحاصيل لا تحتاج إلى تشغيل الآلات بشكل واسع مثل البرسيم، وكذلك التقليل من زراعة محاصيل تحتاج لعمليات رى واسعة مثل قصب السكر والأرز.
«ميكروباص الأهالى» ينتظر الوقود «ميكروباص الأهالى».. هو الاسم المشهور لوسيلة النقل الشعبية التى أصبحت من الاساسيات فى حياة المواطنين مع ضعف الاستثمارات الحكومية فى النقل العام نسبة إلى زيادة السكان. وهو القطاع الذى نظم عددا من الاضرابات القوية خلال الفترة الماضية اعتراضا على نقص الوقود الذى يعتمد عليه، السولار، ويترقب سائقوه مدى جدية الحكومة فى تحرير اسعار السولار، الذى سيسبب زيادة قوية فى أسعار تلك الخدمة، كما يقول السائقين.
وبالرغم من العشوائية فى اسلوب القيادة، وتهالك مستوى العديد من عربات الميكروباص، الا أن تلك الوسيلة العامة شهدت اقبالا متزايدا عليها على مدى السنوات الماضية فى ظل غياب وسائل النقل الحكومية. فبحسب دراسة لبرنامج الاممالمتحدة الانمائى، كانت بداية الاعتماد على الميكروباص فى القاهرة الكبرى فى عام 1978 وتصاعدت معدلات استخدامها بشكل مضطرد لتصل إلى نحو 40% فى مطلع القرن الواحد والعشرين، مقابل تراجع الاعتماد على الباصات العامة من 70% فى بداية السبعينيات إلى نحو 20%.
هذه الخدمة التى شهد المواطنون تعطلها خلال الايام الماضية بسبب سلسلة من اعتراضات السائقين على نقص السولار، قد تشهد المزيد من التأثر باحتجاجات السائقين فى حال استمرار نقص الوقود أو تحرير أسعاره. «لقد انخفضت ساعات عملنا بسبب نقص السولار فى المحطات وانخفض معها الدخل اليومى للسائق من نحو 50 جنيها إلى 25 جنيها»، كما يقول خالد الجمصى، القيادى بإحدى روابط سائقى المايكروباص فى منطقة حلوان، مضيفا «لقد نظمنا اضرابات على مستوى الجمهورية فى أكثر من عشر محافظات وهو الوضع الذى قد يستمر فى حال استمرار الضغوط الاقتصادية علينا».
وتقترح الحكومة تحرير أسعار السولار لتقليل معدلات التهريب، على أن تمنح سائقى المايكروباص 10 آلاف لتر سولار سنويا مدعومة السعر، بما يعادل نحو 30 لتر يوميا، «هذا لا يكفى إلا وقود نصف يوم، وهو ما سيتسبب فى رفع سعر الخدمة بشكل قوى على المواطنين»، على حد قول الجمصى. الذى يشير إلى أن السائقين يحاولون كسب تضامن المواطنين معهم لحل أزمة السولار بدون إلقاء العبء الاقتصادى على سائقى العربات أو تكلفة النقل «لقد توجهنا ببياناتنا إلى المواطنين خلال الاضرابات الماضية وقلنا لهم إن فشل احتجاجاتنا سينعكس على تكاليف النقل ونأمل أن يساندونا».
ولا يرى الجمصى حلا لمشكلة السولار الا فى استمرار دعم الدولة له وتوفير الاموال اللازمة لهذا الدعم من خلال توزيع عادل للثروة، «لقد جاءت الحكومة للسلطة من اجل اعادة توزيع الثروة.. نحن لا نستطيع أن نتحمل أسعار السولار المحررة فى ظل الضغوط الواقعة، صاحب الميكروباص يقسم ربحه على السائق والتباع ويتحمل تكاليف الصيانة وفى كثير من الاحيان يستدين لكى يجدد الرخصة».
شريان نقل البضائع تحت رحمة السولار
على الطريق السريع قد تعطلك العديد من الاختناقات المرورية هذه الايام، بسبب طوابير الوقود الطويلة للمقطورات التى تنقل البضائع. عملية النقل تلك التى تعد شريان الحياة لتحريك السلع الاساسية من أغذية ومواد بناء داخل مصر يقوم عليها عشرات الآلاف من الكيانات الصغيرة المالكة لمقطورات النقل، والتى تترقب تطورات أزمة السولار وسيناريوهات تحريره.
وقد كان اصحاب المقطورات أبطالا لإحدى المعارك الاخيرة للنظام القديم، مع وزير المالية الأسبق، يوسف بطرس غالى، عندما رغبت حكومته فى إلغاء المقطورات والتحول للعمل بسيارات «التريلا»، بدعوى انها أكثر امانا فى الحركة على الطرق، وبالتالى تقلل من الحوادث. وبالرغم من سيطرة الملكيات الصغيرة المفتتة على القطاع الا انه استطاع تنظيم اضرابات مؤثرة ضد هذا القرار، وانتهت المعركة إلى تأجيل تطبيقه لأكثر من مرة.
ومع تصاعد أزمة نقص السولار يتجدد سخط ملاك المقطورات تجاه الحكومة، وهم لا يرون أن تحرير سعره سيحل المشكلة، «لا يمكن أن نتعامل بالأسعار العالمية لأنها أكبر بكثير من مستويات الاسعار التى نتعامل بها فى السوق المحلية»، كما يقول وحيد الدهراوى، صاحب مقطورات بكفر الزيات، والذى يرى أن تشديد الرقابة على التهريب هو الحل لتلك الازمة وليس تحرير الاسعار.
وتحتاج السيارة حمولة 100 طن إلى 600 لتر سولار ل«نقلة» البضائع، كما يسميها اصحاب المقطورات، تكفى لقطع مسافة 1200 كيلو، بينما ينخفض استهلاك السولار مع انخفاض الاوزان، يضيف الدهراوى. وتطرح الحكومة توفير حصص مدعمة للمقطورات قد تغطى جزءا من احتياجاتها «المقطورات الكبيرة تنقل سلعا حيوية مثل مواد البناء التى قد تتأثر اسعارها بشكل قوى فى حال تحرير سعر السولار، وقد تتأثر السلع الغذائية ايضا، ولكن بدرجة أقل اذا ما تم الالتزام بنقلها بأوزان خفيفة»، كما يوضح الدهراوى.
الدهراوى مثل الكثير من السائقين يشترون السولار حاليا بسعر أعلى من سعره الحكومى بما يتراوح بين 10 قروش و50 قرشا للتر، ويعتقد أن الاجهزة الحكومة لا تقوم بواجبها فى مكافحة تهريب السولار، «طلبت من أحد اعضاء مجلس الشورى تغليظ العقوبة لوقف التهريب، فقال لى إن الحكومة ترغب فى ذلك ولكن بعض الاجهزة الحكومية لا تريد تنفيذه، معتبرا أن هذه هى مشكلة الدولة العميقة».
مصانع الطوب فريسة لاستغلال الوكلاء عندما علم مدحت رمضان، صاحب مصنع طوب بكفرالشيخ، بقرار الحكومة رفع أسعار المازوت، ليصل الطن بعد تكاليف النقل إلى 1620 جنيها، اعاد ترتيب حساباته ليتعامل مع أسعار الطاقة الجديدة على هذا الاساس، ولكنه فوجئ برفع الوكيل المسئول عن توصيل الوقود من محطات التوزيع للسعر إلى 1800 جنيه. وما بين ما تعلنه الحكومة وبين السعر الذى يتعامل به فى الواقع يواجه رمضان ضغوطا اقتصادية هو والعاملين بمصنعه الصغير.
كان المازوت أحد ابرز بنود الطاقة التى بادرت الحكومة لتحريرها ضمن اعادة هيكلة دعم المواد البترولية المقدمة للصناعة، والتى اشتملت ايضا على رفع أسعار الغاز لصناعات مثل الاسمنت، والذى دفع شركات الاسمنت إلى رفع سعر الطن بنحو 200 جنيه فى شهر واحد. وقامت أيضا بعض مصانع الطوب بتحميل التكلفة على المستهلك، وأخرى لم تقدر على ذلك مثل مصنع مدحت رمضان، «هناك مناطق اتفقت فيها المصانع على رفع السعر، واخرى تتنافس فيها المصانع مع بعضها، بما لا يسمح بمثل هذا الاتفاق، مثل المنطقة التى اعمل بها، لذا اضطررت للعمل بنفس الاسعار السابقة وتحمل الخسارة».
وقد زاد من الخسارة التى قرر رمضان تحملها رفع الوكيل الذى يوصل إليه المازوت لسعر الطن عن السعر الذى أقرته الحكومة بعد التحرير، وحلا لتلك المشكلة أعلن وزير البترول امكانية أن يوقع اصحاب المصانع عقودا ثنائية بينهم وبين شركات التوزيع مباشرة. «اعتمد العديد من المصنعين بمنطقتنا علىّ لاستكشاف كيفية عمل هذا العقد الثنائى، حتى يتبعونى بعد ذلك، لكننى فوجئت بأكثر من شركة لتوزيع المواد البترولية تقول إنه ليس لديها أى علم بقرار الوزير».
وخاض رمضان رحلة طويلة بين المؤسسات الحكومية وشركات التوزيع انتهت إلى تسليم اوراقه لإحدى الشركات دون تحديد موعد لعمل العقد الثنائى، «الخسائر التى اتعرض لها اضطرتنى إلى ايقاف المصنع لبعض الوقت وهو ما مثل عبئا قويا على العمال لأنهم يعملون باليومية، واى يوم يمثل خسارة كبيرة لهم، مما دفعهم إلى قطع الطريق احتجاجا على هذه الاوضاع».
ومن المتوقع أن تتزايد الاعباء مصانع الطوب مع اتجاه الحكومة لتطبيق مرحلة جديدة من رفع اسعار المازوت لم يحدد موعدها بعد.