لم أعتد على أحاديث الذكريات، لأن فيها نوعا من الاستغراق فى الذات، مثل من يطيل النظر فى المرآة، وهو سلوك لا أحبه وأجتنبه، وحسبى أن أهتم بما يثور من مسائل الحياة العامة وما استطيع تقديمه للناس من حولى. أكتب هذه المقدمة لأننى بصدد أن أقدم للقارئ أمرا هو من الذكريات الخاصة، وأنا أقدمه لأنه يتناول مسألة عامة أود أن أثير الاهتمام بها، وهى تتعلق بشأن من شئون القضاء المصرى وإدارة أموره، وأرجو أن أوفق فى عرضها. لقد كانت ثارت معى وكتبت فيها وطالبت بحلها أثناء عملى بمحكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة فى ربيع سنة 1977.
وما يستدعى إثارة هذه المسألة الآن أن صدر الدستور الجديد، وأن ثمة العديد من القوانين ينتظر التعديل ليتلاءم مع أحكام الدستور، ومن ذلك قوانين السلطة القضائية، وأظنها مناسبة صالحة لمعالجة ما يستدعى العلاج من نظم تشكيل المحاكم ودوائرها وسد الثغرات فى هذا الشأن.
إننا نعرف أن اختصاصات المحاكم تتحدد بالقانون، حسب التصنيف العام للقضايا، جنائية أو مدنية أو إدارية أو دستورية أو أحوال شخصية، ثم تتحدد بالقانون أيضا مستويات المحاكم حسب الأهمية الموضوعية للقضايا وطرق الطعن فى الأحكام، وكل ذلك يتحدد بصياغات عامة ومجردة يتعين بالأوصاف الموضوعية للقضايا ومناط بمحاكم وقضاة معروفين بتخصصاتهم الموضوعية أيضا بوصفهم جماعات ذوى تأهل معين.
ثم يأتى بعد ذلك دور توزيع القضايا المحددة بذاتها على القضاة المحددين بذواتهم فى تشكيلات دوائر محددة، وهو الدور الذى فيه تعرض قضية بذاتها على قاض أو دائرة قضاة معنيين بأسمائهم فى كل سنة، هذه الخطوة أوكلتها قوانين السلطة القضائية للجمعيات العمومية للمحاكم، فكل جمعية تتكون من مجموع قضاة المحكمة تجتمع فى بدء كل سنة قضائية، وتحدد القضايا المتجانسة فى نوعياتها وتعين لها من بينها أسماء قضاة الدوائر التى تنظرها فى هذه السنة القضائية.
هذه هى الخطوة التى تتحدد فيها قضايا بذاتها لتنظر أمام قضاة بذاتهم، وقد تطلب القانون أن يتخذ هذه الخطوة لا رئيس معين ولا أفراد بذواتهم ولكن كلف بها الجمعية العمومية بجمعها كله، أى طالب بها مجموع قضاة المحكمة كلهم، ذلك أن أى قرار فردى إنما يثور بشأنه احتمال أن يتأثر بالدوافع الذاتية لهذا الفرد الذى يتخذه، وكلما زاد عدد من يتخذون القرار كلما ضعف أثر النوازع الفردية لكل منهم فيه، وهنا تطلب القانون أقصى أنواع انتفاء النوازع الفردية بأن تطلب من جميع القضاة أن يكونوا هم بجمعهم كله من يتخذ قرار توزيع القضايا على ذات القضاة.
نحن نستخلص من ذلك جملة من المبادئ القانونية السائدة والتى يتعين أن تسود. أولها ألا يختار قاض بذاته لنظر دعوى بذاتها، وثانيها ألا يتحدد قاضى الدعوى بعد أن تتحدد الدعوى، ثالثها أن الأمر يخضع فى ذلك للتصنيفات الموضوعية للدعاوى والتأهلات الموضوعية للقضاة، ورابعها ألا يختار فى نهاية قضايا بذاتها وبتجانسها الموضوعى لنظر قضاة بأشخاصهم إلا بقرار جماعى يصدر من الجمعية العمومية للقضاة بالمحكمة. وخامسها انه لا يجوز للجمعية العمومية أن تفرض رئيسا لها فى هذا الأمر، لا عند بدء العام القضائى ولا أثناءه.
ولكن حدث أن استدعت زيادة أعداد القضايا أن بدأت تشكل دوائر المحاكم من أعداد تزيد بها كل دائرة عن العدد القانونى ثم توزع بينهم القضايا حسب ما يقرر رئيس الدائرة. فالدوائر المحددة بالقانون بثلاثة قضاة لكل منها أو خمسة يسمى لها من القضاة عدد أكثر، وهذا ما جرى به العمل كثيرا فى السنوات الأخيرة، وهو ما يتعين أن يعالج فى القانون بنصوص مانعة أو منظمة له تنظيما يوجب الالتزام الصارم بفكرة ألا يحدد القاضى بذاته بعد ان تتحدد الدعوى بذاتها بغير قرار أو نظام موضوعى يصفه القانون وتمارسه الجمعيات العمومية.
وأن هذه المذكرة التى أعدت فى سنة 1977 تشمل هذا الأمر، وهى لم تنفذ وإن كانت بعض الدوائر قد وضعت أعرافا لنظام موضوعى لتوزيع القضايا بين قضاة الدائرة. والأكثرية لم تلتزم بذلك. وأرجو أن يوضع لذلك علاج فى تعديل قانون السلطة القضائية والحمد لله..
السيد الأستاذ المستشار رئيس مجلس الدولة
تحية طيبة وبعد،
أتشرف بأن أنوه لسيادتكم أن الجمعية العمومية لمستشارى محكمة القضاء الإدارى، كلفتنى بأن أعرض على سيادتكم المذكرة التالية، بشأن التشكيل الحالى لدوائر محكمة القضاء الإدارى ومدى مطابقته لأحكام القانون.
وكانت الجمعية قد انعقدت فى 18 أبريل سنة 1977 لإلحاقى بالدائرة الخامسة نقلا من الدائرة الأولى بالمحكمة ذاتها بعد أن اعترض الزميل المستشار عبدالفتاح صقر على هذا النقل بما لم يمكن به إصدار القرار بطريق التمرير، وفى الاجتماع أبدى الزميل المستشار عددا من الملاحظات تتعلق بتشكيل دوائر المحكمة وبنظام النقل بين الدوائر، وما ينبغى أن يلتزم فيه من قواعد منضبطة، خاصة إذا تم النقل خلال العام القضائى.
وبالنسبة لى، فمع موافقتى على النقل، أبديت ملاحظة وحيدة تتعلق بتشكيل دوائر المحكمة، إذ جرى العمل على تشكيل هذه الدوائر فى صورة هيئات موسعة من المستشارين لكل دائرة، ويتجاوز عدد أعضاء الهيئة العدد المحدد قانونا لكل دائرة، ويتناوب مستشارو كل هيئة قضايا الدائرة على طرق شتى تختلف منهجا وسياقا بين كل هيئة وأخرى، وتلتقى فى النهاية بأن يكون عدد الموقعين على الحكم الواحد فى القضية الواحدة ثلاثة من أعضاء الهيئة هم من حدد القانون عددهم للدائرة. وأبديت وجهة نظرى تعليقا على هذا الوضع ومدى مخالفته لأحكام القانون وللأصول العامة التى تنظم تشكيل الدوائر وتكفل للمحاكم أداء رسالتها السامية على النحو الصائب.
وبعد مناقشة الجمعية لهذه الملاحظة، رأى السادة الزملاء المستشارون، أن المسألة المثارة تتعلق بمنهج لتنظيم الدوائر لا يقتصر على محكمة القضاء الإدارى، لكنه يشمل غيرها من محاكم مجلس الدولة، الأمر الذى يتعين معه بحث أن تجرى دراسته على هذا المستوى الشامل. ومن ثم قررت الجمعية تكليفى بإعداد هذه المذكرة وعرضها على سيادتكم. وهو ما أتشرف بتنفيذه الآن.
والحاصل أن محكمة القضاء الإدارى تتكون من خمس دوائر صنفت قضاياها تصنيفا نوعيا، ومن دائرتين استئنافيتين وواحدة إقليمية بالإسكندرية. ولكل من هذه الدوائر هيئة من المستشارين شكلتها الجمعية العمومية للمحكمة، ويتراوح عددها بين ستة أو سبعة وبين أربعة من المستشارين وفقا لحجم العمل فى كل منها.
والحاصل أن المادة/4 من القانون رقم 47 لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة، قد عرضت لتشكيل دوائر المحكمة الإدارية العليا ومحكمة القضاء الإدارى، ونصت بالنسبة للأولى على أن «تصدر أحكامها من دوائر من خمسة مستشارين»، وبالنسبة للثانية على أن «تصدر أحكامها من دوائر تشكل كل منها من ثلاثة مستشارين. ويحدد اختصاص كل دائرة من دوائر محكمة القضاء الإدارى بقرار من رئيس مجلس الدولة». ونصت المادة/55 على أن تجتمع كل من المحكمة الإدارية العليا ومحكمة القضاء الإدارى بهيئة جمعية عمومية للنظر فى المسائل المتصلة بنظامها وأمورنا الداخلية وتوزيع الأعمال بين أعضائها أو بين دوائرها:
ومفاد ذلك أن حكم المحكمة لا يكفى لصحة صدوره من خمسة مستشارين أو ثلاثة، ولكن يلزم صدوره عن دائرة تشكل من خمسة أو ثلاثة حسب الأحوال. وأن التكوين الخمسة أو الثلاثة للدائرة أمر أوجبه القانون وربط به ولاية القضاء، بما يلزم معه اتباع صريح لنص القانون وبحيث لا يكلفنى الالتزام فى توقيع الأحكام بعدد القضاة المحدد قانونا، وانما يتعين الالتزام بهذا العدد فى تشكيل دوائر المحكمة، بحيث أن وصف الدائرة لا يلحق إلا هيئة من المستشارين كونت من الجهة المختصة بالعدد المحدد قانونا دون زيادة ولا نقصان. وان هذا المفاد لا يرد من صريح حكم القانون وحده، ولا يتأتى من محكم عباراته فحسب، وإنما يصدر عما استقر من تقاليد القضاء المصرى من نحو مائة عام عندما أدخل نظام تعدد القضاة بدلامن القاضى الفرد فى جميع الأقضية ذات الأهمية. وآية ذلك أن قانون السلطة القضائية الصادر برقم 46 لسنة 1972 قد اقتصرت عباراته على ان «تصدر الأحكام من خمسة مستشارين» (م3 بالنسبة لمحكمة النقض). و«تصدر الأحكام من ثلاثة مستشارين» (م/6 بالنسبة لمحاكم الاستئناف). ورغم مغايرة هذه الصيغة للصيغة المقابلة فى قانون مجلس الدولة وأغفالها لفظ «الدوائر»، فقد أطرد العمل فى هذه المحاكم على التكوين العددى المضيق لكل دائرة.
ومفاد النصوص السالفة أيضا، أن ترتيب العمل بمحكمة القضاء الإدارى تملكه جهتان فحسب، الأولى رئيس مجلس الدولة الذى يحدد اختصاص كل دائرة من دوائر المحكمة بقرار منه، والثانية هى الجمعية العمومية للمحكمة التى تقوم بتوزيع العمل بين الأعضاء والدوائر بقرار تصدره بأغلبيتها المطلقة. وإذا كان رئيس المجلس هو من يحدد اختصاص الدائرة (أو بعبارة أدق يحدد نوعية القضايا التى تعرض عليها)، فليس لغير الجمعية العمومية أن تشكل الدائرة، لم يشرك القانون معها فى هذا الأمر أحدا ولا أحل محلها فيه أحدا ولا خولها مكنة التفويض فيه لأحد. ولا تفويض فى ولاية القضاء كما هو معلوم.
وغنى عن البيان أن تشكيل الدائرة هو فى جوهره تعيين لصاحب الولاية فى الحكم فى نوع قضية محدد، وأن ولاية الحكم فى هذا النوع إنما تستمد من هذا القرار عينه وتنسبغ على القاضى به وحده. وبقرار تشكيل الدوائر يتحول من توافرت فيه شروط الولاية القضائية إلى قاض بالفعل فى نوع قضية محددة نوعا أو وصفا أو مجالا إقليميا. وهذا واحد من تطبيقات قاعدة تخصيص القضاء. أى أنه بهذا القرار وحده يصير هذا القاضى عينه ودون سواه معروضا عليه هذا النوع المحدد من القضايا. وعلى هذا يتعين القول بلزوم أن يكون قرار التشكيل جامعا ومانعا، يتعين به الخمسة أو الثلاثة جميعا ودون غيرهم. فإن تضمن الأقل قصرت ولاية القضاء عن الجميع وان تضمن الأكثر قصرت الولاية على الجميع أيضا. وجه القصور فى حالة القلة أن الدائرة لم تكتمل بعد، ووجه القصور فى حالة الكثرة أن الدائرة لم تحدد بعد، ووجه تطابق الحالتين أن قرار التشكيل قاصر عن تعيين ذى الولاية، وأن القرار قوى بغيره لا بذاته، وأنه يحتاج إلى قرار آخر مكمل أو محدد. ولرجل القانون أن يتأمل فى قرار أصدره صاحبه يعين اثنين على وظيفة واحدة، أو يشكل من خمسة مجلسا كونه القانون من ثلاثة.
لقد جرى العمل على التمييز بين الدائرة وبين الهيئة، والدائرة هى الخمسة أو الثلاثة المحددين عددا بالقانون. والهيئة هى ما زاد على ذلك. والدائرة يلتزم بعددها المحدد قانونا فى التوقيع على الأحكام. والهيئة تكوين مرن ذى حدود متحركة تتكون من خمسات أو ثلاثات شائعات فى عدد أكبر، وتنفرز دوائر منضبطة العدد عند النظر فى كل قضية بعينها.
وكان من الصواب أن يجرى العمل على هذا التمييز بين الدائرة والهيئة، لأن مناط تعريف الدائرة هو أنها العدد المحدد قانونا، بحيث يكون اختلاف العدد مسقطا فى ذاته لوصف «الدائرة» عن الجماعة المعنية. وهذا ما أوجب اشتقاق لفظ «الهيئة» للتعبير عن هذا الوعاء المرن الفسيح للدائرة الشائعة المتحركة. لكن هذا الصواب فى التمييز يرد عليه تحفظ أساسى هو أن الهيئة كيان لا يعرف القانون. وقانون مجلس الدولة فى تنظيمه أعمال المحاكم لم يعرف إلا المستشار (أو القاضى عامة) والدائرة والجمعية العمومية المنظمة للعمل.
والهيئة كيان دخيل لم يحدده القانون ولا أشار إليه فى تصنيفاته القضائية جميعا، فهى كيان لا يستمد وجوده من القانون بأى من مناهج الفهم والتفسير المعتبرة. هى كيان مقحم، ولكونها كذلك لا يكاد يستنبط حكما قانونيا أو قاعدة تمكن من رسم نظامها فى العمل من حيث طريقة فرز الدوائر منها، ومن حيث نصاب الاجتماع بها وطريق المناقشة وأسلوب اتخاذ القرارات، وإذا كانت الهيئة لا تعتبر هى ذاتها الدائرة ذات الولاية فى إصدار الأحكام، فليس لها أيضا صلاحية إسباغ الولاية القضائية على دائرة ما. لأن الدائرة لا تكسب ولايتها إلا بقرار الجمعية العمومية وحده وفق صريح نص القانون.
إن النظر فيما يجرى به العمل، يكشف عن أن الجمعية العمومية صاحبة الشأن فى توزيع العمل بين الدوائر والأعضاء، لا تشكل الدوائر، لكنها تشكل هيئات موسعة ومنها تنبثق الدائرة. والسؤال الآن، كيف تشكل الدائرة، ومتى تشكل أو متى يكتمل تشكيلها وفقا للأسلوب الجارى.
أما كيفية تشكيل الدوائر، فهو يتم على الصورة التالية أو على نحو قريب منها. فرئيس الهيئة هو رئيس كل ما ينبثق عن الهيئة من دوائر، هو قاسم مشترك فى القضايا جميعا، وعضويته من ثم ثابتة. والعضو الثانى يتحدد بإحالة القضية إلى أحد مستشارى الهيئة لدراستها وهو المستشار المقرر، وتتم الإحالة بتأشيرة من رئيس الدائرة، وبهذه التأشيرة يتحدد ثانى أعضاء الدائرة.
وعندما تجرى المداولة بحضور أعضاء الهيئة كلهم أو بعضهم ويتحدد الحكم وفقا يسفر عنه النقاش بين الأعضاء الحاضرين، فساعتها يوقع الحكم مع الرئيس والمقرر من يكمل به تشكيل الدائرة سواء كان عضوا ثالثا فى القضاء الإدارى أو ثلاثة أعضاء فى الإدارية العليا.
ويلزم بعد هذا العرض التدبر فى الأداة أو الأدوات التى ساهمت فى تعيين الدائرة، أن عضوا منها هو الرئيس عين بقرار الجمعية العمومية، والعضو الثانى حدد بقرار من رئيس الدائرة من بين أعضاء الهيئة (المستشار المقرر)، والثالث أو الثلاثة الباقون عينوا إما بقرار من رئيس الدائرة أو بالموافقة والسماح من أعضاء الهيئة الحاضرين أو بقرار ضمنى من الهيئة وعلى أى حال فان كل أعضاء الدائرة غير رئيسها قد حددوا بأداة أو بأدوات لا تملك تحديدهم. وقد سلفت الإشارة إلى أن «هيئة الدائرة» ليس لها وجود قانونى، وليس لمعدوم قانونا أن يعين قضاة الدعوى أو يكسبهم ولاية القضاء فى دعوى معينة.
أما رئيس الدائرة الذى يختار العضو المقرر، ويساهم فى اختيار باقى أعضاء الدائرة أو يستقل بذلك، فلا جدال أن القانون بنصه وروحه لم ينط به سلطانا فى هذا الشأن ولا ملَّكه ولاية تعيين الدائرة أو أى عضو يها. وهو مع أقدميته وأسبقيته وفضله، وما ينط به من رئاسة الجلسات وإدارتها وتوقيع نسخة الحكم الأصلية.. إلخ، هو عضوان متساويان، خاصة فى المداولة واتخاذ الحكم وتحرير الأسباب. وليس بالدائرة فى علاقة أعضائها بعضهم ببعض رئيس ولا مرءوس، وليس للرئيس صوت مرجح.
ولعل هذا التصور هو ما حرص به المشروع أن يطلق لفظ «الدائرة» على الكيان الذى يضم القضاء المشتركين فى نظر الدعوى والحكم، ليشير به إلى المساواة التامة فى صنع القرار وأن ليس لهذا الكيان قمة ولا قاعدة ولا رأس ولا ذنب ولا صدر ولا ظهر ولا ضلع أطول من ضلوع ولا زاوية أفرج من أخرى أو أحدُّ.
وفضلا على ذلك فإن تخويل الرئيس فى اختيار عضو معه أو أعضاء يتنافى مع مبدأ الصوت الواحد للفرد الواحد فى اتخاذ القرار. لأن سلطة رئيس أية دائرة أو مجلس أو هيئة فى اختيار عضو ما، تعنى أن له مكنة استيعاب صوت العضو المختار أو الأعضاء المختارين. وتلك المحاذير هى مصدر ما تلتزمه السياسة التشريعية عادة فى ألا يكون لرئيس مجلس ما سلطة اختيار أو استبعاد أحد من أعضاء هذا المجلس، والا تكاثرت أصوات الرئيس عند الترجيح بتكاثر ما يخول من تعيين أو إبعاد للأعضاء.
وبالنسبة للتشكيل القضائى، فإن نظاما قضائيا يحرص أن يجنب العضو الأحداث (بين المتساوين) مجرد التأثير المعنوى للرأى الفنى للعضو الأقدم بأن يوصى بالبدء بالأحداث عند الإدلاء بالأصوات ويلزم الرئيس بأن يكون آخر المصوتين، فهو نظام يتجافى بالضرورة ومن باب أولى مع فكرة أن يتاح لرئيس الدائرة اختيار أعضاء الدائرة أو أى عضو فيها. وأن إتاحة هذه السلطة للرئيس، ليحيل العضو المختار إلى مرءوس، إن كان له رأى مستقل فلن تعدو قيمته قيمة الاقتراح وإبداء المشورة، وتحيل الدائرة إلى لجنة استشارية، وتحيل المحكمة ذات القضاة المتعددين إلى محكمة ذات قاض فرد يلتف حوله عدد من ذوى المشورة الفنية.
أما عن متى تشكل الدائرة، فالمفروض أنها تشكل بقرار من الجمعية العمومية. وأن تشكيل الدوائر وتوزيع نوعيات القضايا عليها، يعنى أن ثمة قاعدة موضوعية منضبطة تحدد الدائرة وما تنظر من قضايا إلى أساليب جرت بها تقاليد المحاكم مستهدية بحجم العمل وانسجام نوعياته وغير ذلك وهو يعنى أن قاضى الدعوى لا يحدد بصدد قضية أو قضايا محددة بالذات، وأن القاضى لا يتعين بمناسبة دعوى ماثلة بعينها.
وإذا كان هذا هو المفروض، فالحاصل أن ثمة شيوعا لقضاة الدائرة فيما يسمى ب«الهيئة» وأن قاضى الدعوى وفقا للعرض السابق بيانه لا يتحدد إلا بعد أن تتحدد الدعوى، وذلك عن طريق التأشير باسمه على الملف. وفى ذلك مجافاة لمنطق التكوين القضائى الذى يلتزم بالتصنيف الموضوعى. والقاضى ثانيا لا يتحدد (لا يكتمل تشكيل الدائرة) إلا بعد حجز الدعوى للحكم. وإذا كان مفاد المادتين 167 و170 من قانون المرافعات ألا يطرأ على الدائرة المشكلة من قضاة بذواتهم أى تغيير بعد سماع المرافعة وإلا بطل الحكم، فإن اكتمال تشكيل الدائرة وتحديد قضاتها بعد حجزها بعد حجزها للحكم يبدو جلى المجافاة لحكم القانون من باب أولى. والقاضى ثالثا يتحدد أثناء المداولة. ولا تخفى المزالق والمحرجات التى قد تتأتى من جراء الاعتراف بهذه القاعدة، وهى أن يختار قاضى الدعوى، لا أقول بعد أن يبدى رأيه فيها، لكن أقول بعد أن يتكشف رأيه وتتميز ملامح موقفه القانونى من الدعوى. أن ذلك قد يعنى ألا يكون الحكم بيد قاضى الدعوى، ولكنه يكون بيد من يختار قاضيها.
وأود أن أوضح لسيادتكم على نحو قاطع، أن ما تجرى به هذه المذكرة من بيان للموضوع المعروض، انما تجرى به على هدى وحيد من الاستدلال المنطقى والتوليد النظرى البحت للنتائج والفروع من المقدمات والأصول. وأن ما يتبدى فى هذا البيان من الحراك إنما هو استخلاص نظرى لم يعرف طريقه إلى الناحية العملية التطبيقية فيما يجرى به العمل. وذلك بسبب ما طبع عليه العاملون فى هذا الميدان من روح النصفة والعدل والحياد، وما يشيع بينهم من روح الثقة والموضوعية، وما استقام لهم من الصراط. عى أن ما يلزم التنويه به أيضا أن النظام القانونى عامة، والنظام القضائى خاصة، لا يبنى على الأريحية والخلال الحميدة والنوايا الطيبة، وإنما ينبنى فى الأساس بالضوابط والفواصل والحدود.
وأشير بعد ذلك، إلى بعض ما يتأتى من نتائج عن هذا الوضع الجارى، وذلك فيما يمس ضمانات التقاضى التى يقوم عليها النظام القضائى برمته. فمن ضمانات التقاضى أن يكون القاضى معلوما بذاته للمتقاضين من اللحظة الأولى التى يمثلون فيها أمامه. وهم رقباء عليه بقدر ما هو حكم بينهم. والعلانية أصل من أصول النظام القضائى وضمانه (لا بديل عنها للمتقاضين وأول ما تثيره العلانية وتستند إليه كفالة تعرف المتقاضين على قاضيهم من الوهلة الأولى التى تتصل فيها دعواهم به. وأن وجود نظام «الهيئات الموسعة» يجعل قاضى الدعوى شائعا فى غيره غير مرئى بذاته. ولا تتجلى صورته ولا تتفرز أمام المتقاضين إلا بعد صدور الحكم واطلاعهم عليه. ولا شك أن هذا الوضع يهدد ضمانة جوهرية لهم، تتمثل فى حقهم فى رد القضاة أن علقت بهم حالة من حالات عدم الصلاحية المبطل للأحكام أو حالة من حالات الرد. وإذا كان قانون المرافعات يلزم المتقاضى أن يقدم طلب الرد قبل تقديم أى دفاع أو دفع فى الدعوى، وإلا سقط حقه فيه (م151)، فكيف تتأتى ممارسة هذا الحق فى أوضاع لا يتعرف فيها المتقاضى على قاضيه إلا بعد النطق بالحكم؟
ومن ضمانات التقاضى أيضا ما يتعلق بالمداولة وأن تتم بين قضاة الدعوى عينهم ودون غيرهم وأن اشتراك غير قضاة الدعوى فى المداولة لا يفسدها فحسب ولكنه يبطل الحكم الصادر أن أمكن إثبات الواقعة (م167 مرافعات). وان جريان المداولة بين أعضاء الهيئة الموسعة جميعا يعنى أن المداولة يشترك فيها غير من يصدر الحكم باسمهم من القضاة. والحكم الصادر يحمل أثرا لرأى ولجدال لم يظهر صاحبه مما تأبا بأصل المرافعات.
ومن ضمانات التقاضى أيضا لا يمتنع القاضى عن الحكم فى الدعوى وإلا كان متنكرا للعدالة وصورة الامتناع تتراءى من رفض أحد قضاة الدائرة الاشتراك فى توقيع مسودة الحكم أو منطوقة، فيتسبب فى عدم صدور الحكم أو بطلانه أن صدر بغيره. وأن وجود الهيئة الموسعة من شأنه ألا تتكشف هذه الصورة، وألا يتحدد المسئول عن الامتناع فى دائرة تزاحم القضاة فيها، وشاع الامتناع بين أكثر من فرد.
نقطة أخيرة أود الإشارة إليها، وهى أن ما حدا إلى اتباع ما يجرى به العمل، هو الرغبة فى الملائمة بين حجم العمل وبين التوزيع المنضبط لنوعيات القضايا، وبين الحرص على عدم اختلاف المبادئ والأحكام، وهى اعتبارات صدر عنها التنظيم العالى بدافع نبيل من الحرص على التجويد فى العمل والاتفاق مع سرعة الانجاز. ولكن قد ترون سيادتكم وجوب الملاءمة بين كل هذه الاعتبارات، وبين الالتزام بأصول القانون، ويمكن إعادة تصنيف الدوائر كثيرا لعددها، ويمكن لدوائر موجودة أن تقسم الواحدة منها لدائرتين حسب نوع القضايا، بحيث يبقى التخصص لكل دائرة فى نوع أو أنواع محددة دون خشية اختلاف الأحكام، والأمر مرجعه النظر فيما هو قريب المنال من إحصاءات وجمع المتشابهات والمتقاربات فى إطار الحجم الملائم لإنجاز الدائرة الثلاثية. ويمكن ضمان التجانس فى الأحكام بأن يجتمع للرئيس أكثر من دائرة وليس ما يمنع العضو أن يشترك فى أكثر من دائرة أيضا، الأمر المتبع فى المحاكم الإدارية والتأديبية، ولكن شريطة أن يحدد اختصاص كل دائرة بذاتها، وأن يتحدد أعضاؤها الثلاثة أو الخمسة بذواتهم أيضا وبقرار من الجمعية العمومية.
إن المادة/4 من قانون مجلس الدولة تضع فى أيديكم يا سيادة الرئيس سلطة تحديد اختصاص كل دائرة من دوائر محكمة القضاء الإدارى. وهى عينها السلطة التى يكفل أعمالها التطبيق الأمثل للقانون وللجمعية العمومية بعد ذلك، ومع بداية العام القضائى بإذن الله أن تشكل دوائرها الثلاثية وفقا لهذا التوزيع.
وإنى إذ أتقدم لسيادتكم بما وقر فى ذهنى أنه الصواب، لأترك الأمر لسيادتكم تتدبرون فيه، بما عرف عنكم من العلم والفضل والحيدة، وتقررون فيه ما ترونه الأصوب.
ولسيادتكم ما اعتدت على الدوام أن أنظر به إليكم من الاحترام البالغ والتوقير العظيم.