عندما هاجر المسلمون من مكة إلى يثرب، واجهوا ظروفا عصيبة عكست تحديات هائلة لكيان جماعتهم السياسى والاجتماعى والدينى، فتعين عليهم التخلص من موروث الصراعات القبلية التى شابت التكوين الاجتماعى لعنصرى الجماعة من المهاجرين والانصار، تميهدا لصهرهما تماما فى بوتقة تلك الجماعة الوليدة، والتى تحتم عليها أيضا، التأهب لحشد كل القوى والإمكانات المتاحة فى موطنها الجديد، لمواجهة معركتها المصيرية مع عدوها اللدود، المتربص بها من الخارج: قبيلة قريش وحلفاؤها القبليين والطبقيين. وتوجب عليها كذلك المبادرة بإحداث قدر من التوافق السياسى والاجتماعى بينها وبين القبائل اليهودية والقبائل العربية الوثنية التى تشاركها الحياة بيثرب. وعلى صعيد آخر، أفضى الإطار السياسى والاجتماعى العشائرى، الذى كان يشمل الفرقاء من اليهود والعرب الوثنيين بهم إلى آتون الصراعات القبلية الدائمة، التى أنهكت قواهم الحيوية، الأمر الذى جعل تشكيل سلطة سياسية مركزية لمدينة يثرب مطلبا ملحا وضروريا لهم، لتهدئة نائرة صراعاتهم، ونشر السلام بين ربوع مدينتهم.
وقد تطلعت أنظار هؤلاء الفرقاء الى المسلمين وقائدهم القرشى: الرسول صلى الله عليه وسلم، ليتولى القيام بهذا الدور المحورى انطلاقا من موقفه المحايد بين تلك الأطراف.
وحينما توافقت أرادات ومصالح قوى أهل المدينة على ذلك الأمر، كان من الضرورى القيام بتوفيق أوضاعهم العامة مع النسق الجديد للسلطة السياسية، فتخلت نظمهم العشائرية عن كثير من مواقعها ومصالحها، أمام مد التوحيد السياسى الذى تجاوز الانتماءات القبلية والقومية والدينية، وسجلوه فى نصوص جامعة بوثيقة الصحيفة، التى تعد عملا غير مسبوق فى سياق ذلك العصر، بل والعصور السابقة عليه.
حددت نصوص الصحيفة (الوثيقة/الدستور) السمات العامة لكيان الأمة الجديدة، التى ضمت بين ثناياها المسلمين (المهاجرين والانصار، والمنافقين: الذين آمنوا بالاسلام فى الظاهر وأخفوا عداوته فى الباطن، وشكلوا قوة معارضة للرسول صلى الله عليه وسلم فى بعض الاحيان. وقبائل اليهود الكبرى (النضير.. قريظة.. قنينقاع) والصغرى (جَفنة، الشٌطَيبة، وجُشم، وثعلبة.. Nلخ) ومشركو الأوس (وهم بعض بطون الأوس التى ظلت متمسكه بدينها الوثنى)، فشكل جمعهم «أمة واحدة من دون الناس» متمايزة عن غيرها من الجماعات الأخرى بصبغتها السياسية (المدنية) الخاصة، فصار مشركو الأوس و«يهود بنى عوف (وباقى البطون اليهودية) أمة مع المؤمنين» يتمتعون بجميع حقوق مواطنة الأمة.
واتخذت الأمه يثربا موطنا لها، ومن ثم صارت رقعتها حرما آمنا جوفها «حرام لأهل هذه الصحيفة»، أى لا يستحل فيها اطلاقا الاقتتال بين جماعات الأمة وينعم أفرادها بالطمأنينة والسلام، فمن «خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة» لكن لا حصانة «لمن ظلم وأثم» حتى لو كان معتصما بترابها.
وأقرت الصحيفة / الدستور سلطة الأمة العليا بيد محمد نبى المسلمين الذى كان له مطلق السلطة فى البت فى القضايا العامة التى تمس الأمن العام، وأمور الحرب والسلام، والقضايا الخلافية التى تنشب بين جماعات الأمة، «وأنه ما كان من أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده الى الله وإلى محمد رسول الله».
ومن ثم تشكلت سلطة مركزية متنفذة، تسرى أحكامها على الجميع، وإن قيدت بشرط توخيها العدل والمساواة فى أحكامها، «فذمة الله واحدة، يجير (ينصف) عليهم أدناهم».
كما كفل الدستور / الوثيقة الحرية الدينية الكاملة، للسادة والأتباع (الموالى) على السواء، وللمشركين دينهم «ولليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم»، وكفلت الوثيقة بعض الحقوق للفقراء فنصت على ان كل «طائفة تفدى عانيها (فقيرها) بالمعروف».
وأصبح بقوة النصوص التعاون والتآزر بين أهل المدينة فى الدفاع عن حياضها فرضا واجبا، «وإنه من تبعنا من يهود (وغيرهم) فإن له النصر والأسوة، غير مظلمومين ولا متناصر عليهم»، وأن تتوزع أعباء الحرب على الجميع بالسوية، وأن يلتزم الجميع بالموادعة والسلام مع الخصوم اذا «دعوا الى صلح صالحونه».
وحددت الوثيقة بشكل قاطع العدو الرئيس للأمة التى ينبغى عليها مناصبته العداء، وهو قريش وحلفاؤها «فلا تجار قريش، ولا من نصرها».
أفضت الصيغة التوحيدية للأمة المستندة على ركائز سياسية خالصة (مدنية تماما)، تتجاوز الأفق القبلى والقومى والدينى، إلى إحداث تغيرات هيكلية فى بنية المجتمع العشائرى، وانعكس ذلك بالضرور] على مكانة العشيرة والفرد وحريته، وبالذات داخل اطار جماعة المسلمين المشاركة فى الأمة الجديدة.
وترددت أصداء ذلك التغيير الجوهرى بجلاء فى كثير من نصوص الصحيفة (الدستور)، فانحسرت سلطات العشائر العامة، واقتصرت على المسائل الداخلية للعشيرة، كدفع العاقلة (الدية)، «يتعاقلون معاقلهم كأنفسهم»، والزواج والطلاق والميراث، وإن قيدت سلطتها فى هذا الصدد بوجوب مساواة الفئات الدنيا (الموالى، البطانة)، بوجهاء قبائلهم فنصت على «أن موالى ثعلبة كأنفسهم» و«أن بطانة يهود كأنفسهم».
وقد أولت نصوص الوثيقة اهتماما كبيرا بأمور العصبية الاسلامية الداخلية، التى خضعت لإعاده ترتيب أوضاعها الاجتماعية والدينية على نطاق أوسع كثيرا عن غيرها من العصبيات الأخرى، باعتبارها النواة الصلبة للدعوة الاسلامية والأمة الجديدة.
أصبح المؤمنون كتلة اجتماعية متآزرة متعاونة، تتحمل أعباء مسئوليات الدفاع الخارجى مع غيرها من القوى الأخرى، والأمن الجماعى داخل العشيرة، «فسلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم»، وأن «المؤمنين يبىء (يكفل) بعضهم عن بعض»، وأيدى الجميع معا على «كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة (عطية.. هبة) ظلما أو اثما.. أو فسادا بين المؤمنين.. ولو كان ولد احدهم»، بل «إن المؤمنين عليه كافة».
ولم يعد العدل الاجتماعى وإعالة الفقير أمرا اختيارا، بل صار واجبا على جماعة المؤمنين «فلا يتركون مفرحا (فقيرا) بينهم أن يعطوه فى فداء او عقل (دية)».
ومنحت الوثيقة قدرا كبيرا من الاعتبار لذاتية الفرد، فأصبح يتحمل وحده عاقبة أفعاله فإنه «لا يكسب كاسبا إلا على نفسه»، وإنه «من فتك فبنفسه وأهل بيته» فتحرر من وزر أعمال الآخرين، كما كان سائدا فى الأعراف القبلية.
وقد ساهمت الحرية الفردية التى منحتها نصوص الوثيقة، ودعمتها الطوابع الفردية للأنشطه التجارية، والملكية الزراعية ذات الصبغة الفردية والوراثية، وأكدتها الممارسات الاسلامية التى حملت الانسان وحده عاقبة أعماله أمام الله ومنحت الفرد حرية العمل والاقامة والتملك، والانتماء لسلطة الدولة، فى تفكيك البنية القبلية على المدى البعيد، وكان ذلك أمرا فى غاية من الاهمية فى مسار تطور المجتمع الاسلامى، وانتقاله إلى مرحلة أكثر رقيا على الصعيد الحضارى.