عندما لا تحب شخصا، كثيرا ما يغريك هذا بأن تقول عنه مجنونا. والشيوعيون فى كوريا الشمالية ليسوا بالطبع من ذلك النوع الذى تود مصادقته حقا. لقد حكموا أو بالأحرى أساءوا حكم بلد تعداده 23 مليون نسمة لمدة ستة عقود، وزيفوا الدولارات الأمريكية، وخطفوا مدنيين يابانيين أبرياء (من أجل تحويلهم إلى جواسيس)، وباعوا صواريخ وتكنولوجيا نووية خطرة فى إنحاء العالم. وإذا كان هناك بلد فى العالم يستحق أن يطلق عليه دولة حمراء، فلابد أن يكون ببساطة كوريا الشمالية. ولكن الكوريين الشماليين ليسوا مجانين. وهم فى الحقيقة، دهاة متهورون. ويأتى تصرفهم باعتبار أن العالم الخارجى ينظر إليهم بعدم فهم، نتيجة للحسابات السلبية التى تستهدف انتزاع أقصى قدر من التنازلات. وربما يوضح ذلك سبب إقدام نظام كيم يونج إل فى مايو الماضى على إجراء ثانى اختبار نووى، وهو يعلم جيدا أن هذا التصرف الاستفزازى سوف يؤدى بكل حسابات المنطق إلى عقوبات دولية سريعة وصارمة. فعندما اختبرت بيونج يانج فى البداية جهازا نوويا فى أكتوبر 2006، فرضت الأممالمتحدة على البلاد عقوبات محدودة. وحتى الصين، التى اعتمدت عليها كوريا الشمالية فى إمدادها بأسباب البقاء لمدة عقود، أيدت هذه العقوبات. وفى هذه المرة، يثير الاختبار الكورى الشمالى الثانى سخط الأصدقاء السابقين فى بكين بصورة واضحة، وبالتالى فمن المتوقع إلى حد بعيد أن تمضى الصين فى إجراءات تأديبية فورية أشد، حتى تلقن نظام كيم يونج إل درسا أكيدا، وتثنيه عن اتخاذ خطوات إضافية من شأنها تصعيد الأزمة. وتحير المحللون الغربيون فى سبب اختيار كوريا الشمالية هذه اللحظة للقيام بثانى اختبار نووى. ففسر أحدهم ذلك بأنهم شعروا بتجاهل العالم لهم، ويريدون إجبار القوى الكبرى فيه على الالتفات إليهم. ويتمثل تفسير آخر مقنع فى أن كيم يونج إل الذى عانى سكتة دماغية العام الماضى، وتبدو صحته معتلة هذه الأيام، يرغب فى استغلال لاختبار لتقوية موقفه السياسى الداخلى وتأكيد قدرته على نقل سلطته إلى ابنه الأصغر، وهو فى منتصف العشرينيات. ووفقا لوجهة النظر هذه، يعتقد كيم كما يبدو أن تصعيد التوتر مع الغرب سوف يجمع الكوريين الشماليين خلفه، ويطلق يده فى وضع الموالين له بمواقع رئيسية فى السلطة، وخاصة فى الجيش. وقد يكون ذلك صحيحا، ولكن بصرف النظر عما يدفع كيم إلى إجراء الاختبار النووى، فسيكون للتصرف فى حد ذاته أصداء مهمة على الأمنين الإقليمى والعالمى. وسوف يؤثر الأسلوب المستخدم فى التعامل مع استفزاز كيم من قِبل المجتمع العالمى عموما، والولاياتالمتحدة خصوصا، على الأمن الإقليمى فى شرق آسيا، وعلى الدعوى من أجل وقف الانتشار النووى حول العالم. وإذا تجاهل بقية العالم اختبار كوريا الشمالية النووى، على أساس إنه تم لأغراض محلية فحسب، سوف تتضرر قضية منع الانتشار النووى بشدة، وتفقد الولاياتالمتحدة مصداقيتها، وتتدهور سمعة الصين العالمية أيضا لأنها ستبدو عاجزة عن كبح جماح دولة حمراء ظلت تمدها بأسباب الحياة. والأسوأ من ذلك، أن تسليح كوريا الشمالية نوويا سوف يؤدى باليابان وكوريا الجنوبية إلى مراجعة سياساتهما بشأن الأسلحة النووية. وحاليا، تعتمد الدولتان المجاورتان لكوريا الشمالية على المظلة النووية الأمريكية من أجل الحماية. ولكن إذا اعتقدتا أن امتلاك أسلحتهما الخاصة يمثل الدفاع الأمثل ضد الأسلحة النووية الكورية الشمالية، سوف يثير ذلك توترا شديدا لدى الصين. وبالنسبة للشرق الأوسط، سوف تؤثر الطريقة التى تتعامل بها الولاياتالمتحدة مع الاستفزاز النووى الكورى الشمالى، على الخيارات السياسية للمجتمع الدولى فى معالجة البرنامج النووى الإيرانى. وإذا ما قررت واشنطن مواصلة العقوبات الدولية، وليس الإجراءات العسكرية، ضد كوريا الشمالية، فإن هذا المسلك سوف يمثل مؤشرا للتعامل مع برنامج إيران النووى. فسيكون من الصعب تبرير أى قصف للمرافق النووية الإيرانية، بينما لم يتجاوز الإيرانيون أى خطوط حمراء مشروعة، بينما تربت على يد كوريا الشمالية بعد التفجير النووى الثانى الذى تنتهك من خلاله التزاماتها الدولية. وبالطبع، تدرك إدارة الرئيس أوباما التبعات الاستراتيجية للاستفزاز النووى الكورى الشمالى. ونظرا لأن الرئيس الجديد قرر اتباع الحل الدبلوماسى مع برنامج إيران للتسلح النووى أولا، فإن واشنطن تفهم أن عليها الاعتماد على الدبلوماسية والعقوبات المتعددة من أجل عقاب كوريا الشمالية فى هذه المرحلة. كما أن رد الفعل المبالغ فيه سوف يكون له نتائج عكسية بالنسبة لاستراتيجية واشنطن العالمية لمنع الانتشار النووى. وغنى عن القول، أن الخيارات العسكرية ليست فقط محدودة، ولكنها أيضا قد تكون مدمرة. وهذا هو السبب فى أن واشنطن تطلب الآن مساعدة الصين من تلقين نظام كيم يونج إل درسا قاسيا. وتمثلت الخطوة الأولى فى تمرير قرار متشدد بفرض عقوبات لإصداره من مجلس الأمن الدولى، والذى من شأنه تبليغ رسالة إلى بيونج يانج بأن القوى العظمى فى العالم بما فيها الصين وروسيا، قد وحدت مواقفها. ولكن هذه العقوبات، التى من المفترض أن تستهدف قادة كوريا الشمالية، وتحظر على المؤسسات المالية التعامل التجارى معها، لن تخرب الاقتصاد الكورى الشمالى، المفلس أساسا على أى الأحوال. فكوريا الشمالية لن تشعر بألم حقيقى إلا عندما توقف الصين تدفق المساعدات الاقتصادية، فهى التى تمدها بالغذاء والوقود المدعوم. وفى الماضى، أحجمت الصين عن خنق اقتصاد كوريا الشمالية خوفا من أن يحدث ذلك انهيارا سريعا فى نظامها، فيتسبب فى فوضى إقليمية، ما يعطى الأمريكيين فرصة ذهبية لتوسيع وجودهم العسكرى حتى يصل إلى حدود الصين. ومن الواضح أن إدارة أوباما ترغب فى تبديد مثل هذه المخاوف الصينية. ولذلك توجه وفد رفيع المستوى بقيادة جيمس شتاينبرج نائب وزيرة الخارجية إلى شرق آسيا للتشاور مع القوى الإقليمية، وتطوير استراتيجية مشتركة ضد كوريا الشمالية. وطلبت فيه واشنطن من بكين بذل المزيد من الجهد لإجبار كوريا الشمالية على إنهاء استفزازاتها والعودة إلى مائدة المفاوضات. ونظرا لانزعاج الصين الشديد من اختبار كوريا الشمالية النووى الثانى، فمن المرجح أنها سوف تفعل أكثر مما فعلت فى المرة الماضية (حيث أيدت قرار الأممالمتحدة بفرض العقوبات). وسوف تقلل بكين إلى حد ما دعم بيونج يانج لتسجل أنها راضية عما يتم. ومن المرجح أيضا أن ترسل مبعوثين لتحذير كيم يونج إل من أنه لن يستطيع عض اليد التى تطعمه. ولكن فيما يتجاوز ذلك، لن يكون واقعيا التعويل على قطع الصين معونتها عن كوريا الشمالية بالكامل. وطالما مازالت كوريا الشمالية تمثل قيمة استراتيجية لدى الصين، فلن تقدم الأخيرة على التخلص من هذا الرصيد، حتى لو بدا واضحا أنه شوكة فى جنبها.