«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
تغيير حالة الوطن ؟
نشر في الأهرام اليومي يوم 27 - 02 - 2010

كان الوقت في نهاية السبعينيات عندما شاركت زميلا بريطانيا في حجرة جماعة الدارسين للدكتوراه‏,‏ الذين يقومون بالتدريس للطلبة في الوقت نفسه بجامعة شمال إلينوي بمدينة ديكالب الصغيرة‏,‏ والقريبة من شيكاغو في ولاية إلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية‏.‏ وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال كانت هناك مناقشات كثيرة حول ما ندرسه‏,‏ وما نحاضر الطلاب به‏,‏ وعن تاريخ بلادنا وما جري فيها من أحوال قريبة وبعيدة‏.‏
وكان طبيعيا أن يحضر بين طالب مصري وآخر بريطاني تاريخ العلاقة بين مصر وبريطانيا‏;‏ ولما كنت مشبعا في ذلك الوقت بالرؤية المصرية وحدها القائمة علي أن الاستعمار الإنجليزي كان السبب في تخلف مصر‏,‏ وأن الغني البريطاني جاء نتيجة استنزاف ثروات الشعوب المستعمرة‏,‏ فقد فاجأني زميلي بغضبه الشديد‏.‏ وكان منطقه يقوم علي أن تقدم المملكة المتحدة راجع أساسا إلي التضحيات التي قدمها شعبها‏,‏ وراح يعدد ليس فقط المنجزات التكنولوجية التي حققتها بلاده في فجر الثورة الصناعية وإنما التضحيات التي بذلها الشعب البريطاني من أجل الوصول إلي ما وصل إليه‏.‏ وكانت التفاصيل كثيرة من أول المدن التي ازدحمت وانهارت مقوماتها‏,‏ حتي القري التي هجرها أهلها بحثا عن ثروات مزعومة حتي انتهي بهم الأمر إلي الفقر والتسول والانهيار الخلقي المعنوي‏,‏ والنساء والأطفال الذين عملوا لساعات طوال دون شفقة أو رحمة أمام أفران الصلب المنصهر دون حماية أو وقاية فسقطوا في سن مبكرة صرعي للأمراض والمجاعات‏.‏
والحقيقة أن هذه الصورة الدرامية لم تكن بعيدة تماما عن الذهن‏,‏ فكنت قد قرأت بالطبع روايات مهمة مثل دافيد كوبرفيلد و أوليفر تويست اللتين صورتا الأحوال البريطانية إبان الثورة الصناعية‏,‏ ودرست أيضا خلال المرحلة الجامعية في مادة التاريخ الاقتصادي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الكثير عن التضحيات المختلفة التي قدمتها الشعوب التي سبقتنا خلال مراحل متنوعة من التطور‏;‏ ولما كان بحثي في مادة الفكر السياسي يدور عن مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا لدي كارل ماركس فقد كان لابد من قراءة الكثير من كتبه‏,‏ وكلها غنية بآلام عمليات التحول في المجتمعات الصناعية‏.‏
وعلي أي حال فقد استمرت المناقشات والحوارات‏,‏ وربما توصلنا إلي نقطة وسط بشكل أو آخر‏,‏ ولكن النتيجة المهمة كانت أن للتقدم ثمنا وتضحيات نادرا ما نتحدث عنها في مصر‏,‏ حيث تبدو الأمور بسيطة للغاية ولا تتعدي تعديلات دستورية في المواد‏76‏ و‏77‏و‏88,‏ وانتخاب واحد من أقطاب المعارضة‏,‏ ومن بعدها تصبح مصر بلدا مثل سويسرا‏,‏ أقل أو أكثر قليلا‏!.‏
وحتي لا يسيء أحد فهم القصد والنية فإن تعديل هذه المواد كان مطلبا للعديد من المثقفين والسياسيين المصريين‏,‏ منذ التعديلات الدستورية الأخيرة في عامي‏2005‏ و‏2007;‏ ولعلي كنت واحدا منهم كتابة وحديثا ومشاركة في المحافل السياسية المختلفة‏,‏ وضمن قلة تطلب البحث في دستور جديد كلية‏.‏
ولكن قضية التغيير في مصر أكبر من ذلك بكثير لأنها لاترتبط فقط بالبنية القانونية والدستورية ولكنها ترتبط بالسياسات العامة والثمن الذي نحن علي استعداد لدفعه حكومة وشعبا‏.‏
وقد كان الأسبوع الماضي بلا جدال هو أسبوع الدكتور البرادعي‏,‏ حيث ظهر ست ساعات كاملة أو أكثر علي شاشة التليفزيون‏,‏ بالإضافة إلي سلسلة من المقابلات والتصريحات الصحفية التي انتهت حتي وقت كتابة هذا المقال بلقاء القمة مع السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية حيث اتفقا علي أهمية التغيير في مصر‏;‏ وقبل سفره إلي الخارج أعلن عن تشكيل جمعية وطنية للتغيير أيضا‏.‏
المسألة إذن هي التغيير أي الانتقال من حالة إلي حالة أخري مختلفة تماما ولكنها أكثر تقدما مما نحن عليه الآن‏;‏ ولكن ما يحدث للأسف بعد ذلك هو قياسات غير دقيقة للواقع المصري الراهن‏,‏ ومقارنتها بما تحقق في دول أخري‏,‏ وبعد أن تصبح الحالة فاضحة فإن الصمت يهبط ثقيلا حول الخطوة التالية أو يتم الانتقال إلي قياسات أخري لإثبات النقطة ذاتها‏.‏ قد كان مدهشا قليلا أن كثيرا من الأرقام التي ذكرها الدكتور البرادعي لم تكن صحيحة‏,‏ فلم يكن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي‏1200‏ دولار‏,‏ وإنما هو في كل تقرير دولي‏2180‏ دولارا‏,‏ وهو فارق ليس قليلا‏;‏ وإذا ما حسب باعتبار القوة الشرائية للدولار فإن المتوسط يصل إلي‏5347‏ دولارا‏.‏
بالنسبة لمكانة مصر في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فهي بالفعل متدنية ومخجلة‏,‏ إذ إنها تحتل الترتيب‏123‏ من‏177‏ دولة وليس‏175‏ دولة‏;‏ ولكن التدقيق هنا واجب أيضا‏,‏ حيث تتقدم مصر في مقياس الفقر لكي تصبح مكانتها‏82,‏ وعند التدقيق أكثر في التقرير نفسه فإن نسبة من يعيش من المصريين علي أقل من‏1.25‏ دولار أقل من‏2%‏ من السكان‏,‏ أما من يعيشون بأقل من دولارين فهم‏18.4%.‏ هذه الأرقام رفعها الدكتور البرادعي ليس فقط إلي‏42%‏ من السكان‏,‏ وإنما جعلها عند أقل من دولار واحد‏,‏ وهو ما لم يأت من قريب أو بعيد في تقرير عالمي منشور علي شبكة المعلومات الدولية‏.‏ وهذا التقرير يقيس أيضا درجة العدالة الاجتماعية في بلدان العالم المختلفة من خلال ما هو معروف بمقياس جيني‏,‏ وفيه فإن المقياس المصري هو‏32.1‏ وهو أفضل كثيرا من دولة أكثر غني من مصر مثل جنوب إفريقيا ومقياسها‏57.8,‏ والصين الشيوعية‏41.5,‏ وإيران الإسلامية‏38.3,‏ وفنزويلا الثورية والبترولية‏43.4‏ ولو نظرنا للمسألة كلها ليس من حيث الترتيب ولكن من خلال مقارنة مصر بنفسها فإن مقياس التنمية البشرية المصري ارتفع من‏0.496‏ عام‏1980‏ إلي‏0.703‏ عام‏2007,‏ وعندها توجد آخر الأرقام المتاحة‏;‏ ولكنها تشير إلي تحسن في الحالة المصرية برغم زيادة عدد السكان من‏40‏ مليونا إلي نحو‏80‏ مليونا أي ضعف ما كانوا عليه منذ ربع قرن‏.‏
ومع ذلك فإن ما قال به الدكتور البرادعي فيه علي وجه العموم بعض من الصحة‏,‏ ففقراء مصر كما تقول فعلا التقارير الدولية أقل من‏20%‏ يقترب منهم نحو‏20%‏ آخرين ربما كانوا أعلي من حد الفقر ولكنهم ليسوا بعيدين عنه‏.‏ وربما كانت الأرقام في مجملها غير دقيقة‏,‏ وفيها قدر كبير من الاختيار‏,‏ وتتجاهل أن‏60%‏ من المصريين ليسوا فقراء أو قريبين من الفقر‏,‏ ولكنها صحيحة في أن مصر لا تزال قابعة في دائرة الدول المتخلفة‏,‏ وهناك كثرة من الدول سبقتها‏,‏ وهو ما يجعل المقارنة مشروعة في كل الأوقات‏.‏
ولعلنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام كنا أول من نشر علي نطاق واسع تلك المقارنات بين مصر والدول الأخري باعتبارها تمثل مقياسا لمدي التقدم المصري حتي صار من الأمثال القومية تلك المقارنة الذائعة بين مصر وكوريا الجنوبية عند نقطة السباق الأولي عام‏1960,‏ حتي وصلنا إلي بداية العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين حيث بلغت المفارقة حدودا مفزعة‏.‏
وهنا نصل تحديدا إلي لب القضية كلها‏,‏ فالمقارنة تتيح مقياسا للتقدم والتغيير‏,‏ ولكن مقارنة النتائج لا تصح دون الاستعداد للمصارحة بالثمن الواجب دفعه للوصول إلي النتائج نفسها‏,‏ والتضحيات التي لا يمكن تجنبها حتي يكون التقدم ممكنا‏.‏ وهذا يعيدنا مباشرة إلي مقدمة المقال‏,‏ فسواء تعلق الأمر بالدول التي تقدمت منذ القرن التاسع عشر مثل بريطانيا والولايات المتحدة‏,‏ أو الدول التي تقدمت خلال النصف الأول من القرن العشرين مثل ألمانيا واليابان‏,‏ أو تلك الدول الآسيوية والأمريكية اللاتينية‏,‏ أو في شرق أوروبا‏,‏ في النصف الثاني من القرن الماضي‏,‏ كلها قدمت تضحيات بالغة‏,‏ ربما كان أهمها تغيير ثقافات سائدة‏,‏ وسياسات متمكنة‏.‏ وهناك قول ذائع لعالم الذرة الشهير ألبرت أينشتين إنه من قمة الغباء أن تفعل ما تفعله مرارا وتكرارا ثم تحصل بعد ذلك علي نتائج مختلفة‏!.‏
وببساطة إنك لا تستطيع أن تحافظ علي سياسات للدعم تخلت عنها كل الدول التي تسعي للمقارنة بها‏,‏ ونظم للتعليم والتربية لم يعد أحد في الدنيا المتقدمة يقبل بها‏,‏ وتقيم نظاما للصحة لا يشعر أحد أن له ثمنا من نوع أو آخر‏,‏ ويركز فيه المجتمع علي توزيع الثروة قبل خلقها‏,‏ وتعطي النخبة السياسية في البلد من الاهتمام بالخارج ما يفوق الداخل‏,‏ وإذا اهتمت بالداخل فإنها تريد نظاما سياسيا يختلط فيه الإفتاء بالتشريع‏;‏ ثم بعد ذلك كله تتصور أن تحصل علي مكانة متقدمة في عالم اليوم حتي تصل إلي كوريا الجنوبية أو تركيا وتتجاوزهما أيضا‏.‏
وقد كان مدهشا للغاية أنه خلال ست ساعات من المحاورات التليفزيونية مع الدكتور البرادعي لم يكن هناك إلا سؤال واحد حول سياسة الدعم‏;‏ وكانت الإجابة لا تقل بعثا للدهشة‏,‏ حينما قال إنه من البدهي الحفاظ علي دعم رغيف العيش‏,‏ ولكن يمكن التفكير في تغيير دعم الطاقة‏.‏ وهي الإجابة نفسها التي يقدمها الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء لأسئلة مماثلة‏,‏ وربما الأغلبية الساحقة من أركان النخبة المصرية داخل الحكومة وخارجها‏,‏ حيث يبقي نظام للدعم لم يعد موجودا في بلد متقدم في العالم‏.‏ وما ينطبق في الحقيقة علي الدعم ينطبق علي كل السياسات الأخري التي تقوم في جوهرها علي إدارة المعركة مع الفقر وليس إدارة السعي نحو الثروة‏,‏ وهو الفارق الأساسي بيننا وبين الدول التي سبقتنا‏.‏
الرسالة هنا هي أنه إذا أرادت مصر أن تصبح مثل النماذج الاقتصادية الموجودة علي مستوي العالم‏,‏ مثل تركيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل والهند‏,‏ فلابد أن تنتهج سياسات وإجراءات شبيهة بما قامت به هذه الدول‏,‏ كما أنه من الضروري دراسة خبرة هذه الدول في التعامل مع بعض القضايا ذات الطابع الاقتصادي الخاص بتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية حتي يمكن تحقيق التراكم الرأسمالي‏,‏ وذات الطابع الاجتماعي كمكافحة الفقر وترشيد الدعم ومجانية التعليم‏,‏ مع الوضع في الاعتبار أنها انتهجت في البداية إجراءات اقتصادية واجتماعية ربما تكون مؤلمة علي الصعيد الاجتماعي لكنها في النهاية أنتجت تداعيات إيجابية عديدة كان لها أثر كبير في ارتفاع مستوي معيشة مواطنيها‏.‏
وتمثل ماليزيا واحدة من أكثر الدول نجاحا في استخدام الحوافز لجذب الاستثمار الأجنبي‏,‏ حيث أصدرت قانون تشجيع الاستثمار في عام‏1968,‏ قام علي السماح للأجانب بالاستحواذ علي‏100%‏ من حقوق الملكية في شركاتهم عند قيامهم بتصدير‏80%‏ من منتجات تلك الشركة‏,‏ والسماح للشركات التي تصدر ما بين‏51%‏ و‏79%‏ من منتجاتها بنسبة مماثلة من حقوق الملكية لتلك الشركات‏,‏ والسماح للشركات التي تصدر نسبة تتراوح بين‏20%‏ و‏50%‏ من منتجاتها بتملك حتي‏51%‏ من أسهم تلك الشركات‏.‏ وقد اتهمت الحكومة في هذا السياق بالتمييز‏,‏ لكنها كانت ترد علي ذلك بأن الاقتصاد موجه للتصدير بما يؤدي إلي توافر العملة الصعبة وجذب التكنولوجيا‏,‏ والأهم من ذلك حل مشكلة التوصل إلي شركاء محليين‏.‏ ولعل ذلك هو الذي يمثل الفارق بيننا وبين دول مثل فيتنام التي نجحت في العام الماضي في اجتذاب‏63‏ مليار دولار‏,‏ بينما كان ما حصلنا عليه لا يزيد إلا قليلا علي‏8‏ مليارات دولار‏,‏ لأن الهدف الفيتنامي الواضح هو الحصول علي مكانة في أسواق العالم من خلال الشركات الدولية الكبري التي تقدم التكنولوجيا والقدرة علي النفاذ للمستهلك علي مستوي العالم كله‏.‏
وفي العموم إن فيتنام والدول الآسيوية استندت كلها إلي النموذج الياباني الذي سعي إلي اقتناص أسواق عالمية من خلال الجودة والسعر ومن ورائهما العمل الشاق واكتساب الخبرة الدولية‏.‏ وفي تركيا لم تكن الحال مختلفة كثيرا‏,‏ حيث قامت التجربة علي المزج بين تشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية‏,‏ ولذلك عملت علي تقليص دور وحجم القطاع العام في الاقتصاد ومنح هامش واسع من الحرية للقطاع الخاص‏,‏ وعلي ضوء هذه السياسة تحول القطاع الخاص التركي ليصبح المحرك الرئيسي في الاقتصاد وأحد أهم أسباب ارتفاع معدلات النمو‏,‏ بالتزامن مع إصلاح القطاع المصرفي‏,‏ وقانون الاستثمار الأجنبي‏,‏ وقانون حماية الملكية الثقافية والصناعية‏.‏ أما في الهند‏,‏ فقد وضعت الحكومة الهندية برنامج إصلاح اقتصادي واسع‏,‏ اعتمد علي تقديم حوافز عديدة للمستثمرين بهدف تفعيل مشاركتهم في عملية التنمية وتقليص الجهاز البيروقراطي في الدولة‏,‏ وتبسيط نظام الضرائب‏.‏
في هذه الدول كلها مضافا إليها دول أوروبا الشرقية في مرحلتها الشيوعية والاشتراكية كان يوجد فيها نماذج مختلفة عما هو لدينا الآن‏,‏ ووجدت هذه الدول أنه يستحيل دخول دائرة التقدم دون تمويل كاف للتعليم‏,‏ وإذا كان لا يوجد غذاء بالمجان فلم يحدث في التاريخ أن كان هناك تعليم حقيقي بالمجان أيضا‏;‏ كما وجدت أنه يستحيل تحقيق تقدم اقتصادي متواصل مع وجود أسعار مختلفة للسلع بعضها مدعوم وبعضها الآخر ليس كذلك‏,‏ أو دون فتح الأبواب علي مصراعيها للمستثمر الأجنبي‏,‏ ووجدت أنه لا يمكن إقامة الديمقراطية دون أن يكون معها دولة مدنية حديثة دون تردد أو مماحكة‏.‏
وخلال المرحلة المقبلة حتي الانتخابات الرئاسية في العام المقبل فإن جوهر القضية السياسية في مصر سوف يبقي حول أي مصر نريد؟ وهل هي جزء من القرن الحادي والعشرين كما تعكسه الدول المتقدمة في العالم المعاصر‏,‏ أم أنها سوف تبقي علي حالها بأشكال محسنة لما كان يجري فيها خلال العقود الستة الماضية؟ وهل يمكن البحث في شكل النظام السياسي دون استقرار علي المهمة التي علي هذا النظام السياسي القيام بها؟
[email protected]
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.