بالأسماء، "الصحفيين" تعتمد نتيجة لجنة القيد الأخيرة للانتقال لجدول المشتغلين    فضيحة اسمها الانتخابات    تطبيق خارطة الطريق في أسرع وقت.. رئيس الوزراء: ملف الإعلام أولوية قصوى    متى يزيد إنتاج الغاز المحلي ومصير حقل ظهر؟ رئيس الوزراء يرد    "تراجع المستعمل لا يتوقف".. بيجو 301 موديل 2020 ب570 ألف جنيه    ما الجدوى الاقتصادية من استيراد الغاز الإسرائيلي؟ رد حاسم لرئيس الوزراء    شوبير أم الشناوي، من يحرس مرمى الأهلي أمام فاركو؟    ضبط مدير مطبعة بتهمة نسخ الكتب الدراسية دون تصريح في بدر    مصرع مسن صدمته سيارة على طريق السويس بالإسماعيلية    إبراهيم نجم: الفتوى رسالة حضارية تواجه فوضى التطرف وتخدم السلام    مؤتمر الإفتاء يحذر: فتاوى الذكاء الاصطناعي تشوه الدين    "إيه الجمال ده".. ميرنا جميل تخطف الأنظار في أحدث ظهور لها    محافظ الإسماعيلية يوجه فرع الرعاية الصحية بتخصيص الفترة الصباحية لكبار السن (صور)    مجلس الوزراء يستهل اجتماعه بدقيقة حدادا على روح الدكتور علي المصيلحي    الاحتلال يستهدف منتظري المساعدات ويواصل قصف المناطق السكنية    رغم انخفاض الأمطار وسد النهضة.. خبير يزف بشرى بأن مياه السد العالي    وزارة الرياضة: نسعى لمنظومة خالية من المنشطات.. ونراقب عقوبات الجماهير وعقود اللاعبين    بعد صرف 800 مليون إسترليني.. هل نشهد أقوى سباق على الإطلاق للفوز بلقب الدوري الإنجليزي؟    عارضة أزياء عن أسطورة ريال مدريد السابق: «لا يستحم».. ونجم كرة القدم: انتهازية (تفاصيل)    «غربلة وتغييرات».. إعلامي يكشف قرار ريبيرو المفاجئ تجاه هؤلاء في الأهلي    نور وغزل تحرزان ذهبية تتابع ببطولة العالم للخماسي الحديث تحت 15 سنة بالإسكندرية    رئيس الوزراء ينعي الأديب المصري الكبير صنع الله إبراهيم    جامعة الجلالة توجه الشكر لأول مجلس أمناء بعد انتهاء بعد دورته    "المتحدة" تطلق حملة توعية بمخاطر حوادث الطرق للحفاظ على الأرواح    3 أيام من البحث.. انتشال جثة مندوب أدوية غرق بعد انقلاب سيارته في ترعة بسوهاج    فكك 6 شبكات تجسس.. قصة خداع «ثعلب المخابرات المصرية» سمير الإسكندراني للموساد الاسرائيلي    مجلس الوزراء يوافق على إعفاء سيارات ذوى الإعاقة من الضريبة الجمركية    القائمة بأعمال وزيرة البيئة تتابع آخر مستجدات العمل بمصرف المحيط بالمنيا    رئيس الوزراء يوجه الوزراء المعنيين بتكثيف الجهود لتنفيذ الوثائق التي تم توقيعها بين مصر والأردن وترجمتها إلى خطط وبرامج على الأرض سعياً لتوطيد أطر التعاون بين البلدين    "هيلعبوا بالفلوس لعب".. 4 أبراج على موعد مع الثراء وتحول مالي كبير    أكاديمية الفنون تكشف عن موعد انطلاق «مهرجان مسرح العرائس».. بالتفاصيل    حقق إجمالي 141 مليون جنيه.. تراجع إيرادات فيلم المشروع X بعد 84 يومًا    «مصر وطني الثاني».. راغب علامة ينهي أزمته مع نقابة الموسيقيين بعد لقاء مصطفى كامل    "خايف عليك من جهنم".. مسن يوجه رسالة مؤثرة لشقيقه من أمام الكعبة (فيديو)    كيف نخرج الدنيا من قلوبنا؟.. علي جمعة يضع روشتة ربانية للنجاة والثبات على الحق    بشروط صارمة.. «الإدارة الروحية الإسلامية» بروسيا يُجيز استخدام حقن «البوتوكس»    أوقاف سوهاج تختتم فعاليات الأسبوع الثقافى بمسجد الحق    ترامب وبوتين يلتقيان في ألاسكا التي اشترتها أمريكا من روسيا.. فما قصتها؟    تخفيف الزحام وتوفير الأدوية.. تفاصيل اجتماع رئيس "التأمين الصحي" مع مديري الفروع    محافظ المنوفية يفاجئ مكتب صحة الباجور ويحيل عاملا للتحقيق- صور    رئيس منطقة سوهاج الأزهرية يتفقد اختبارات الدارسين الخاتمين برواق القرآن    وزارة الزراعة: إجراء التلقيح الاصطناعي لأكثر من 47 ألف رأس ماشية    "قيد الإعداد".. الخارجية الأمريكية تقترب من تصنيف الاخوان منظمة إرهابية    وكالة الطاقة الدولية تخفض توقعاتها لنمو الطلب على النفط في 2025    إنهاء إجراءات فتح حساب بنكى لطفلة مريضة بضمور النخاع الشوكى بعد تدخل المحافظ    جهاز تنمية المشروعات وبنك القاهرة يوقعان عقدين جديدين بقيمة 500 مليون جنيه لتمويل المشروعات متناهية الصغر    اتصالان لوزير الخارجية مع نظيره الإيراني والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية    رئيس جهاز مدينة دمياط الجديدة يتفقد أحد مشروعات الشراكة مع القطاع الخاص    وزير الخارجية يبحث مع نظيره السعودي تطورات الأوضاع في غزة    وزير التربية والتعليم يكرم الطلاب أوائل مدارس النيل المصرية الدولية    "الشناوي في حتة تانية".. تعليق ناري من الحضري على مشاركة شوبير أساسيا مع الأهلي    الصحة: حريق محدود دون إصابات بمستشفى حلوان العام    قافلة المساعدات المصرية ال 14 تنطلق إلى قطاع غزة    شجرة أَرز وموسيقى    البيضاء تواصل التراجع، أسعار الدواجن اليوم الأربعاء 13-8-2028 بالفيوم    مواعيد مباريات اليوم.. قمة باريس سان جيرمان ضد توتنهام بالسوبر الأوروبي    كسر خط صرف صحي أثناء أعمال إنشاء مترو الإسكندرية | صور    إخماد حريق نشب في محول كهرباء تابع لترام الإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
تغيير حالة الوطن ؟
نشر في الأهرام اليومي يوم 27 - 02 - 2010

كان الوقت في نهاية السبعينيات عندما شاركت زميلا بريطانيا في حجرة جماعة الدارسين للدكتوراه‏,‏ الذين يقومون بالتدريس للطلبة في الوقت نفسه بجامعة شمال إلينوي بمدينة ديكالب الصغيرة‏,‏ والقريبة من شيكاغو في ولاية إلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية‏.‏ وكما هي العادة في مثل هذه الأحوال كانت هناك مناقشات كثيرة حول ما ندرسه‏,‏ وما نحاضر الطلاب به‏,‏ وعن تاريخ بلادنا وما جري فيها من أحوال قريبة وبعيدة‏.‏
وكان طبيعيا أن يحضر بين طالب مصري وآخر بريطاني تاريخ العلاقة بين مصر وبريطانيا‏;‏ ولما كنت مشبعا في ذلك الوقت بالرؤية المصرية وحدها القائمة علي أن الاستعمار الإنجليزي كان السبب في تخلف مصر‏,‏ وأن الغني البريطاني جاء نتيجة استنزاف ثروات الشعوب المستعمرة‏,‏ فقد فاجأني زميلي بغضبه الشديد‏.‏ وكان منطقه يقوم علي أن تقدم المملكة المتحدة راجع أساسا إلي التضحيات التي قدمها شعبها‏,‏ وراح يعدد ليس فقط المنجزات التكنولوجية التي حققتها بلاده في فجر الثورة الصناعية وإنما التضحيات التي بذلها الشعب البريطاني من أجل الوصول إلي ما وصل إليه‏.‏ وكانت التفاصيل كثيرة من أول المدن التي ازدحمت وانهارت مقوماتها‏,‏ حتي القري التي هجرها أهلها بحثا عن ثروات مزعومة حتي انتهي بهم الأمر إلي الفقر والتسول والانهيار الخلقي المعنوي‏,‏ والنساء والأطفال الذين عملوا لساعات طوال دون شفقة أو رحمة أمام أفران الصلب المنصهر دون حماية أو وقاية فسقطوا في سن مبكرة صرعي للأمراض والمجاعات‏.‏
والحقيقة أن هذه الصورة الدرامية لم تكن بعيدة تماما عن الذهن‏,‏ فكنت قد قرأت بالطبع روايات مهمة مثل دافيد كوبرفيلد و أوليفر تويست اللتين صورتا الأحوال البريطانية إبان الثورة الصناعية‏,‏ ودرست أيضا خلال المرحلة الجامعية في مادة التاريخ الاقتصادي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الكثير عن التضحيات المختلفة التي قدمتها الشعوب التي سبقتنا خلال مراحل متنوعة من التطور‏;‏ ولما كان بحثي في مادة الفكر السياسي يدور عن مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا لدي كارل ماركس فقد كان لابد من قراءة الكثير من كتبه‏,‏ وكلها غنية بآلام عمليات التحول في المجتمعات الصناعية‏.‏
وعلي أي حال فقد استمرت المناقشات والحوارات‏,‏ وربما توصلنا إلي نقطة وسط بشكل أو آخر‏,‏ ولكن النتيجة المهمة كانت أن للتقدم ثمنا وتضحيات نادرا ما نتحدث عنها في مصر‏,‏ حيث تبدو الأمور بسيطة للغاية ولا تتعدي تعديلات دستورية في المواد‏76‏ و‏77‏و‏88,‏ وانتخاب واحد من أقطاب المعارضة‏,‏ ومن بعدها تصبح مصر بلدا مثل سويسرا‏,‏ أقل أو أكثر قليلا‏!.‏
وحتي لا يسيء أحد فهم القصد والنية فإن تعديل هذه المواد كان مطلبا للعديد من المثقفين والسياسيين المصريين‏,‏ منذ التعديلات الدستورية الأخيرة في عامي‏2005‏ و‏2007;‏ ولعلي كنت واحدا منهم كتابة وحديثا ومشاركة في المحافل السياسية المختلفة‏,‏ وضمن قلة تطلب البحث في دستور جديد كلية‏.‏
ولكن قضية التغيير في مصر أكبر من ذلك بكثير لأنها لاترتبط فقط بالبنية القانونية والدستورية ولكنها ترتبط بالسياسات العامة والثمن الذي نحن علي استعداد لدفعه حكومة وشعبا‏.‏
وقد كان الأسبوع الماضي بلا جدال هو أسبوع الدكتور البرادعي‏,‏ حيث ظهر ست ساعات كاملة أو أكثر علي شاشة التليفزيون‏,‏ بالإضافة إلي سلسلة من المقابلات والتصريحات الصحفية التي انتهت حتي وقت كتابة هذا المقال بلقاء القمة مع السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية حيث اتفقا علي أهمية التغيير في مصر‏;‏ وقبل سفره إلي الخارج أعلن عن تشكيل جمعية وطنية للتغيير أيضا‏.‏
المسألة إذن هي التغيير أي الانتقال من حالة إلي حالة أخري مختلفة تماما ولكنها أكثر تقدما مما نحن عليه الآن‏;‏ ولكن ما يحدث للأسف بعد ذلك هو قياسات غير دقيقة للواقع المصري الراهن‏,‏ ومقارنتها بما تحقق في دول أخري‏,‏ وبعد أن تصبح الحالة فاضحة فإن الصمت يهبط ثقيلا حول الخطوة التالية أو يتم الانتقال إلي قياسات أخري لإثبات النقطة ذاتها‏.‏ قد كان مدهشا قليلا أن كثيرا من الأرقام التي ذكرها الدكتور البرادعي لم تكن صحيحة‏,‏ فلم يكن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي‏1200‏ دولار‏,‏ وإنما هو في كل تقرير دولي‏2180‏ دولارا‏,‏ وهو فارق ليس قليلا‏;‏ وإذا ما حسب باعتبار القوة الشرائية للدولار فإن المتوسط يصل إلي‏5347‏ دولارا‏.‏
بالنسبة لمكانة مصر في تقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة فهي بالفعل متدنية ومخجلة‏,‏ إذ إنها تحتل الترتيب‏123‏ من‏177‏ دولة وليس‏175‏ دولة‏;‏ ولكن التدقيق هنا واجب أيضا‏,‏ حيث تتقدم مصر في مقياس الفقر لكي تصبح مكانتها‏82,‏ وعند التدقيق أكثر في التقرير نفسه فإن نسبة من يعيش من المصريين علي أقل من‏1.25‏ دولار أقل من‏2%‏ من السكان‏,‏ أما من يعيشون بأقل من دولارين فهم‏18.4%.‏ هذه الأرقام رفعها الدكتور البرادعي ليس فقط إلي‏42%‏ من السكان‏,‏ وإنما جعلها عند أقل من دولار واحد‏,‏ وهو ما لم يأت من قريب أو بعيد في تقرير عالمي منشور علي شبكة المعلومات الدولية‏.‏ وهذا التقرير يقيس أيضا درجة العدالة الاجتماعية في بلدان العالم المختلفة من خلال ما هو معروف بمقياس جيني‏,‏ وفيه فإن المقياس المصري هو‏32.1‏ وهو أفضل كثيرا من دولة أكثر غني من مصر مثل جنوب إفريقيا ومقياسها‏57.8,‏ والصين الشيوعية‏41.5,‏ وإيران الإسلامية‏38.3,‏ وفنزويلا الثورية والبترولية‏43.4‏ ولو نظرنا للمسألة كلها ليس من حيث الترتيب ولكن من خلال مقارنة مصر بنفسها فإن مقياس التنمية البشرية المصري ارتفع من‏0.496‏ عام‏1980‏ إلي‏0.703‏ عام‏2007,‏ وعندها توجد آخر الأرقام المتاحة‏;‏ ولكنها تشير إلي تحسن في الحالة المصرية برغم زيادة عدد السكان من‏40‏ مليونا إلي نحو‏80‏ مليونا أي ضعف ما كانوا عليه منذ ربع قرن‏.‏
ومع ذلك فإن ما قال به الدكتور البرادعي فيه علي وجه العموم بعض من الصحة‏,‏ ففقراء مصر كما تقول فعلا التقارير الدولية أقل من‏20%‏ يقترب منهم نحو‏20%‏ آخرين ربما كانوا أعلي من حد الفقر ولكنهم ليسوا بعيدين عنه‏.‏ وربما كانت الأرقام في مجملها غير دقيقة‏,‏ وفيها قدر كبير من الاختيار‏,‏ وتتجاهل أن‏60%‏ من المصريين ليسوا فقراء أو قريبين من الفقر‏,‏ ولكنها صحيحة في أن مصر لا تزال قابعة في دائرة الدول المتخلفة‏,‏ وهناك كثرة من الدول سبقتها‏,‏ وهو ما يجعل المقارنة مشروعة في كل الأوقات‏.‏
ولعلنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام كنا أول من نشر علي نطاق واسع تلك المقارنات بين مصر والدول الأخري باعتبارها تمثل مقياسا لمدي التقدم المصري حتي صار من الأمثال القومية تلك المقارنة الذائعة بين مصر وكوريا الجنوبية عند نقطة السباق الأولي عام‏1960,‏ حتي وصلنا إلي بداية العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين حيث بلغت المفارقة حدودا مفزعة‏.‏
وهنا نصل تحديدا إلي لب القضية كلها‏,‏ فالمقارنة تتيح مقياسا للتقدم والتغيير‏,‏ ولكن مقارنة النتائج لا تصح دون الاستعداد للمصارحة بالثمن الواجب دفعه للوصول إلي النتائج نفسها‏,‏ والتضحيات التي لا يمكن تجنبها حتي يكون التقدم ممكنا‏.‏ وهذا يعيدنا مباشرة إلي مقدمة المقال‏,‏ فسواء تعلق الأمر بالدول التي تقدمت منذ القرن التاسع عشر مثل بريطانيا والولايات المتحدة‏,‏ أو الدول التي تقدمت خلال النصف الأول من القرن العشرين مثل ألمانيا واليابان‏,‏ أو تلك الدول الآسيوية والأمريكية اللاتينية‏,‏ أو في شرق أوروبا‏,‏ في النصف الثاني من القرن الماضي‏,‏ كلها قدمت تضحيات بالغة‏,‏ ربما كان أهمها تغيير ثقافات سائدة‏,‏ وسياسات متمكنة‏.‏ وهناك قول ذائع لعالم الذرة الشهير ألبرت أينشتين إنه من قمة الغباء أن تفعل ما تفعله مرارا وتكرارا ثم تحصل بعد ذلك علي نتائج مختلفة‏!.‏
وببساطة إنك لا تستطيع أن تحافظ علي سياسات للدعم تخلت عنها كل الدول التي تسعي للمقارنة بها‏,‏ ونظم للتعليم والتربية لم يعد أحد في الدنيا المتقدمة يقبل بها‏,‏ وتقيم نظاما للصحة لا يشعر أحد أن له ثمنا من نوع أو آخر‏,‏ ويركز فيه المجتمع علي توزيع الثروة قبل خلقها‏,‏ وتعطي النخبة السياسية في البلد من الاهتمام بالخارج ما يفوق الداخل‏,‏ وإذا اهتمت بالداخل فإنها تريد نظاما سياسيا يختلط فيه الإفتاء بالتشريع‏;‏ ثم بعد ذلك كله تتصور أن تحصل علي مكانة متقدمة في عالم اليوم حتي تصل إلي كوريا الجنوبية أو تركيا وتتجاوزهما أيضا‏.‏
وقد كان مدهشا للغاية أنه خلال ست ساعات من المحاورات التليفزيونية مع الدكتور البرادعي لم يكن هناك إلا سؤال واحد حول سياسة الدعم‏;‏ وكانت الإجابة لا تقل بعثا للدهشة‏,‏ حينما قال إنه من البدهي الحفاظ علي دعم رغيف العيش‏,‏ ولكن يمكن التفكير في تغيير دعم الطاقة‏.‏ وهي الإجابة نفسها التي يقدمها الدكتور أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء لأسئلة مماثلة‏,‏ وربما الأغلبية الساحقة من أركان النخبة المصرية داخل الحكومة وخارجها‏,‏ حيث يبقي نظام للدعم لم يعد موجودا في بلد متقدم في العالم‏.‏ وما ينطبق في الحقيقة علي الدعم ينطبق علي كل السياسات الأخري التي تقوم في جوهرها علي إدارة المعركة مع الفقر وليس إدارة السعي نحو الثروة‏,‏ وهو الفارق الأساسي بيننا وبين الدول التي سبقتنا‏.‏
الرسالة هنا هي أنه إذا أرادت مصر أن تصبح مثل النماذج الاقتصادية الموجودة علي مستوي العالم‏,‏ مثل تركيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل والهند‏,‏ فلابد أن تنتهج سياسات وإجراءات شبيهة بما قامت به هذه الدول‏,‏ كما أنه من الضروري دراسة خبرة هذه الدول في التعامل مع بعض القضايا ذات الطابع الاقتصادي الخاص بتشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية حتي يمكن تحقيق التراكم الرأسمالي‏,‏ وذات الطابع الاجتماعي كمكافحة الفقر وترشيد الدعم ومجانية التعليم‏,‏ مع الوضع في الاعتبار أنها انتهجت في البداية إجراءات اقتصادية واجتماعية ربما تكون مؤلمة علي الصعيد الاجتماعي لكنها في النهاية أنتجت تداعيات إيجابية عديدة كان لها أثر كبير في ارتفاع مستوي معيشة مواطنيها‏.‏
وتمثل ماليزيا واحدة من أكثر الدول نجاحا في استخدام الحوافز لجذب الاستثمار الأجنبي‏,‏ حيث أصدرت قانون تشجيع الاستثمار في عام‏1968,‏ قام علي السماح للأجانب بالاستحواذ علي‏100%‏ من حقوق الملكية في شركاتهم عند قيامهم بتصدير‏80%‏ من منتجات تلك الشركة‏,‏ والسماح للشركات التي تصدر ما بين‏51%‏ و‏79%‏ من منتجاتها بنسبة مماثلة من حقوق الملكية لتلك الشركات‏,‏ والسماح للشركات التي تصدر نسبة تتراوح بين‏20%‏ و‏50%‏ من منتجاتها بتملك حتي‏51%‏ من أسهم تلك الشركات‏.‏ وقد اتهمت الحكومة في هذا السياق بالتمييز‏,‏ لكنها كانت ترد علي ذلك بأن الاقتصاد موجه للتصدير بما يؤدي إلي توافر العملة الصعبة وجذب التكنولوجيا‏,‏ والأهم من ذلك حل مشكلة التوصل إلي شركاء محليين‏.‏ ولعل ذلك هو الذي يمثل الفارق بيننا وبين دول مثل فيتنام التي نجحت في العام الماضي في اجتذاب‏63‏ مليار دولار‏,‏ بينما كان ما حصلنا عليه لا يزيد إلا قليلا علي‏8‏ مليارات دولار‏,‏ لأن الهدف الفيتنامي الواضح هو الحصول علي مكانة في أسواق العالم من خلال الشركات الدولية الكبري التي تقدم التكنولوجيا والقدرة علي النفاذ للمستهلك علي مستوي العالم كله‏.‏
وفي العموم إن فيتنام والدول الآسيوية استندت كلها إلي النموذج الياباني الذي سعي إلي اقتناص أسواق عالمية من خلال الجودة والسعر ومن ورائهما العمل الشاق واكتساب الخبرة الدولية‏.‏ وفي تركيا لم تكن الحال مختلفة كثيرا‏,‏ حيث قامت التجربة علي المزج بين تشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية‏,‏ ولذلك عملت علي تقليص دور وحجم القطاع العام في الاقتصاد ومنح هامش واسع من الحرية للقطاع الخاص‏,‏ وعلي ضوء هذه السياسة تحول القطاع الخاص التركي ليصبح المحرك الرئيسي في الاقتصاد وأحد أهم أسباب ارتفاع معدلات النمو‏,‏ بالتزامن مع إصلاح القطاع المصرفي‏,‏ وقانون الاستثمار الأجنبي‏,‏ وقانون حماية الملكية الثقافية والصناعية‏.‏ أما في الهند‏,‏ فقد وضعت الحكومة الهندية برنامج إصلاح اقتصادي واسع‏,‏ اعتمد علي تقديم حوافز عديدة للمستثمرين بهدف تفعيل مشاركتهم في عملية التنمية وتقليص الجهاز البيروقراطي في الدولة‏,‏ وتبسيط نظام الضرائب‏.‏
في هذه الدول كلها مضافا إليها دول أوروبا الشرقية في مرحلتها الشيوعية والاشتراكية كان يوجد فيها نماذج مختلفة عما هو لدينا الآن‏,‏ ووجدت هذه الدول أنه يستحيل دخول دائرة التقدم دون تمويل كاف للتعليم‏,‏ وإذا كان لا يوجد غذاء بالمجان فلم يحدث في التاريخ أن كان هناك تعليم حقيقي بالمجان أيضا‏;‏ كما وجدت أنه يستحيل تحقيق تقدم اقتصادي متواصل مع وجود أسعار مختلفة للسلع بعضها مدعوم وبعضها الآخر ليس كذلك‏,‏ أو دون فتح الأبواب علي مصراعيها للمستثمر الأجنبي‏,‏ ووجدت أنه لا يمكن إقامة الديمقراطية دون أن يكون معها دولة مدنية حديثة دون تردد أو مماحكة‏.‏
وخلال المرحلة المقبلة حتي الانتخابات الرئاسية في العام المقبل فإن جوهر القضية السياسية في مصر سوف يبقي حول أي مصر نريد؟ وهل هي جزء من القرن الحادي والعشرين كما تعكسه الدول المتقدمة في العالم المعاصر‏,‏ أم أنها سوف تبقي علي حالها بأشكال محسنة لما كان يجري فيها خلال العقود الستة الماضية؟ وهل يمكن البحث في شكل النظام السياسي دون استقرار علي المهمة التي علي هذا النظام السياسي القيام بها؟
[email protected]
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.