لم يقتصر نشاط الفتيان (العيارين/الشطار) على الصعيد الاجتماعى، الذى استهدف إعادة توزيع ثروة المجتمع بشكل عادل بين الأغنياء والفقراء، وانما امتد هذا النشاط الى الصعيد السياسى من خلال اسهامهم الفعال فى الحفاظ على هيبة الخلافة الاسلامية، والذود عن حاضرتها بغداد، ضد القوى التى سعت للهيمنة على مقدراتها ؛ وذلك راجع فى الأساس للروابط الوثيقة بين العامة (التى ينتمى اليها العيارون) والخلافة العباسية التى ترسخت بفضل الطابع الدينى الذى اتسمت به تلك الخلافة، التى كانت وريثة للنبوة فى حراسة الدين وسياسة الدنيا، واعتقدت العامة أن التحلل من سياق هذه الروابط السياسية والدينية بمثابة خروج على الشريعة ذاتها. و كان لرسوخ قدم الخلافة العباسية وعمرها المديد الذى استمر عدة قرون أثره العميق فى تثبيت هيبتها الدينية والسياسية فى وجدان العامة.
كما توثقت تلك العلاقة من خلال امتزاج موقف العامة الساعى للحفاظ على وجود الخلافة العباسية الشرعى، بحرصهم الشديد على استقلالية عاصمتهم بغداد عن النفوذ الأجنبى، فانحازوا تماما الى جانب الخلفاء العباسيين فى صراعهم الضارى ضد محاولات القوى الفارسية والتركية والسلجوقية للهيمنة على مقدرات السلطة المركزية وحاضرتها بغداد.
وقد ساعدهم فى هذا الصدد شجاعتهم الفائقة ومهاراتهم الحربية، وتشكيلاتهم العسكرية التى اتسمت ببساطة تنظيمها، وبدائية أسلحتها التى تمثلت فى رمح بسن فولاذى، وترس (درع) من الحصير المحشو بالحصى والرمال لحماية أجسادهم من أسلحة العدو، وتزودوا بمخلاه بها حجارة، ومقلاع لقذفها، فضلا عن الأسلحة التقليدية الأخرى من السيوف والخناجر والسكاكين.
ويصور المسعودى «فى الجزء الثانى من كتابه مروج الذهب» سمات التشكيل القتالى للعيارين، وأسلحتهم المتواضعة فى مواجهة الجيوش النظامية بتنظيماتها المتطورة، وأسلحتها المتقدمة «يأتى العريف وقد ركب.... وقدامه عشرة من المقاتلة على رءوسهم خوذ الخوص، ودرق البوارى (التروس)، وياتى النقيب والقائد، والأمير كذلك، فتقف النظارة (المتفرجون) ينظرون الى حربهم مع أصحاب الخيول الفٌُّره (الفخمة)، والجواشن (درع من الحديد) والدروع، والرماح والدرق (درع من الجلود) التبتية (المستورد من التبت بالصين). فهؤلاء عراة، وهؤلاء على ما ذكرنا من العدة.»
و قد بدأ نضالهم السياسى باعلان تعاطفهم، وانحيازهم الكامل للخليفة العباسى محمد الأمين، ضد تمرد أخيه المأمون على سلطته الشرعية، مستندا على العناصر الفارسية التى سعت للانقضاض على عاصمة الخلافة وسلطتها المركزية سنة 197ه.
وحينما أحكمت تلك العناصر حصارها على بغداد، لبت العامة، وفى الصدارة منها العيارين، نداء الخليفة الشرعى الأمين للتصدى لهذا الهجوم، وضربوا أروع أمثلة البطولة للدفاع عن خلافتهم ومدينتهم بغداد، حتى بعد خيانة الأشراف والوجهاء وكبار التجار للخليفة الأمين وانحيازهم لجند المأمون ؛ بل وبعد أن «ذلت الأجناد (جنود الجيش الرسمى للأمين)، وتواكلت عن القتال»؛ فقد استمرفى ساحة القتال «باعة الطريق والعراة، وأهل السجون الأوباش، والرعاع وأهل السوق (وكلهم من العيارين)»، يزودون عن شرعية الخلافة وحرمة عاصمتها بمهارة وصلابة منقطعة النظير، أشار اليها الطبرى فى الجزء الثامن من تاريخه بقوله إن أحد قواد المأمون الفرس، خرج يوما الى القتال، فنظر الى قوم عراة، لا سلاح معهم فقال «ما عسى أن يبلغ كيد من ارى من هؤلاء ولا سلاح معهم ولا عدة لهم «، ثم تقدم وأخذ يرمى أحد العيارين بسهامه حتى نفدت، ولم يستطع أن يصيب العيار بأى ضرر لبراعته فى تجنب السهام، ثم حمل القائد على «العيار ليضربه بسيفه، فأخرج (العيار) من مخلاته حجرا، فجعله فى مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه، ثم ثناه بأخر فكاد يصرعه عن فرسه، وكر (القائد) راجعا وهو يقول ليس هؤلاء بانس».
وبعد أن تهاوت قوة الأمين العسكرية نصحه بعض قواد العيارين بالخروج ببقية سلاح الفرسان من بغداد الى الشام لمواصلة الصراع ضد المأمون ؛ ورغم اقتناعه بوجاهة هذه الفكرة، الا أنه لم يستجب لها تحت ضغط قواده الذين خانوه، وتحالفوا مع قوى الحصار الفارسى، فأثر الاستسلام وأنتهى مصيره بالقتل.