معظمنا للأسف الشديد سيجد نفسه مضطرا لإعادة تكرار ما قاله أو كتبه عقب الأحكام التى صدرت فى قضية محاكمة حسنى مبارك ونجليه وحبيب العادلى وكبار مساعديه، أو فى أحكام البراءة التى انهمرت كالمطر لصالح كل قادة الشرطة الذين كانوا متهمين فى قتل المتظاهرين أثناء الثورة. مجددا، لا يمكن لعاقل أن يلوم القضاء لأنه قام بتبرئة كل المتهمين فى موقعة الجمل قبل يومين، لكن يمكن أن نسأل النيابة: أين هى الأدلة والبراهين والحجج التى كان ينبغى تقديمها لإدانة المتهمين، لماذا حدث ذلك ومن الذى يتحمل مسئوليته، وإذا كان هؤلاء كلهم أبرياء فمن الذى خطط ومول ودبر هذه الموقعة المشينة؟.
هى موقعة مشينة لكنها لم تخل من إيجابيات حيث أظهرت للناس الطريقة التى كان يتصرف بها الحزب الوطنى والنظام، وكان لها الفضل الحقيقى فى تنوير السذج والأبرياء الذين كادوا ينخدعون بكلمات مبارك المعسولة قبل الموقعة بيومين حينما تكلم بانكسار واستعطاف وأنه يريد أن يموت ويدفن فى تراب هذا الوطن.
النيابة كان يفترض أن تقوم بتجهيز القضية بصورة كاملة، وتغطى كل الثغرات، وتجلو كل الحقائق، وتقدم كل الأسانيد والأدلة والبراهين التى تدين المتهمين. وبالتالى يصعب لوم القضاء أو القضاة لأنهم لا يحكمون بعواطفهم أو حسب اتجاهات الرأى العام، بل بالأوراق الموجودة أمامهم ومدى استنادها إلى حقائق صلبة على أرض الواقع.
معروف للجميع أن القضاء قد يبرئ شخصا يعرف الجميع أنه مجرم، لأنه لا أحد قدم للقضاء أوراقا تثبت إجرامه.
منذ اللحظة التى تم فيها النطق بالحكم تحدث كثيرون من أنصار الثورة عن صدمتهم، ودهشتهم، وسوف يتواصل هذا الاندهاش وتلك الصدمة حتى تأتى قضية أخرى أكبر وننسى الأمر، كما نسينا تماما دهشتنا وصدمتنا من الأحكام ضد مبارك وكبار قادة الشرطة.
هل المتهمون فى قضية الجمل ومعظم قضايا الثورة الأخرى أبرياء فعلا، أم أن الشرطة والنيابة وبقية أجهزة الدولة قد قصرت فى توفير الأدلة الكافية لإثبات جرائمهم؟!.
هذا سؤال سنظل نتجادل بشأنه ربما لسنوات حتى نعرف فعلا حقيقة ما حدث، ليس فقط فى موقعة الجمل، بل فى كل القضايا التى لا تزال لغزا حتى الآن، وقد نكتشف لاحقا تورط أطراف أخرى فيها.
كل المتهمين هللوا وكبروا وحمدوا الله على «مهرجان البراءة للجميع» الذى انضموا إليه مساء الأربعاء الماضى، والمؤكد أننا سنسمعهم ونشاهدهم يتحدثون طويلا من الآن وصاعدا عن اللحظات والساعات والأيام الصعبة التى عاشوها خلال الشهور الماضية، وسنسمع بعضهم يهدد ويتوعد، وسوف يشيدون جميعا بنزاهة القضاء التى لم تهتز لحظة. لكن ماذا سيفعلون إذا تم نقض الحكم فى الاستئناف؟!
الأحكام فى قضية الجمل ليست منعزلة عن السياق العام الذى نعيشه وهى رغم أنها قضية قضائية بحتة فسوف نكتشف لاحقا أنها قد توظف فى المشهد السياسى المستقبلى.
علينا أن ننشغل بالآثار السياسية لهذا الحكم فى الأيام المقبلة، وعلينا أن نتذكر الأوزان السياسية والاقتصادية والعائلية للمتهمين الذين حصلوا على البراءة وعلينا أن نسأل عن مدى تأثير الحكم فى الانتخابات البرلمانية المقبلة، ونسأل أكثر هل يمكن أن يعود المتهمون إلى ساحة العمل السياسى، وإذا عادوا فمع من يتحالفون؟!.