وزير المالية: 636 مليار جنيه قيمة فاتورة الدعم بالعام المالي الجديد    كمين نوعي للقسام.. مشاهد لأسر جنود إسرائيليين داخل أحد أنفاق غزة    أبو عبيدة: الاحتلال يسوق لاستخراج رفات جنوده على أنها «إنجاز عسكري»    كروس يشيد بمعاملة ريال مدريد ويعلق على نهائي دوري أبطال أوروبا    رابطة النقاد الرياضيين ترد على تصريحات الشناوي    وزير الرياضة: ليفربول حدد موعد وصول محمد صلاح لمنتخب مصر    الإسماعيلي يهنئ الأهلي بالتتويج بلقب إفريقيا في خطاب رسمي    الكشف موعد أول أيام عيد الأضحى لعام 2024 وفقًا للحسابات الفلكية    "رابط النتيجة".. اعرف نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 في الغربية الترم الثاني من هنا    زاهي حواس عن إقامة حفلات أمام الأهرامات: "منظر بشع ومقدرش أشوفه"    سلوى عثمان تنهار بالبكاء: «لحظة بشعة إنك تشوف أبوك وهو بيموت»    مبابي يودع باريس سان جيرمان بحصد لقب كأس فرنسا 2024    ياسر عبدالعزيز: الخوف هو السبب الرئيسي في إخفاق الإعلام الغربي مؤخرا    «المصريين الأحرار»: قرارات العدل الدولية خطوة في طريق طويل لتحقيق العدالة    نتائج صفوف النقل عبر الموقع الإلكتروني ب«تعليم الجيزة» اليوم    4 ظواهر جوية تضرب البلاد خلال الأسبوع الجاري.. تحذير من الرياح المثيرة للأتربة    تجدد الاحتجاجات ضد نتنياهو في تل أبيب وأماكن أخرى.. وأهالي الأسرى يطالبونه بصفقة مع حماس    هكذا احتفل إمام عاشور بدوري أبطال أفريقيا.. صور    «كتاب ونقاد السينما» تكرم فيلم «رفعت عيني للسما» الفائز بمهرجان «كان» الاثنين    مصر في 24 ساعة| السيسي يُصارح المصريين بأزمة انقطاع الكهرباء.. والأهلي يتوج بالأميرة السمراء    قطع المياه اليوم لمدة 6 ساعات عن بعض المناطق بالأقصر.. تعرف عليها    مروان عطية: هدف رامي ربيعة «ريحنا».. وتفاجأت بنزول ديانج    «قول حاحا أنا متكيف بصراحة».. هتافات الأهلاوية بعد هزيمة الترجي التونسي    وزير المالية: سبب أزمة الكهرباء عندنا دولار ومعندناش جنيه.. ولميس الحديدي «جديدة دي»    61 ألف جنيه شهريًا.. فرص عمل ل5 آلاف عامل بإحدى الدول الأوروبية (قدم الآن)    "نيوزويك": بوتين يدرس التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا    رئيس "زراعة الشيوخ": المشروعات التنموية في قطاع الزراعة تحقق الأمن الغذائي    صوّر ضحاياه عرايا.. أسرار "غرفة الموت" في شقة سفاح التجمع    هل خطة قطع الكهرباء مؤقتة أم دائمة؟.. وزير المالية يُجيب    وزير المالية: الإجراءات الإصلاحية تأتي مصحوبة بأعباء تضخمية تؤثر على مستوى المعيشة    اليوم.. افتتاح دورة تدريبية لأعضاء لجان الفتوى بالأقصر وقنا وأسوان    فجر السعيد تنتقد شيماء سيف بعد التكميم: دمها صار ثقيل"    "ساكتين ليه".. الرئيس يوجه رسالة غضب ل 3 وزراء (فيديو)    آلام التهاب بطانة الرحم.. هل تتداخل مع ألام الدورة الشهرية؟    أعراض الربو المبكرة عند الأطفال    مكملات غذائية تضر بصحتك أكثر من نفعها    مستشار وزير الزراعة: الرئيس السيسى افتتح 8 أنشطة كبيرة كل نشاط بمثابة بطولة    بوركينا فاسو تمدد فترة المجلس العسكري الانتقالي خمس سنوات    رئيس جامعة طنطا يشارك في اجتماع المجلس الأعلى للجامعات    شكرًا للرئيس.. الإعلام حقلة "وصل" بين التنمية والمصريين    الأزهر للفتوى يوضح العبادات التي يستحب الإكثار منها في الأشهر الحرم    الأزهر للفتوى يوضح حُكم الأضحية وحِكمة تشريعها    محمود بسيوني: الرئيس يتعامل مع المواطن المصري بأنه شريك فى إدارة البلاد    رئيس «إسكان النواب»: حادث معدية أبوغالب نتيجة «إهمال جسيم» وتحتاج عقاب صارم    مصدر مطلع: عرض صفقة التبادل الجديد المقدم من رئيس الموساد يتضمن حلولا ممكنة    خلال زيارته لجنوب سيناء.. وفد «صحة النواب» يتفقد أول مستشفى خضراء صديقة للبيئة.. ويوصي بزيادة سيارات الإسعاف في وحدة طب أسرة وادى مندر    «الري»: إفريقيا تعاني من مخاطر المناخ وضعف البنية التحتية في قطاع المياه    لعنة المساخيط.. مصرع شخصين خلال التنقيب عن الآثار بقنا    نتيجة الصف الرابع الابتدائي 2024 .. (الآن) على بوابة التعليم الأساسي    موعد عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات.. ومواعيد الإجازات الرسمية المتبقية للعام 2024    المدن الجامعية بجامعة أسيوط تقدم الدعم النفسي للطلاب خلال الامتحانات    القوات المسلحة تنظم المؤتمر الدولي العلمي للمقالات العلمية    ضبط تشكيل عصابي تخصص في الاتجار بالمواد المخدرة فى المنوفية    جارديان: واشنطن ولندن تدعمان تل أبيب ضد العدل الدولية بعد تراجعهما حول رفح    توقيع برتوكول تعاون مشترك بين جامعتي طنطا ومدينة السادات    وزير الأوقاف: تكثيف الأنشطة الدعوية والتعامل بحسم مع مخالفة تعليمات خطبة الجمعة    علاج 1854 مواطنًا بالمجان ضمن قافلة طبية بالشرقية    متصلة: أنا متزوجة وعملت ذنب كبير.. رد مفاجئ من أمين الفتوى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تراث قريب حاضر فى الذاكرة
نشر في الشروق الجديد يوم 21 - 09 - 2012

تعيش المدن المصرية حالة من الفوضى العمرانية والانهيار ضاعت فيها حقوق ساكنيها فى مدينة تحترم الإنسان وتلبى احتياجاته؛ فبين عشوائية فى البناء وغياب لحرمة الطريق وانهيار للمرافق الأساسية والخدمات وغياب للمتنزهات والمتنفسات ضاع الإنسان وضاعت حقوقه فى مدينته؛ فهل كان هذا حال المدينة المصرية دوما؟

أجزم أن الإجابة بالنفى، فمن كان فى مثل سنى قارب الستين عاش مرحلة من عمره فى مدينة مختلفة تحمل بقايا ملامح مشروع بناء المدينة الحديثة فى مصر، المدينة التى تحكمها مصالح ساكنيها.

المدينة التى عرفتها فى صباى سواء كانت القاهرة أو الإسكندرية أو المنصورة أو طنطا أو مدن القناة الثلاث، مدينة غير التى نعيش فيها الآن، كانت الفجوة بينها وبين مدن العالم الكبرى وقتها محدودة، كانت هناك مظاهرة رغم إنها تبدو صغيرة لكن دلالاتها الحضارية كانت كبيرة، على سبيل المثال: صناديق القمامة فى كل الشوارع، دورات المياه العمومية النظيفة فى أحياء مصر المختلفة، صناديق البريد التى كانت تملأ الشوارع ويتم جمع البريد منها فى حقائب جلدية خاصة لا تسمح لأحد بلمس الخطابات قبل أن تصل إلى مكتب التوزيع المركزى، وسائل النقل العام الآدمية، أماكن الانتظار المخصصة لسيارات الأجرة، دليل المدينة الكهربائى الذى كان يرشد التائهين إلى وجهتهم... وغيرها وغيرها من المظاهر التى اختفت من حياتنا.

مدينة كان يحكمها قانون للبناء يحترمه الجميع، يحدد ارتفاعات المبانى واشتراطات البناء، وينظم العلاقة بين ارتفاع المبنى وعرض الشارع، ويلزم أصحاب العقارات بتخصيص جزء منها كجراج لسيارات السكان، ويضع حدودا بين العمائر تسمح بمجال لضوء الشمس والهواء.

هذا القانون بات فى حكم القوانين الغائبة التى لا تنفذ عندما أصبح خرقه قاعدة لأن العقوبة أو غرامة التصالح لا تعادل المكاسب التى يحققها أصحاب العمائر من مخالفتهم، بعد أن أصبح الأسلوب المتبع فى حال المخالفات التصالح مع المحافظة بعد دفع الغرامة، وفى الحالات التى تحاول المحافظة تطبيق القانون وإزالة الإنشاءات المخالفة، تتحول هذه المبانى إلى كتلة خراسانية مهجورة تقف شاهدة على ما آل إليه حالنا، بسبب بطء إجراءات التقاضى والحيل القانونية، والغريب أن مجلس الشعب المنحل والذى جاء بعد ثورة شعبية كانت تسعى ضمن ما تسعى إليه إلى كرامة الإنسان، هذا المجلس طرح على جدول أعماله تعديل القانون بما يسمح بتقنين المخالفة، بدلا من أن يعمل على مواجهتها وسد الثغرات التى تسمح بها، والأغرب أننا نتجاهل بذلك تراثا طويلا من تنظيم البناء فى مدننا يسبق نهضتنا الحديثة بقرون، فالأرشيفات المصرية مليئة بالوثائق التى تكشف كيف كان أجدادنا الأقدمون يتعاملون مع حقوق الطريق وحقوق الجيرة، إن وثائق أذون البناء التى يرجع أقدم ما وصلنا منها إلى القرن الرابع عشر الميلادى تبين لنا أن الراغب فى تعلية مبنى أو بناء مبنى جديد فى قلب المدينة كان عليه أن يتوجه إلى قاضى الشرع ليحصل منه على إذن بالبناء، وكان القاضى يكلف خبراء فى المبانى بمعاينة المبنى أو الموقع وتحرير محضر يشهدون فيه بأن البناء الجديد أو الزيادة فى المبنى القائم لا تتعدى على حق الطريق ولا تجرح جارا، وهناك العديد من الكتب الفقهية فى تخطيط المدينة تبين الشروط الواجب اتباعها عند البناء للمحافظة على حقوق الناس وحرمة حياتهم الشخصية، فهل نتصور بعد هذه القرون الطويلة أن نعيش فى فوضى معمارية وعمرانية وبمباركة من مجلس يقول إنه لا يخالف شرع الله!

المدينة التى عرفتها فى صباى وهنا أتحدث عن القاهرة كان للنهر الذى يخترقها من الجنوب إلى الشمال حرمة وكانت ضفتاه مجالا عاما لكل ساكنى المدينة وزائريها، عندما بدأت الحكومة بعد انقلاب يوليو 1952 تخطط لشق كورنيش النيل من حلوان إلى شبرا، وكانت حديقة السفارة البريطانية بجاردن سيتى تصل إلى نهر النيل وتقطع مسار الطريق، أصر عبداللطيف البغدادى على اقتطاع جزء من حديقة السفارة ليتصل طريق الكورنيش دون عائق، فى السنوات الأخيرة رأينا من يردمون نهر النيل أمام مستشفى القوات المسلحة بالمعادى ليقيموا متنزها فى وسط النهر بلا معارضة من أحد بزعم أن القائم بذلك جهة سيادية!

شاطئ النيل فى القاهرة الذى كان مجالا عاما لكل المصريين يستمتعون به أصبح إقطاعيات مخصصة لنوادى النقابات والهيئات المختلفة فى الدولة يستمتع به المنتمون إليها دون غيرهم، أصبحنا نعيش فى دولة للطوائف، وبعد ذلك نغضب عندما يفترش سكان القاهرة أرصفة كباريها فى فصل الصيف ويحولها إلى متنزهات لهم ينتشر فيها الباعة الجائلون؟

أتذكر جيدا عندما تم إنشاء كوبرى الجامعة فى أواخر الخمسينيات من القرن الماضى، حرص من وضع تصميم الكوبرى على أن يكون هناك بأسفله من ناحية المنيل ممر للمشاة حتى لا ينقطع اتصال الحديقة العامة الممتدة من سينما الجزيرة وسط المنيل إلى فندق فونتانا (جراند حياة الآن) الذى كان تحت الإنشاء وقتها فى رأس الجزيرة الشمالى، كانت كل هذه المسافة متنزها مفتوحا للمواطنين، لم يتبق منه شيئا بعد أن اقتسمته نوادى الطوائف وبعض المنشآت الحكومية الأخرى.

كان بالقاهرة عشرات المتنزهات العامة التى جارت عليها عوادى الزمن، أو تحولت بعد إعادة إصلاحها وتجديدها إلى حدائق مسورة مغلقة فى وجه الناس. فقدت القاهرة رئتها على مر السنين وأصبحت من أكثر مدن العالم تلوثا بعوادم السيارات ودخان المصانع المحيطة بها. حتى الظهير الزراعى للمدينة اغتاله التوسع العمرانى وقامت على أنقاضه أحياء جديدة، وعندما تلوم النخبة من نسميهم سكان العشوائيات الذين يقطنون أحياء بلا مرافق معظمها مشيد فى جوار جبلى أو صحراوى للقاهرة، يتناسون أن نخبتنا أول من بنى العشوائيات فى القاهرة على مناطق زراعية لصيقة بالمدينة أبرزها حى المهندسين بالجيزة الذى التهم رقعة زراعية خصبة، وتم تشييده بعشوائية شديدة دون التزما بارتفاعات أو توفير أماكن لانتظار السيارات أو تخطيط متناسق للشوارع، إن مقارنة لما يحدث منذ أواخر الستينيات من عشوائية فى البناء والتخطيط بما حدث فى القرن التاسع عشر عند بناء ما نسميه بالقاهرة الخديوية يكشف عن قد التخبط والعشوائية الذى أصبحنا فيه.

كانت الأرصفة قابلة للسير عليها، الآن نحن أمام أرصفة محطمة أو مغطاة بالجرانيت الأملس ينزلق من يسير عليها، أرصفة مرتفعة لا يستطيع كبار السن أو المعاقون الصعود إليها، أو أرصفة يشغلها باعة، نغضب منهم ونلومهم ونلاحقهم دون أن نفكر ونخطط لحل حقيقى لمشاكلهم.

إنها بعض ملامح من مأساة المدينة المصرية التى لم تكن كذلك. فما الذى حدث؟ ومتى حدث ذلك؟

من المؤكد أننا لم نستيقظ ذات صباح لنكتشف أننا نعيش فى مدينة مختلفة ضاعت فيها حقوقنا، لكن الفساد تسلل تدريجيا وببطء رغم أجراس الخطر التى كانت تدق بين حين وحين، تضافرت عوامل الفساد مع الأزمة الاقتصادية مع غياب الرؤية والتخطيط مع الزيادة السكانية، مع غياب المحاسبة والرقابة الشعبية، مع عسكرة المجتمع وتولى غير المتخصصين شئون الإدارة المحلية، كل هذه العوامل اجتمعت وتسربت وتغلغلت إلى أن آل حالا إلى ما آل إليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.