يمثل العلامة أوريجانوس (185 254م) قمة الفكر الإنسانى فى تعاليم مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، تلك المدرسة التى أنارت العالم المسيحى كله حتى لقبت فى التاريخ بعقل العالم المسيحى. ويمثل العلامة أوريجينوس قمة النضج لهذه المدرسة، فهو عالم وفيلسوف متخصص فى فقه اللغات، حتى قال عنه البابا لاون الثالث عشر (1878 1903) بابا روما رقم 255: «من بين الشرقيين يحتل أوريجانوس المحل الأول وهو عجيب فى سرعة خاطره وجلده على العمل. ومن مؤلفاته العديدة أقتبس معظم الذين أتوا بعده». والعلامة أوريجانوس فيلسوف مصرى أصيل، ويظهر هذا واضحا من اسمه فكلمة أوريجانوس معناها ابن حورس، ولد بمدينة الإسكندرية عام 185م، اهتم به والده ليونيدس فرباه تربية مسيحية حقيقية، غير أن والده استشهد فى عصر الامبراطور سبتميوس سفيروس نحو عام 202م، وكان أوريجانوس مازال صبيا صغيرا لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وتروى كتب التاريخ أن أوريجانوس اشتهى أن يستشهد مع والده، حتى اضطرت أمه أن تخفى كل ملابسه حتى يلتزم البقاء فى المنزل، فأرسل إلى أبيه رسالة قال له فيها «احذر أن تغير قلبنا بسببنا» ثم التحق بعدها بمدرسة الإسكندرية اللاهوتية،
وبعد هروب مديرها السابق القديس كليمندس من الاضطهاد، عينه البابا ديمتريوس الكرام البابا مديرا للمدرسة، فقام بجهد كبير فى تطوير مناهج التعليم. ولقد حدثت بعد ذلك أحداث كثيرة نتج عنها مشادات بين البابا ديمتريوس والعلامة أوريجينوس، نتج عنها لجوء أوريجانوس إلى بلاد قيصرية، وهناك حثه أسقف قيصرية على إنشاء مدرسة لاهوتية، وأنشأ معها مكتبة كبرى، وتتلمذ فى هذه المدرسة العديد من علماء وآباء الكنيسة فى العالم كله حتى عرفت قيصرية بإسكندرية الجديدة، وفى الاضطهاد الذى شنه الامبراطور دقيوس (249 251) على الكنيسة ألقى القبض على أوريجانوس وعذبه عذابا شديدا، لكنه احتمل العذابات بشجاعة نادرة، ثم أفرج عنه بعد ذلك، لكنه ما لبث أن توفى بعدها بقليل ربما من تأثير العذابات التى عانى منها، وكان ذلك عام 254م، وكان له من العمر نحو 69 عاما تقريبا.
ومن كتاباته وأفكاره الإنسانية ما قاله عن أهمية ودور العقل فى حياة الإنسان المؤمن: «كما أن العين بطبيعتها تطلب النور والبصر، والجسد برغباته الطبيعية يطلب الطعام والشراب، هكذا العقل له رغبته الطبيعية أن يعرف حق الله، ويبحث فى علل الأشياء، هذه الرغبة التى هى من عند الله»، وكتب فى أهمية الثقافة فقال عنها: «الثقافة ليست شرا، بل بالحقيقة هى طريق الفضيلة، إنها لا تعوق معرفة الله، لذا يلزم توبيخ أولئك المسيحين الذين يجدون راحتهم فى جهلهم». وعلى خطى معلمه القديس كليمندس السكندرى، آمن أوريجانوس بأهمية المعرفة الإنسانية خصوصا الفلسفة، ففى رسالة بعث بها إلى أحد تلاميذه ينصحه فيها بالتعمق فى دراسة الفلسفة اليونانية قال له فيها: «أطلب إليك أن تنهل من الفلسفة اليونانية لأن مثل هذه الأمور بمقدورها أن تكون درسات تمهيدية للمسيحية. ومن الهندسة والفلك بعض المعلومات يمكن أن تكون نافعة لشرح الكتب المقدسة.
حتى أن ما يقوله أبناء الفلاسفة عن الهندسة والموسيقى وقواعد اللغة والبلاغة والفلك بأنها من أدوات الفلسفة وفى خدمتها، يمكننا نحن أن نقول نفس الشىء عن الفلسفة أنها فى خدمة المسيحية»، ولقد آمن أوريجانوس بأهمية الإرادة الحرة فقال عنها: «كل نفس عاقلة تمنح إرادة حرة وقوة للاختيار». وهو فى ذلك يطالب بالحرية الملتزمة المسئولة وليست المتسيبة فيقول عنها: «توجد حرية معيبة، وعبودية تستحق المديح، فإنه يمكننا أن نتحرر من... أو نستعبد للعدالة والحكمة والرحمة». كما حارب الكبر والغرور، فكتب محذرا منه: «لماذا يتكبر التراب والدمار؟ ولماذا يرتفع الإنسان بالكبر ناسيا من هو؟ وناسيا أن الوعاء الذى يحتويه والطين الذى غرق فيه سريع الفناء وأن الأقذار لا تنقطع عن جسده؟ فالغطرسة هى أعظم جميع الخطايا، إنها خطيئة إبليس العظمى، وعندما يصف الكتاب المقدس خطايا إبليس، يتبين لنا أنها تصدر جميعا من أصل الكبر، ومادة الكبر هى الثروة والمناصب، ومجد الزمان الحاضر». كما حارب الغضب فى كتاباته فقال عنه: «لا تندهش إذا اشتعل الغضب فى الأحمق والشرير والخائن من حيث إنه كثيرا ما يهيج حتى الأخيار والحكماء، فلنكف إذن عن الغضب، ولنترك السخط، لا ترض هواك إذا أثارك الغضب، بل أوقفه واحتقره، فلنشرع من الآن على الأقل فى إصلاح أنفسنا وفى أن نطفئ الغضب تدريجيا، وذلك بالصلاة والعفة والمثابرة على التأمل حتى نصل إلى أن نبتعد عن الغضب نهائيا». ولقد تعرض أوريجانوس فى كتاباته لقضية استخدام المسيحى للسيف، فقال: «إننا لا نعود نحمل السيف ضد أية دولة ولا نتعلم الحرب بعد، يجب أن نكون حذرين من أن نسحب السيف لأجل الانتقام عن أضرار خاصة أو تحت أى دعوى باطلة، لأن تعليم المسيح فى الأناجيل يعتبر كل هذه الاستخدامات دنسا وخطيئة، إن كان يجب علينا أن نكون أناس سلام تجاه أعداء السلام، فلا يليق بنا أبدا أن نستخدم السيف ضد أحد».