21 مواطنًا يحصلون على جنسيات أجنبية مع الاحتفاظ بالجنسية المصرية    محافظ البحيرة: انتظام فتح لجان الانتخابات بجولة الإعادة دون تأخير (فيديو)    الناخبون يتوافدون للتصويت بجولة الإعادة في 19 دائرة ب7 محافظات    وزير العمل يصدر قرارًا بشأن تنظيم مزاولة عمليات التدريب وتطوير مستوياته    إطلاق حملة "ستر ودفا وإطعام الطعام" بالمنوفية لمساعدة الأسر الأولى بالرعاية    مصر توقع إتفاقية لإنشاء محطة متعددة الأغراض ومركز لوجستي في جيبوتي    خفض الفائدة يشعل تحركات البنوك.. لجان «الألكو» تحسم اليوم مصير العائد على الشهادات والحسابات    وزير الري: القومي لبحوث المياه والقومي للبحوث يعدان من أعرق الصروح البحثية في الشرق الأوسط    مستوطنون إسرائيليون يعتدون على ممتلكات فلسطينيين بالضفة    إعلام عبري: أنباء عن اختراق قراصنة إيرانيين هاتف رئيس طاقم مكتب نتنياهو    العراق يتسلم 6 مروحيات "كاراكال" فرنسية لتعزيز الدفاع الجوي    وزيرة التضامن تطلق قافلة مساعدات إنسانية لدعم الأشقاء في السودان    أمم إفريقيا - إريك شيلي: كنا الأفضل أمام تونس لمدة 75 دقيقة فاستحقينا نقاط المباراة    موعد مباراة الزمالك وبلدية المحلة في كأس مصر والقناة الناقلة    8 أبطال بجنوب سيناء يصعدون للمشاركة في تصفيات أولمبياد المحافظات الحدودية بالوادي الجديد    إصابة 17 شخصا في حادث مروري على طريق الفيوم القاهرة    اليوم.. بدء امتحانات الفصل الدراسي الأول للمواد غير المضافة للمجموع الكلي    إنشاد ديني وكورال مصري، أنشطة متنوعة بمراكز إبداع صندوق التنمية الثقافية    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 فى المنيا    أول تعليق من حمو بيكا بعد انتهاء عقوبته في قضية حيازة سلاح أبيض    القبض على أحد أعضاء خلية سرايا الجواد في الساحل السوري    «الأرصاد» تحذر: استمرار تكاثر السحب الممطرة على هذه المناطق    كيف ينتج تنظيم الإخوان ازدواجيته.. ثم يخفيها وينكرها؟    الزمالك يخشى مفاجآت كأس مصر في اختبار أمام بلدية المحلة    موعد صرف مرتبات شهر يناير 2026 لجميع العاملين بالدولة بعد تبكيره    2025.. عام المشروعات الاستثنائية    حبس مها الصغير شهر بتهمة سرقة لوحات لفنانين أوروبيين وتغريمها 10 آلاف جنيه    اليوم.. جنازة المخرج داوود عبدالسيد من كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة    البطل الذى جعل من العلم سلاحًا    كاسات الزبادي بالفواكه والمكسرات والعسل، فطار خفيف أو سناك مشبع    المشدد 15 سنة لعامل خطف شخصا واحتجزه بسبب خلافات مالية بالإسكندرية    إصابة شخصان إثر تصادم ميكروباص مع توك توك بقنا    شريف الشربيني يشارك في اجتماع لجنة الإسكان بمجلس الشيوخ اليوم    وزارة الدفاع الروسية: إسقاط 25 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل    وزارة الصحة تكرم قيادات مديرية الشئون الصحية بأسيوط لتميزهم في عام 2025    عبد الفتاح عبد المنعم: الصحافة المصرية متضامنة بشكل كامل مع الشعب الفلسطينى    لافروف: القوات الأوروبية في أوكرانيا أهداف مشروعة للجيش الروسي    محمد معيط: العجز في الموازنة 1.5 تريليون جنيه.. وأنا مضطر علشان البلد تفضل ماشية استلف هذا المبلغ    الأقصر تستقبل العام الجديد بأضواء مبهرة.. ورفع درجة الاستعداد | صور    نيللي كريم وداليا مصطفى تسيطران على جوجل: شائعات ونجاحات تُشعل الجدل    فيديو جراف| تسعة أفلام صنعت «فيلسوف السينما».. وداعًا «داود عبد السيد»    «الداخلية» تكشف مفاجأة مدوية بشأن الادعاء باختطاف «أفريقي»    يوفنتوس يقترب خطوة من قمة الدوري الإيطالي بثنائية ضد بيزا    واتكينز بعدما سجل ثنائية في تشيلسي: لم ألعب بأفضل شكل    آسر ياسين ودينا الشربيني على موعد مع مفاجآت رمضان في "اتنين غيرنا"    «زاهي حواس» يحسم الجدل حول وجود «وادي الملوك الثاني»    لافروف: أوروبا تستعد بشكل علني للحرب مع روسيا    هل فرط جمال عبد الناصر في السودان؟.. عبد الحليم قنديل يُجيب    حادثان متتاليان بالجيزة والصحراوي.. مصرع شخص وإصابة 7 آخرين وتعطّل مؤقت للحركة المرورية    بعد القلب، اكتشاف مذهل لتأثير القهوة والشاي على الجهاز التنفسي    كيف يؤثر التمر على الهضم والسكر ؟    طه إسماعيل: هناك لاعبون انتهت صلاحيتهم فى الأهلى وعفا عليهم الزمن    المكسرات.. كنز غذائي لصحة أفضل    آية عبدالرحمن: كلية القرآن الكريم بطنطا محراب علم ونور    هل يجوز المسح على الخُفِّ خشية برد الشتاء؟ وما كيفية ذلك ومدته؟.. الإفتاء تجيب    الأهلي يفتتح مشواره في كأس مصر بمواجهة المصرية للاتصالات.. شاهد الآن    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : المطلوب " انابة " بحكم " المنتهى " !?    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بؤس المسار وبئس المصير
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 10 - 2011

فى 25 أغسطس الماضى نشرت هذا المقال تحت عنوان «ودموع الجرذان دم»، وها هى صور القذافى عند نهايته الفاجعة، يظهر ووجهه ملطخ بالدم. فأعيد نشر المقال دون أن أزيد عليه غير فقرة فى النهاية، لأربط بين مرارة التنبؤ، وقسوة المآل، والأسى على الفطرة البشرية التى شوهها هؤلاء الطغاة شائهى الفطرة، حتى أننا بتنا لا نشفق على نهاياتهم الذليلة ولا على دمهم المسفوح، بل نمتعض!

منذ ثلاثمائة وسبعة عشر عاما بدأ الكشف عن سر الدموع الحمراء، ففى عام 1694 كان عالم التشريح السويسرى «جوهان جاكوب هاردير» يدقق فى فحص محاجر عيون بعض الأيائل التى يجرى عليها أبحاثه، وعثر على غدة خلف العين فى مؤخر المحجر تفرز سائلا دهنيا يتحول إلى قشور حمراء داكنة عندما يجف، فنشر ورقة بحثية عنوانها «غدة دمعية جديدة فى عيون الأيائل السمراء والحمراء»، ومن ثم حملت الغدة فى المراجع الطبية إلى يومنا اسمه: «غدة هاردير»، لأنه كان أول من اكتشف وجودها، وصنفها كغدة دمعية، ومن بعده توالى اكتشاف دقائق أسرار هذه الغدة فى عيون الطيور والزواحف والقوارض وكثير من الثدييات، وهى متميزة وذات دور بارز فى عيون ذات الحوافر والقوارض، خاصة الجرذان، بينما اندثرت فى عيون البشر.

لقد ثبت من الأبحاث العلمية على هذه الغدة عبر القرون الثلاثة التى مرت منذ اكتشافها، أن بها مستقبلات حساسة للضوء تنظم عمل الغدة الصنوبرية التى تفرز هرمون الميلاتونين المنظم للإيقاع الحيوى، وتحديدا تناوب الصحو والنوم، فإفرازه يزيد فى الظلام ويقل مع الضوء، كما أنه ينظم دورات التكاثر الموسمية فى الحيوانات، وله تأثير ملحوظ كمادة مضادة للأكسدة وحافظة لحيوية الخلايا. أما إفراز غدة «هاردير» التى تغمر كرة العين، فهى إضافة لدورها فى ترطيب العين والمساعدة على تيسير حركتها داخل محاجرها، تسهِّل انزلاق الغشاء الرامش على عيون الحيوانات التى بلا أجفان متحركة، وتُعتبر سائلا واقيا من شدة الضوء فى كائنات ليلية مثل الجرذان، وتقوم بدور منظم للحرارة، وتشكل أحد مصادر الفيرمونات أو الروائح الجاذبة والمعتبرة كلغة لدى الحيوانات. أما اللون الأحمر فى إفراز هذه الغدة والتى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما فهى حكاية خاصة، تتفاقم فى ظروف خاصة، وتحمل فى طياتها دلالات خاصة، تبدَّت لى وأنا أتابع وقائع تحرير طرابلس واقتحام قلعة باب العزيزية واختفاء القذافى وعياله وكتائب إجرامه أمام بسالة الثوار!

إفرازات غدة هاردير التى تجعل عيون الجرذان تبدو كما لو كانت تبكى دما، يعود لونها الأحمر إلى وجود مادة «البورفيرين» فيها، وهى مادة عضوية تشكل جوهر تكوين هيموجلوبين الدم الذى هو «فيرو بورفيرين»، أى بورفيرين يحتوى فى قلبه الجزيئى على أيون الحديد. فليس تصور عيون الجرذان عندما يغزر فيها هذا الإفراز ببعيد عن الإحساس بأنها تبكى دما، خاصة عندما نعرف الظروف التى يغزر فيها إفراز هذه الغدة لهذا السائل الذى لا تستطيع قناة بين تجويف العين والأنف تصريف فيضانه، فيتكاثف الفائض حول العين كدم أحمر قاتم، وتقوم الفئران بمحاولة مسحه بقوادمها فتتلطخ وجوهها وفراؤها بالبقع الحمراء وتصطبغ باللون القانى مخالبها!

هذه الدموع شبه الدامية فى عيون الجرذان تفيض وتصير واضحة جدا ولافتة فى ظروف الشدة، ومنها: الحرمان من النوم، ومعاناة الجوع والعطش والآلام، وكذلك الخوف!. فهل نتصور القذافى وعياله السفلة خارج هذه الدائرة من الشدائد والتعاسة والبؤس، وهم يهربون عبر الأنفاق تحت أرض قلعة باب العزيزية إلى المجهول؟ رعبا من فتك الشعب المجروح والمقروح بهم، وخوفا من قفص محكمة الجنايات الدولية الذى ينتظرهم لقاء جرائمهم ضد الإنسانية المتمثلة فيما ارتكبوه ضد شعبهم من مذابح. هذه المحكمة التى عندما سُئل عنها قبيح الخلقة والخُلق «زيف القذافى» فى الشريط المدسوس قبل سقوط قلعة أهله، أشاح متبجحا يقول: «طظ فى المحكمة الدولية»!

لقد سمَّى القذافى المنتفضين على نظامه بعد اثنين وأربعين عاما من القهر وشطحات الجنون وتبديد ثروة الأمة والعربدة على حساب الحاضر وأجيال المستقبل وتكميم الأفواه وإذلال النفوس: «جرذان.. جرذان»، وها هى إرادة الله وحكمة التاريخ تجعل مصير القذافى وأولاده المتوحشين والمتعجرفين والكذابين مثل أبيهم، يصيرون بالفعل فى موقع الجرذان، يمضون تحت وطأة شدة ساحقة، مطأطئين داخل أنفاق مظلمة أو معتمة إلى حيث لا يقين لهم ولا أمان يركنون إليه أو نجاة يثقون فيها. كائنات بشرية مخضبة الأيادى بدم الأحرار والأبرياء وملوثة بما سرقت وما نهبت مما لا يحق لها ولا يجوز. يتسللون فى متاهات العتمة كما جرذان بشرية، تبكى عيونهم ندامة بلون الدم حتى وإن كانت لا تدمع.

لقد كان جنون العظمة وهو ينفخ الطاغية بالهواء الفاسد والهباء، يبديه لنفسه وفى عينى مرآته ومنافقيه فخما وضخما، ملك ملوك قبائل قارة الإنسان الأول، وقائد عالمى، بينما الحقيقة التى كشف عنها سقوط قلعة باب العزيزية وهروبه المشين، أنه مجرد جرذ بشرى أخضعه رعب المصير لأن يستسلم لحقيقة ضآلته فى نهاية المطاف، بينما كان من اتهمهم بأنهم جرذان، ينظفون بنايات القلعة وحدائقها بأسلحتهم المتواضعة وبسالتهم الهائلة، فتنكمش مدرعات كتائبه وتختبئ الصواريخ وتزول ألوان صوره المزركشة وكتبه الخضراء البلهاء، وعلى غراره مضى أولاده الذين كانوا يدركون وضاعة حقائقهم فيتحايلون عليها بالانتفاخ مثل أبيهم، لكن ليس فى أزياء ملك الملوك وديك الديوك وطاووس الطواويس، بل فى التسلى باقتناء النمور والأسود!

شىء عجيب ويدعو للتساؤل والبحث فى علم النفس المرضى: لماذا هذه الهواية بالذات فى اقتناء وترويض الوحوش لدى أبناء الأباطرة والطغاة؟ عدى صدام حسين كان مولعا أيضا بتربية الأسود! وكأنهم كانوا لا شعوريا يقومون بحيل نفسية تزيح عنهم الشعور بحقيقة الوضاعة وعتامة الفراغ والافتقار إلى أية جدارة حقيقية فى أنفسهم، فيوهمون أنفسهم بالقدرة على إخضاع الوحوش. لكنهم لم يكونوا حتى فى هذه يجرءون على التمشى مع نمر مربوط أو أسد مكبل، بل يقفون عند حدود المنظرة بتلعيب الأشبال والجراء تحت عيون آلات التصوير! غيرهم من أبناء الطغاة كان يعوض شعوره بالنقص والخلو من كل موهبة وأى جدارة، بتقمص ملامح الخيلاء والتمنظُر بصولجان النفوذ والتطاول بأرقام الفلوس! فمن الجرذ اليوم؟

من الجرذ والجرذان؟ الجرذان هى أدنأ الثدييات طباعا وسيرة، ناقلة براغيث الطاعون وقمل التيفوس عبر أوبئة التاريخ، وسارقة ثلث ما تنتجه البشرية فى البلدان الفقيرة من طعام، والتى تأكل لا لتتغذى وتشبع بل لتُقلِّم أسنانها الأمامية حتى لا تواصل النمو وتطول طولا مفرطا فتعجز عن إغلاق أفواهها وتموت بأفواه مفتوحة. كائنات بشعة فى مملكة الحيوان قاطبة، تأكل صغارها إن جاعت، وتفترس إخوتها وأبناء نوعها إن عنَّ لها ذلك. كائنات وسخة فى عرف البشرية دون منازع، لهذا أوَّلت البشرية دموعها الضاربة إلى الحمرة بأنها بكاء بالدم. فما بال البشر الذين قادهم نهمهم وغرورهم وعبادتهم للسلطة والتسلط ونسيان الحق والعدل وكرامات الناس، إلى مصير البشر الجرذان؟

ثلاثمائة وسبعة عشر عاما مضت منذ كشف عالم التشريح السويسرى هاردير عن تلك الغدة فى محاجر عيون الأيائل التى تفرز ما يشبه دمعا دمويا تفيض به العيون خاصة عيون الجرذان، وخمسة شهور مرت منذ أطلق القذافى وصف الجرذان على أحرار شعبه عندما انتفضوا يرفضون قهر نظامه، واثنان وأربعون عاما من حكمه المتسلط والمستهبل والمستهتر واللئيم والكاذب والفاسد انصرمت بعد الجثوم الطويل الثقيل على صدر هذا البلد الطيب أهله. وهاهى الأنفاق تحت أرض باب العزيزية تُظهِر من الجرذ اليوم؟ ومن تبكى عيونه، بدلا من الدموع دما من الندامة والمهانة وخسران الغرور وسفاهة الطمع؟

فمن الجُرذ اليوم؟

ومن الجرذ فى النهاية؟

وقد شاءت عدالة القسمة أن القذافى الهارب من باب العزيزية إلى «سرت» التى اتخذ من أهلها دروعا بشرية ومن بيوتها حصونا لعصابته، تكون نهايته على يد ثوار أخرجوه من مخبئه النهائى فى نفق من أنفاق صرف المجارير. وتكون آخر صوره حيا قبل أن يلفظ أنفاسه، تظهره مفتوح الفم مذعورا، بينما الدماء تغرق وجهه وتفيض عبر عينه، وكأنه يبكى دما، فلا يستثير شفقة معظمنا، بل يستدرجنا إلى وحشية الثأر، فيؤذينا مرتين، مرة ببشاعة مساره، ومرة بشناعة المصير!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.