بناء على سياسة التحديث التى انتهجها الخديو إسماعيل، تأسس مجلس شورى النواب وفقا للائحة عام 1866، وقد عدت بمثابة شبه دستور ضم اختصاص المجلس وشروط العضوية وغيرهما من الإجراءات، ثم ما لبث أن وضعت لائحة أخرى عام 1879 لتنظيم الحياة النيابية، ولكن رفضها الخديو توفيق، وفى أعقاب وقفة عابدين (9 سبتمبر1881) أعيدت لائحة عام 1866، وبمقتضاها تشكل مجلس النواب الذى عرضت عليه لائحة جديدة ضمت الكثير من القواعد الرئيسية للنظم الدستورية الحديثة، وأقرتها نظارة (وزارة) البارودى، ومن ثم صدرت لائحة عام 1882 التى أثارت بريطانيا وفرنسا، وتلاحقت أحداث الثورة العرابية، ووقعت مصر تحت الاحتلال الإنجليزى الذى رأى أن يقتصر الأمر على شكل نيابى باهت تمثل فى وجود مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وفى عام 1913 حلت مكانهما الجمعية التشريعية التى لم تمارس أعمالها إلا خمسة أشهر، حيث قامت الحرب العالمية الأولى عام1914 وأعلنت بريطانيا حمايتها على مصر.
ومع قيام ثورة 1919 والأحداث التى تمخضت عنها، ارتكزت المطالب الوطنية على الاستقلال التام والدستور، وصدر تصريح 28 فبراير 1922 الذى كان من نتائجه إعطاء إشارة الضوء الأخضر بشأن الموافقة الإنجليزية على وضع الدستور،إذ أيدت لندن هذا الاتجاه لأن وجود حكومة منتخبة يساعدها على الوصول إلى تفهم مثمر مع مصر.
وعلى الفور اهتم السلطان فؤاد بالأمر، وكلف عبدالخالق ثروت بتشكيل الوزارة فى أول مارس 1922 لتتولى القيام بهذه المهمة، وجاء رده بأنه سيتم إعداد مشروع الدستور وفقا لمبادئ القانون العام الحديث الذى يقرر مبدأ المسئولية الوزارية، وبذلك يكون للهيئة النيابية حق الإشراف على العمل السياسى. وبعد أسبوعين تأسست الملكية فى مصر وبالتالى ازداد فؤاد زهوا وسطوة وحبا فى الأوتقرطية. وأصبح الإعداد لمشروع الدستور وقانون الانتخاب حديث المصريين، ورأت بعض الأحزاب الإعداد لجمعية يتم اختيار أعضائها بالانتخاب، وليس عن طريق لجنة معينة، ولكن رئيس الوزراء لم يضع ذلك فى الاعتبار، وصدر قرار مجلس الوزراء فى 3 أبريل 1922 بتشكيل لجنة عرفت باسم( لجنة الثلاثين) وسميت أحيانا ب (لجنة الدستور) ووكلت إليها المهمة، وعين لها حسين رشدى رئيسا وهو من جهابذة القانون الدستورى، وأحمد حشمت وكيلا وهو من خيرة القانونيين، وجمعت بين وزراء سابقين، ورجال قانون وكان من أبرزهم عبدالعزيز فهمى، وأعضاء من الجمعية التشريعية، ورجال دين وغيرهم. وكان عبدالخالق ثروت قد أيقن أن هناك قيودا تفرض نفسها على أن يكون تشكيل هذه اللجنة باختيار المصريين، منها قطبا السلطة فى مصر: الإنجليز وتحفظات تصريح 28 فبراير، والملك الجديد، وكلاهما من الممكن أن يكون عقبة إذا مست مصالحهما، بالإضافة إلى من يشايعهما من كبار ملاك الأراضى. وبدأت اللجنة أعمالها فى 10 أبريل 1922، ورفعت مشروعها إلى عبدالخالق ثروت فى 21 أكتوبر من العام نفسه، ووضعت إبان هذه الفترة تحت المنظار من المعارضة بصفة عامة والصحافة بصفة خاصة. وتعددت الآراء داخل اللجنة وفقا لاتجاهات أصحابها، فهناك الاتجاه الذى آمن بأن الملك يملك ولا يحكم وأن الأمة مصدر السلطات، وهناك الاتجاه المضاد الذى يرى أن الاغداق على السلطة الملكية يقى مصر من التطرف وبالذات بعد الخلاف بين سعد زغلول وعدلى يكن، وهناك الاتجاه الأوسط الذى وفق بين الاتجاهين السابقين. وقد تمكن رئيس اللجنة من التوفيق وغلب الاتجاه الأخير، حيث حاول إرضاء النزعة الملكية المستبدة والتسليم ببعض الحقوق لها حتى لا يعارض فؤاد المشروع وبالتالى يتوارى بعيدا، وفى الوقت نفسه ركز على أن تكون الأمة مصدر السلطات، ووجد التأييد من عبدالخالق ثروت. وللعمل على تقوية هذا الاتجاه كان التفكير فى تأسيس حزب الأحرار الدستوريين.
وأرسل مشروع الدستور إلى اللجنة الاستشارية التشريعية بالحكومة لوضعه فى الصيغة القانونية، ولكن سرعان ما وقع الخلاف بين الملك ورئيس وزرائه، إذ رأى الأول أن ما جاء به الدستور هو سيف مسلَّط على رقبته، أيضا حدث تدخل إنجليزى، فاعترضت لندن على المادتين الخاصتين بالسودان، إحداهما تختص بلقب ملك مصر والسودان، والأخرى بشأن أن يتقرر فى السودان نظام حكم بقانون خاص، حيث اعتبرت بريطانيا أنهما تتعارضان مع تحفظ السودان الذى جاء فى تصريح 28 فبراير. وعلى صعيد آخر، فقد وجهت المعارضة النقد للمشروع وهاجمت عبدالخالق ثروت، وهنا التقط فؤاد الخيط، وانتهى الأمر باستقالة الوزارة، تلك التى أسندت إلى توفيق نسيم فى 30 نوفمبر 1922، فأقدمت على تعديل المشروع بما يخدم سلطة الملك من ناحية، ويحقق الرغبة من ناحية أخرى، مما كانت له الانعكاسات المتأججة على المعارضة والصحافة. ولم تعمر الوزارة أكثر من سبعين يوما، وكلَّف الملك يحيى إبراهيم بتشكيل الوزارة فى 15 مارس 1922 وسط مناخ مفعم بالتوتر، إذ اشتدت لهجة الاحتجاجات، وبعد أن كانت تندد بمشروع الدستور حين وُضع، أصبحت تندد بما أدخله توفيق نسيم، وتطالب بعودة المشروع إلى ما كان عليه. وأمام هذه الظروف، وبعد تدخل بعض القانونيين لخدمة الموقف للصالح الملكى، صدق فؤاد على الدستور، وصدر بمرسوم فى 19 أبريل 1923، واعتبر منحة ملكية.
وعلى الرغم من أن الدستور نص على أن الأمة مصدر السلطات، فإن نقاط الضعف التصقت به، فقد حد من بعض الحريات مثل حرية الصحافة وحرية الاجتماعات، متعللا بأن ذلك يحمى النظام الاجتماعى، كما دس سلطة الملك فى السلطتين التشريعية والتنفيذية، وأعطاه الحق فى حل مجلس النواب، ومنح الرتب العسكرية والمدنية، وتعيين وطرد الضباط، وتعيين خمسى أعضاء مجلس الشيوخ ورئيسه، والتسلط على المؤسسات الدينية.
واستتبع صدور الدستور قانون الانتخاب فى 30 أبريل 1923، ووفقا له أجريت انتخابات نزيهة أتت بحزب الوفد إلى الحكم، حيث شكل سعد زغلول الوزارة البرلمانية الأولى فى 28 يناير 1924، ومالبث أن افتتح البرلمان فى 15 مارس. أيضا كانت للدستور نتائجه على الحياة الدستورية فى عهدى فؤاد وفاروق فيما عرف باسم الانقلابات الدستورية، وفى الصراع بين الوفد والقصر. وعلى أية حال فإن دستور 1923 قد وضع الأساس للحقبة ذات الملامح الليبرالية فى مصر، وامتد تأثيره على المجتمع حتى أعلن عن سقوطه عقب 23 يوليو 1952.