كان محمد سعيد باشا الذي تولي رئاسة الوزراء في مصر عدة مرات منذ عام 1910 إلي عام 1919 شديد الذكاء خاصة في إشعال الدسائس والفتن.. ففي عام 1922 بعد إعلان إلغاء الحماية علي مصر بموجب تصريح 28 فبراير أسند الملك فؤاد رئاسة الوزارة إلي عبدالخالق باشا ثروت.. لكي يقوم بإعداد الدستور وإصدار قانون الانتخاب.. وبعد أن تم تشكيل اللجنة أطلق سعد باشا زغلول عليها "لجنة الاشقياء"!! كان ثروت باشا وغيره من الساسة يضعون أيديهم علي قلوبهم خشية أن تمتد الأيدي لتعبث بمواد الدستور فيصبح قصاصة من الورق. وبالفعل قبل أن تنتهي اللجنة من عملها راح محمد سعيد باشا يثير المؤامرات ضد الوزارة لأنه لم يعجبه بعض مواد الدستور التي استطاع أن يعرفها قبل إصداره وبالتالي كرَّس كل جهده للإطاحة بوزارة ثروت باشا وبدأ في إعداد وترتيب مجموعة من الدسائس لخصها الكاتب الكبير المرحوم محمد نجيب الذي عاصر بعض أحداث فترة إعداد دستور 23 في كتابه "شخصيات وذكريات في السياسة المصرية".. حيث ذكر أن سعيد باشا بالاتفاق مع رئيس الديوان توفيق نسيم باشا وحسن باشا نشأت مدير الإدارة العربية بالقصر قد أعدوا أربع دسائس ضد ثروت باشا لدي الملك.. كان أولها أنهم نقلوا إلي الملك أن ثروت باشا يردد في مجالسه مفاخراً بأنه صاحب الفضل علي الملك فهو الذي صنعه "ملكاً". كذلك قالوا أن رئاسة مجلس الوزراء تبعث برسائلها إلي ديوان الملك في بهجة الأمر وليس الاستعطاف. أما الدسيسة الثالثة: هي أن الوزارة في سبيلها إلي رفض مطلب الملك الخاص باعتماد مبلغ كبير لانشاء رصيف في قصر المنتزه.. علاوة علي ذلك أخبروا الملك بأن حسن صبري باشا وكان من كبار المحامين "أصبح رئيساً للوزراء فيما بعد" قد قابل الخديو عباس حلمي في سويسرا ودار بينهما حديث امتدح فيه الخديو ثروت باشا ووصفه بأنه من رجاله المخلصين الذي يُعتمد عليهم.. وكان الملك فؤاد يكره الخديو عباس "كرهاً ما بعد كره" وتؤرق مضجعه سيرته أو الحديث عنه.. وقد أثارت هذه الدسائس أزمات متوالية بين الملك وعبدالخالق ثروت.. انتهت باستقالة الوزارة رغم أن لجنة الدستور كانت قد انتهت من إعداد أفضل الدساتير إلا أن الملك أرجأ وسوف في إصدار مرسومه. المهم أن الملك قبل الاستقالة فور تقديمها وأرسل حسن نشأت إلي دار ثروت باشا ليسلمه كتاب قبولها بعد ساعتين فقط من تقديمها.. ولم يقم الملك بالرجوع إلي المندوب البريطاني كالمتبع لكي ينظر في أمر الاستقالة ويمهد إلي توفيق نسيم باشا بتشكيل الوزارة الجديدة. الطريف في الأمر أن الملك ظل يرجئ إصدار المرسوم الجاف بالدستور إلي أن فوجئ باللورد الليبني يرسل له إنذاراً يطلب فيه حذف مادة "ملك مصر والسودان" ومادة "نظام الحكم في السودان ينظمه قانون يصدر فيما بعد". اهتز عرش فؤاد خوفا وطلب من نسيم باشا ضرورة الموافقة علي الانذار قائلاً: "إذا استقال أي من الوزراء فإنه سيذهب إلي بريطانيا ويقيم فيها أما أنا فسيخلعني الانجليز من العرش ولا أعرف إلي أين سيذهبون بي علي بارجتهم الراسية في ميناء الإسكندرية!! وإزاء ذلك فقد وقع رئيس الوزراء والوزراء بالموافقة علي طلبات الانجليز وكان كل وزير يدعي أنه آخر من وقع بالموافقة!! أي لا يوجد أول من وقع؟؟ ثم استقالت الوزارة ولعنات الجماهير تنهال عليها لأنها وافقت علي طلبات الانجليز. ولم يصدر الدستور إلا في ظل وزارة يحيي باشا إبراهيم في مارس .1923 وهكذا يتشابه سيناريو الأحداث بين 1922 وثورة 25 يناير وكأن الوقائع تأخذ خطاً واحداً.. حيث تكررت محاولات إقالة الوزارة في ظل ثورة 25 يناير.. حيث نجحت المحاولة الثانية وتم خلع ثاني وزارة للثورة.. وتكررت المحاولة مرة أخري في ظل الوزارة الحالية حيث نادي مجلس الشعب بضرورة سحب الثقة من الوزارة.. فقد كان حزب الأغلبية في المجلس يريد تشكيل وزارة من المنتمين إلي هذا الحزب! أما الدستور.. فيبدو أنه بعبع الأجهزة الحاكمة فقد خاف رئيس الوزراء محمد سعيد من بعض مواده فآثر أن يتآمر علي وزارة الدستور وتسبب في خلعها! خاف الملك فؤاد ورفض الانجليز.. إلا بعد إجراء حذف مادتين منه. وفي ظل ثورة 25 يناير أراد حزب الأغلبية في مجلسي البرلمان أن يشكل لجنة إعداد الدستور من أعضاء البرلمان لكي يضعوا دستوراً "مفصلاً" كما يريدون. ولكن الخبراء والقضاة قرروا أن الدساتير هي صناعة كل الطوائف ولا يجوز أن تختص به جهة واحدة!