انتهى عام 1954 وجميع الأحزاب السياسية الرسمية قد طالها قرار الحل ومصادرة الأموال وعزل قادتها البارزين سياسيا وسجن بعضهم، كما تعرض أعضاء التنظيمات الشيوعية للملاحقة والاعتقال وصدرت ضد بعض قادتهم أحكام بالسجن من المحاكم العسكرية، فضلا عن حل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال المئات من أعضائها وإعدام عدد من رجالها بأحكام صدرت من محكمة استثنائية عسكرية سميت محكمة الشعب. انتهى عام 1954 ونقابات الرأى التى تدافع عن الديمقراطية والحريات نقابة الصحفيين ونقابة المحامين مجالسها منحلة وقوانينها معطلة، وعدد من أعضائها البارزين ملاحقين بالمحاكمات الاستثنائية وقرارات العزل.
انتهى عام 1954 ونظام يوليو قد أحكم قبضته على الجامعات طلابا وأساتذة، بعد أن طالت قرارات التطهير عددا من أساتذة الجامعات وعددا من المعيدين المعروفين بمواقفهم المؤيدة للديمقراطية كان بعضهم من المنتمين للأحزاب القديمة وبعضهم من الإخوان والشيوعيين، وقد عاد بعضهم إلى الجامعة بعد قرابة العشرين عاما، كما تمت محاصرة النشاط الطلابى والسيطرة عليه تماما لتعيش الجامعات المصرية التى ظلت لسنوات طويلة مركزا للنضال الوطنى والديمقراطى فترة من الموات السياسى.
حتى القضاء لم يسلم من الضربات فقد تم التعدى بالضرب على رئيس مجلس الدولة اثناء أزمة مارس 54 فى رسالة واضحة إلى قضاة مصر.
لكن كيف فشلت القوى الديمقراطية فى معركتها؟
المشكلة بدأت قبل أزمة مارس، بل أن جذورها ترجع إلى ما قبل انقلاب 23 يوليو 52، فقد انقسمت القوى الديمقراطية منذ اللحظة الأولى، ورأى الخصوم التاريخيون لحزب الوفد أن الانقلاب العسكرى فرصة تاريخية للتخلص من الوفد ومن زعامته الشعبية، الوفد الذى لم يخسر أى انتخابات نزيهة أجريت منذ دستور 1923 حتى مطلع الخمسينيات، ورغم الانشقاقات والضربات التى تعرض لها الوفد طوال تاريخه، إلا أنه ظل القوة الأكبر على الساحة السياسية، بل أن الأزمات الكبرى التى تعرض لها الوفد مثل حادثة 4 فبراير 1942 والكتاب الاسود الذى اتهم فيه مكرم عبيد قيادة الوفد بالفساد لم تفقد الوفد الكثير من شعبيته، فقد عاد إلى الحكم بأغلبية برلمانية فى انتخابات 1950 وازدادت شعبيته بعد أن ألغى الزعيم مصطفى النحاس معاهدة 1936 مع انجلترا وساندت حكومته الكفاح المسلح ضد الوجود البريطانى فى القناة، إذن ظل الوفد صاحب النفوذ الأكبر فى الساحة السياسية المصرية.
من هنا كانت مواقف خصوم الوفد مساندة بدرجات مختلفة لخطوات اتخذها مجلس قيادة الثورة منذ 52 حتى 54، وهى خطوات مكنت لانتصار الجناح المعادى لعودة الحياة الديمقراطية، ومعظم هؤلاء الخصوم كان يفترض أنهم ينتمون الى المعسكر الديمقراطى، إلا أنهم غلبوا المنافسة الحزبية الضيقة على الدفاع عن المبادئ الديمقراطية، وتصوروا أن اللحظة التى سعوا من أجلها طوال سنوات الحقبة الليبرالية فى إبعاد الوفد عن الصدارة قد حانت.
من خصوم الوفد السياسيين كان الحزب الوطنى، هذا الحزب العريق الذى أسسه مصطفى كامل سنة 1907 وتصدى لقيادة الحركة الوطنية حتى قيام الحرب العالمية الأولى، وقد تحول فى مرحلة ما بعد ثورة 1919 إلى حزب صغير قليل التأثير فى المعادلة السياسية، وأصبح الحزب الوطنى فى أغلب الأحيان حزبا مناوئا للوفد، فرأى هذا الحزب والمنتمون إلى مدرسته من الساسة المصريين أن انقلاب يوليو يمكن أن يخلصهم من الوفد فأسرعوا بتقديم المشورة القانونية لمجلس قيادة الثورة للتخلص من البرلمان الوفدى المنتخب والذى كان معطلا منذ حريق القاهرة فى 26 يناير 1952 وإلغاء الدستور دون أن يحل محله دستور جديد، وهى خطوات شجعت الضباط الأحرار على المضى قدما فى طريق تصفية أسس الحياة الديمقراطية، وما كان لها أن تتحقق لولا مساندة هؤلاء والصياغة القانونية التى قدمها عدد من كبار القانونيين من أمثال السنهورى باشا وسليمان حافظ، بالاضافة إلى مساندة على ماهر الذى ظل طوال العصر الملكى يلعب دور رجل السياسة المستقل الجاهز للظهور على المسرح فى أوقات الأزمات وهو الدور الذى لعبه مع الضباط الأحرار فى الأسابيع الأولى التى أعقبت الانقلاب.
ما يجمع كل هؤلاء ممن يعتبرون أبناء للمرحلة الليبرالية خصومتهم مع الوفد وعداؤهم له.
أما القوة الثانية المعادية للوفد والتى لعبت دورا مهما فى هزيمة الديمقراطية فكانت جماعة الاخوان المسلمين، والتى تعاملت منذ البداية أن حركة الضباط الأحرار حركتهم، وسعت الى بسط نفوذها على قراراتها ومن ثم لم تعارض الخطوات الاولى لتصفية الديمقراطية التى بدأت منذ أواخر عام 52 لكن عندما بدأت الإجراءات تطال الجماعة فى يناير 1954 تغير الموقف، لكن الجماعة سرعان ما عادت إلى موقف التغاضى عن تصفية الديمقراطية فى نهاية مارس 54 فى إطار الصفقة التى عقدوها مع جمال عبدالناصر، عندما لوح لهم بحريتهم فى التحرك مقابل الصمت عن التراجع عن قرارات 5 و25 مارس الديمقراطية.
ومن سخريات القدر أن القوى التى ساندت الاستبداد كانت أكثر من اكتوى بناره، سواء فقهاء القانون الذين قدموا السند التشريعى لهدم أسس الديمقراطية، أو جماعة الإخوان التى صمتت فى اللحظة الحاسمة.
الأمر الآخر الذى أدى إلى فشل القوى الديمقراطية فى معركتها تفرقها والعمل بمبدأ السكوت عن أى إجراء معادٍ للديمقراطية ما دام لا يمسسنى مباشرة.
هكذا نجح خصوم الديمقراطية بعد عامين ونصف العام من قيام انقلاب 23 يوليو فى توطيد سلطتهم والتخلص من كل القوى الديمقراطية.