بعد مولدى بفترة وجيزة، نقلنا والدى من بريطانيا إلى بلده الأصلى جنوب أفريقيا، ليعمل مديرا لمدرسة الطب للطلاب السود بجامعة ويتواترساند. وكان السود مضطرين للعيش فى عزلة عن البيض، وهو من الأسباب الرئيسية التى دفعت والدى لمغادرة جوهانسبرج. وقد حدثت بعض المشكلات. وقال للطلاب إنه يترك لهم المسئولية عن شئونهم. وقد ساعد ذلك على تسوية الأمور داخل الحرم. وفى الخارج، كان الأمر مختلفا. وأمضى والدى جانبا كبيرا من وقته فى الذهاب إلى مراكز الشرطة، من أجل طلب الإفراج عن طلاب سود احتجزهم رجال شرطة بيض أغبياء. وذات مرة تصادف أنه استمع إلى شرطى يستهزئ بفتاة سوداء كانت بسبيلها لأن تحصل على شهادة الطب قائلا: «تعتقدين أنك طالبة متفوقة، لكنك مجرد كافرة» (هذه الإهانة الآن تستوجب إقامة دعوى قضائية). وتنبع العنصرية من الغباء. ويحفل العالم بالكثير من الأغبياء. وقد استمرت سياسة الفصل العنصرى نصف القرن تقريبا، وهى نظام يقوم على أن السود لا يصلحون إلا للعمل فى قطع الأخشاب وجلب المياه. وكان لهذه السياسة ما يقابلها لدى الأمريكيين: فقد ظلت قوانين جيم كراو جزءا من قوانين البلاد لمدة قرن كامل. كان ذلك فى السنة الأولى من حياتى. ثم عاد والدى مع الأسرة إلى انجلترا. وكنا نعود بانتظام إلى جنوب أفريقيا. وأتذكر أشجار الجاكارنادا الممتدة على مساحات شاسعة، وأشجار الخوخ الأصفر. وكان الجمال وفيرا للغاية. لكننى استشعرت العنصرية التى تتخفى وراء هذا الجمال، كطعنة، كأول دليل على وجود ميكروب خطير فى الدم. وهى أمور تشكل شخصية المرء. حيث يميل اليهود فى جنوب أفريقيا إلى اعتبار السود منطقة عازلة واسعة تحول دون اضطهادهم، حتى وهم متورطون أكثر من أى وقت سابق فى محاولة تحطيم النظام. وهو تفكير غريب، ولكن من ينشغل باضطهاد عشرات الملايين من السود فلن يكون لديه وقت لعشرات الآلاف من اليهود. ولكن هذه الفكرة لم ترد على ذهن اليهود الذين كانت أسرهم (كثير منها من أصل ليتوانى) قد فرت من المذابح الأوروبية، ومن ثم تجنبت الخنادق التى كان من الممكن أن ترسلها إليها فرق القتل التابعة لهتلر. وباعتبارى يهوديا من جنوب أفريقيا، لم أكن أرتاح لرؤية السود يحشرون فى خلفية حافلات الشرطة. لكن ذلك لم يكن قتلا جماعيا على أى حال. فكنت أشيح بوجهى بعيدا. فالعنصرية لعبة ذهنية، تجعل ضحاياها ممتنين للفتات الشفقة الصغيرة حتى يحين الوقت لاندلاع الغضب الذى لا يمكن احتواؤه. وتلقيت دراستى الأولية وسط سموم العنصرية. وكانت أسرة والدتى «عائلة ميتشل» متفرقة فى أماكن عدة ويطلق عليها بطريقة تشبه المزاح قصر ميتشل. وكانت المعيشة فى بحبوحة من حمام السباحة إلى حفلات الشواء، مع ما يكمن تحت ذلك من قلق. وقد شعرت كطفل بالعداء بين ذراعى خادمة سوداء تتعامل كما لو كانت تريد أن تلقى بى أرضا. وكنت أتساءل عن السبب فى أن السود يسبحون فى ميناء قذر، فى حين أن البيض وحدهم تمتد شواطئهم لأميال. فى انجلترا سارت الأمور على ما يرام، حيث كانوا يطلقون علىّ خلال فترة من الدراسة «السيد اليهودى». وقد بحثت عن تعريف اليهودى فى قاموس أكسفورد للإنجليزية فى ذلك الوقت. وكان التعريف: 1 الشخص الذى ينتسب لأصل عبرانى، أو يدين باليهودية. 2 شخص يتصرف بطريقة تعزى إلى اليهود، انتهازى أو مبتز. فلا شىء يدفع الدم للغليان فى عروقى مثل العنصرية. وقد تلقيت العديد من الرسائل الغاضبة من مقالى الأخير عن جريمة القتل الجماعى العنصرية فى النرويج، وتعاطف المجرم مع «الإسلاموفوبيا العنصرية». والمضحك، أن العديد من الملاحظات الغاضبة جاءت من يهود، يبدو أنهم نسوا أن كونهم ليسوا عرقا وإنما ديانة لم يحمهم من الاضطهاد العنصرى. فربما كانت فرق القتل النازية تسوق بعض الشتائم اللفظية قبل إطلاق النار. وقد صارت كراهية المسلمين فى أوروبا والولايات المتحدة صناعة سياسية متنامية. وهى صناعة بغيضة وخطيرة وعنصرية. ونحن نعرف الآن بفضل زميلى أندريا إليوت أن هذه الصناعة تتواكب مع الحملة الناجحة ضد الشريعة الإسلامية التى يقودها يهودى من الطائفة الحسيدية يدعى ديفيد يروشالمى، وهو يؤمن بأن «معظم الاختلافات الأساسية بين الأعراق ترجع إلى أسباب وراثية». وهاهم اليمينيون فى أوروبا يستخدمون نظرية معادية للإسلام، سليلة أكثر أيام القارة ظلاما. وأنا مسرور لأن والدى حكى لى وأنا فى سن مبكرة عن الشرطى الغبى الذى قال لفتاة سوداء واعدة إنها «مجرد كافرة». وقد تغيرت الأوضاع، لكن الغباء لم يتغير.