بحلول عام 2050 سيعيش ثلاثة أرباع سكان العالم فى المدن. وهو ما يعنى المزيد من العواصم الكبرى. ففى أوقات الاحتفالات، يرتدى السكان المحليون فى شوارع مدينة طوكيو وليس فى قرية على الطريق أو مدينة ساحلية، الصنادل والسترات من القطن الأزرق، قبل أن يحملوا معبود الحى عبر الشوارع على محفة مزخرفة. وعند الحصاد، يجتمعون لتناول كعك الأرز.
وحتى فى غير أوقات الاحتفالات، هناك شعور بالجماعة: نداء البائعين على بضائعهم بالغناء، وإغراء الزبائن فى محالهم الصغيرة لشراء السمك الطازج والحلوى محلية الصنع، و«ميسو» أو الحلويات التقليدية.. إنه الشكل المعتاد للشارع السكنى فى طوكيو، أكبر مدن العالم قاطبة، ويبلغ عدد سكانها نحو 36 مليون نسمة.
•••
وعلى نحو سريع، تحدث التغييرات فى طابع المدن، وبالذات الضخمة منها. فلم نعد ننظر إلى المدن أساسا عبر عدسات أوروبا أو شمال أفريقيا. وقد انتقلت تجربة توسع المدن فى البلدان ذات الاقتصادات المتقدمة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى العالم النامى، وإلى آسيا على نحو متزايد. وتولد كبريات المدن الآسيوية، من بكين إلى جاكرتا ومومباى حتى مانيلا، شعورا مختلفا تماما عن طوكيو.
فمعظمها أكثر فقرا، وقتامة ويفتقر إلى وسائل النقل العام الرائعة فى طوكيو. لكنها تشارك مع العاصمة اليابانية، وبعض التجمعات السكانية الكبيرة من القارات الأخرى، مثل لاجوس أو ساوباولو، فى إعادة صياغة تعريف المدينة.
ويقول ديفيد ديلى، الذى يعد كتابا عن طوكيو كمدينة ضخمة: «المدن لم يعد يعترف بها»، وأضاف «كان المعتاد أنها المناطق المأهولة حول المؤسسات الدينية أو مراكز السلطة السياسية، أما هذه الأيام فهى تكون حيثما توجد بنية تحتية تدعمها».
وينجذب العديد ممن ينزحون من الأرياف بمعدل 45 مليونا سنويا فى آسيا وحدها إلى المدن الضخمة، التى يتم تعريفها عادة بأن عدد سكانها يزيد على عشرة ملايين نسمة. وهى المدن التى يسميها إدوارد جليسر، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، «المدن القائمة على المنشطات».
وقد استمدت فكرة المدن الضخمة من «المدن الكبرى»، من مصطلح صاغه المؤرخ الألمانى أوزوالد شبلنجر عام 1918. وكان يصف المدن التى نمت بدرجة مفرطة وتتجه نحو الانخفاض. واستخدم جان جوتمان، وهو جغرافى فرنسى، المصطلح بصورة أكثر إيجابية فى الخمسينيات للدلالة على ممر من المدن على طول الساحل الشرقى الأمريكى. والآن، تغير هذا المفهوم ليعنى مرة أخرى التجمعات الهائلة، ومعظمها فى العالم النامى. وفى الحقيقة، يتجه معظم سكان العالم إلى مدن الدرجة الثانية بأكثر مما ينتقلون إلى المدن الكبرى. لكن التجمعات الحضرية الضخمة لديها قوة رمزية.
فهى تمثل بالنسبة للبعض، العالم الجديد الشجاع الذى ينتشل الصينيين، الهنود والبرازيليين وغيرهم فى العالم النامى، من الفقر. بينما المدن الضخمة بالنسبة للآخرين، ليست أقل من كابوس.
ويعتبر انتقال البشر إلى المدن، الذى زاد فى أكتوبر على سبعة مليارات نسمة، توجها لا مفر منه. وفى عام 2008، زاد عدد الناس الذين يعيشون فى المدن عليه فى الريف، للمرة الأولى فى تاريخ البشرية. وقياسا على هذا، تعتبر آسيا متأخرة، حيث لا يعيش سوى 40 فى المائة من الناس فى المناطق الحضرية. ومازالت آسيا تتوقع بناء الكثير من المدن.
ووفقا لمجلة ناشيونال جيوجرافيك، كان هناك فقط ثلاثة من المدن الكبرى فى عام 1975: الأولى نيويورك، العاصمة التجارية للقوة الاقتصادية الأعظم الاقتصادى. والثانية مكسيكو سيتى، وهى مرادف التدهور فى العالم النامى، حيث يزدحم الناس فى الأحياء الفقيرة القذرة التى يحتلها العنف والتلوث والمرض. والثالثة طوكيو، المدينة التى كانت من أكبر مدن العالم فى نهاية القرن الثامن عشر، حيث بلغ عدد سكانها مليون شخص، عندما كان اسمها إيدو. وحدث الانفجار السكانى فى طوكيو بعد الحرب مع ارتقاء اليابان إلى المعايير الغربية فى المعيشة.
فصارت مدينة من نوع جديد، لا غربية ولا فقيرة كما لو كانت نيويورك فى آسيا. ويقطن نحو 12 مليون شخص 23 من أحياء طوكيو، غير أن تجمع طوكيو الكبير الذى يصل إلى كاواساكى، ويوكوهاما، يضم نحو 36 مليون نسمة. ولا ينبغى أن تؤخذ أعداد السكان بشكل حرفى جدا. فمن الناحية الرسمية يبلغ عدد سكان تشونجينج فى غرب الصين 30 مليون شخصا فيما يرجع جزئيا إلى أن الفلاحين فى المناطق المحيطة بالمدينة، يتم تصنيفهم على أنهم ينتمون إليها.
ويرى ماكينزى أن هناك مدينة ضخمة واحدة فى أوروبا (لندن)، وثلاثة فى أفريقيا (كينشاسا ولاجوس والقاهرة)، وخمسة فى الأمريكتين (ساو باولو ومكسيكو سيتى ونيويورك ولوس انجليس وبوينس آيرس). يتبقى 11 مدينة فى آسيا، سبع منها (طوكيو، ومومباى وشنغهاى وبكين ودلهى وكلكتا ودكا) تحتل المراكز السبعة الأولى فى العالم.
وليس من السهل تحديد عدد المدن الكبرى. بسبب صعوبة التصنيف. وعلى سبيل المثال، شنغهاى ومومباى، العاصمتان التجاريتان للصين والهند. فإذا تغاضيت عن التلوث ولم تبعد كثيرا عن الشوارع الرئيسية، سوف تذكرك شنغهاى بنيويورك. بل إنها ربما تفوق تلك المدينةالأمريكية العظيمة، من بعض النواحى.. ففى عام 1980، كان فى شنغهاى 121 مبنى فحسب يزيد عدد طوابقه على ثمانية طوابق، وفقا لما ذكره ديلى. وبحلول عام 2005، كان هناك أكثر من عشرة آلاف مبنى يزيد عدد طوابقها على ثمانية.
وتفخر شانغهاى بوجود 91 ناطحة سحاب أكثر، يزيد ارتفاعها على مائتى متر، بينما تضم نيويورك 82 ناطحة سحاب. ومنذ عام 1995 أمدت المدينة أطول خط مترو فى العالم، وتخطط لمضاعفته مرة أخرى بحلول عام 2020. قارن شنغهاى المخططة، ذات المبانى المرتفعة، والمتلألئة (أحيانا) مع مومباى العشوائية ذات المبانى منخفضة الارتفاع، والقذرة فى الغالب. ومازالت، «مدينة الحد الأقصى» فى الهند، عنوانا لتصور سوكيتو ميهتا، عن المدينة التى تنجح بطريقة ما فى الاحتفاظ ببريقها. وهى تمنح ملايين من الهنود الأمل فى حياة أفضل والهروب من العمل الشاق فى الريف. وتعنى القوانين منظمة للبناء أن تكون ناطحات السحاب قليلة فى مومباى. وبدلا من العيش فى الأبراج العالية، يحتشد الكثيرون فى مساحات صغيرة فى الأحياء الفقيرة.
ولا يوجد خط للمترو فى مومباى، غير أنه يتم حاليا بناء خط السكك الحديدية، وتحوط بالسكك الحديية التى تنقل ما يعادل عدد سكان إسرائيل كل يوم، مخاطر شديدة، بحيث يقتل المئات كل عام. ومع ذلك تسير الحياة فى المدينة بطريقة أو بأخرى. وعلى سبيل المثال تقوم شركة تيفين للنقل، بتوريد منتجات شركة دابا والاس الغذائية وهى سلسلة من المتاجر التى تقدم خدمة هائلة إلى ملايين المسلمين والهندوس والنباتيين وآكلى اللحوم. ويقول جيل كيم هونج، خبير البنية التحتية فى البنك الآسيوى للتنمية، إن المدن بحاجة إلى قادة قادرين على تنفيذ رؤية، حتى تصبح ناجحة. وفى عام 1970، عاش ما يقرب من ثلث السكان فى سيول فى المستوطنات العشوائية. ولكن المدينة تحولت تماما بفضل التخطيط الدقيق لاستخدام الأراضى الذى أكمله الاستخدام الوحشى للجرافة. والآن يبلغ عدد سكانها 24.5 مليون، وهى مدينة ممتعة فى معظمها ومزدهرة، وبها ثلث أكبر خطوط المترو فى العالم، كما تحتل المركز الثالث من حيث أعداد الركاب.
•••
وذلك هو الاستثناء. فالطريقة التى تدار بها معظم المدن لا تتفق مع الواقع. ووفقا لماكينزى، فإن أكثر من خمس سكان العالم يعيشون فى 600 مدينة فحسب، تقدم معا نصف الناتج العالمى. إلا أن العديد من هذه المدن تسيطر على الموازنات والتخطيط او السياسة الخاصة بها. وشكا فوزى باوو حاكم جاكرتا، فى مؤتمر نظمته الفاينانشيال تايمز مع البنك الدولى فى سنغافورة من أنه اضطر إلى الإلحاح على الحكومة الوطنية من أجل الحصول على أموال. «وبحلول عام 2025، سيكون 60 فى المائة من الاندونيسيين يعيشون فى المدن، ولكن كيف يمكننا التكيف مع ذلك إذا لم نكن نحصل على السلطة ومصادر التمويل الكافية؟».
وليس لدى الكثير من مدن آسيا قدرة فرض الضرائب على سكانها أو فرض رسوم المياه أو الكهرباء، ناهيك عن توفير الصرف الصحى والطرق والنقل العام التى قد تؤدى إلى تحسين الحياة. فمازلنا نفكر بطريقة الدولة القومية. ولكن شعوب العالم انتقلت إلى المدن، والكثير منها عاجز إداريا.
ومن الواضح أن هناك مشاكل كبيرة ترتبط بزيادة أعداد من يعيشون فى المناطق الحضرية عن أى وقت مضى، ليس أقلها الأثر البيئى. ويستهلك المواطن من الطبقة المتوسطة فى شنغهاى موارد أكثر كثيرا مما يستهلكه مزارع فى مقاطعة أنهوى، كما يولد غازات الاحتباس الحرارى أكثر بكثير منه. غير أن المدن تأتى على قمة الجهد الإنسانى، كما يؤكد جليسر فى كتابه «انتصار المدينة». فالمدن ذات الكثافة السكانية العالية، مبدعة ومثيرة وأقل تدميرا للبيئة، من الضواحى مترامية الأطراف مثلما هو الحال فى أمريكا. فالمدن هى جوازات سفر للهروب من الفقر. وهى تجتذب الفقراء، ولا تخلقهم. وهى توجد حيث يكونون فى أقصى قدراتهم الإبداعية فنيا وتقنيا.
•••
وسواء شئنا أم أبينا، لم يعد من الممكن إبقاء الجزء الأكبر من البشرية فى المزرعة. وبحلول عام 2050، سيكون ثلاثة أرباع سكان العالم من سكان المناطق الحضرية. هذا يعنى المزيد من المدن ومدن كبرى أكثر. ويقول جليسر: «هذه المدن الكبرى هى جزء كبير من مستقبل البشرية، وهو احتمال مبهج ومرعب معا. «وتبين أمثلة طوكيو وسيول وشنغهاى أن المدن الكبرى ليست بالضرورة بشعة. وهى مصير الكثيرين منا. وينبغى أن يكون هدف الإنسانية هو إدارة هذا المصير، وليس الاستسلام له.