شهدت مدينة طرابلس، ثانى أكبر المدن فى لبنان والواقعة فى شمال البلد، اشتباكات بين مؤيدى النظام السورى من الطائفة العلوية وبين السكان السنّة المؤيدين للمعارضة السورية المعادية للنظام. ولقد فاجأت هذه الأحداث المراقبين الذين كانوا حتى الآن يفترضون أن لبنان سيبقى محصنا فى مواجهة موجة «الربيع العربى». لكن الواقع هو على النقيض من ذلك تماما، فقد تأثر لبنان كثيرا بما يجرى حوله، ولا سيما بالأزمة السورية، وذلك بسبب العلاقات الجيو استراتيجية الوثيقة بين البلدين، والمستمرة منذ أعوام طويلة، والتى تبرز على المستويين الاقتصادى والسياسى.
لقد انعكست الأحداث فى سوريا سلبا على أمن لبنان واستقراره. ولا يعود هذا إلى استمرار تدفق اللاجئين السوريين الباحثين عن ملاذ داخل الأراضى اللبنانية، وإنما نتيجة استمرار حوادث إطلاق النار على الحدود من جانب الجيش السورى، فضلا عن حوداث خطف معارضين سوريين لنظام الأسد مقيمين بلبنان، وارتفاع وتيرة تهريب السلاح عبر الحدود.
كذلك فإن العقوبات المفروضة على سوريا، والأزمة الاقتصادية التى تعانيها، انعكستا أيضا على الاقتصاد اللبنانى بسبب العلاقة الوثيقة التى تربط اقتصادى البلدين.
كما تسببت الأزمة السورية فى تصدع الحكومة اللبنانية الحالية نتيجة دعم الأحزاب الشيعية القوى لنظام الأسد، على عكس الشركاء الآخرين فى الحكومة، بمن فيهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتى والزعيم الدرزى وليد جنبلاط، الذين كانوا أقل حماسة تجاه نظام الأسد. ولقد أضرت هذه الخلافات بفعالية الحكومة اللبنانية وأضعفت قدرتها على العمل.
بيد أن التأثير الأكثر خطورة للأزمة السورية فى لبنان تمثل فى ارتفاع حدة النزاعات الطائفية. فقد كشفت أحداث العنف فى طرابلس فى الفترة الأخيرة مجتمعا منقسما ومتنازعا مع ازدياد التصدع فى العلاقة بين السنّة والشيعة، وذلك فى ضوء وقوف أغلبية السنّة فى لبنان مع المعارضين لنظام الأسد، ووقوف الأغلبية الشيعية مع هذا النظام.
وتدل أحداث طرابلس الأخيرة أيضا على تصاعد الخلافات ليس بين السنّة والشيعة فحسب، بل أيضا بين أبناء الطائفة السنية نفسها. ففى الأعوام التى أعقبت الانسحاب السورى من لبنان سنة 2005 ، بدأت تنمو هناك التنظيمات السلفية العنيفة والسلمية.
ومن المعروف أن هذه التنظيمات كانت موجودة فى لبنان منذ الثمانينيات، وهى تتمركز بصورة خاصة فى المناطق المحيطة بطرابلس، مثل مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين ومخيم عين الحلوة فى صيدا فى الجنوب. وخلال فترة الوجود العسكرى السورى فى لبنان، كانت هذه التنظيمات خاضعة للرقابة الشديدة من جانب أجهزة الاستخبارات السورية التى قلصت نشاطاتها وتحركاتها.
فى إثر الانسحاب السورى سنة 2005 ، سمحت قوى 14 آذار/مارس التى فازت فى الانتخابات آنذاك للتنظيمات السلفية غير الجهادية بأن تنشط سياسيا، وتغاضت هذه القوى عن التصريحات المتطرفة التى كانت تصدر عن تنظيمات سلفية أخرى.
وحاول تيار المستقبل، الذى لا يقف علنا مع هذه التنظيمات، ضمها إلى صفوفه من خلال تبنى موقف مشترك معاد لسوريا ولحزب الله، وذلك فى مسعى لتوحيد الطائفة السنية وضمان استمرار الهيمنة السياسية للتيار.
لكن مع مرور الأعوام، وتجدد حوادث العنف بين الجيش اللبنانى وبين السلفيين الداعين إلى استخدام العنف، بدأت تزداد الشكوك بشأن دور هذه التنظيمات، ولا سيما مع صعود التطرف بين صفوفها. ومن أبرز النماذج على عنف هذه التنظيمات السلفية الصراع الذى وقع بين الجيش اللبنانى وبين المجموعة الجهادية التابعة ل«فتح الإسلام» (صيف 2007)، والذى استمر لأكثر من 100 يوم وأدى إلى مقتل نحو 400 شخص.
وفى الفترة الأخيرة، ومنذ بدء الأزمة السورية ازدادت المخاوف من تصاعد النفوذ السياسى للتيار السلفى وسط الطائفة السنية.
وعلى الرغم من أن هذه التنظيمات ليست قوية بما فيه الكفاية سياسيا كى تشكل خطرا على النفوذ السياسى لتيار المستقبل، فإن عدد المؤيدين لها يزداد يوما بعد يوم، الأمر الذى يطرح مشكلة صعود التطرف وسط الطائفة السنية كما أظهرته أحداث طرابلس الأخيرة.