كثيرا ما اهتمت بعض الصحف على مختلف توجهاتها، بنشر المقالات التنويرية التى تدعو إلى قيم المحبة والتسامح والتعاون وقبول الآخر والعمل المشترك وفعل الخير بين المواطنين وبعضهم البعض.. ومن ذلك مثلا أن (الهلال)، لصاحبها جرجى زيدان والتى أصدرها بالقاهرة سنة 1892، قد نشرت مقالا فى (باب المراسلات)، فى عددها الصادر بتاريخ أول يونيو 1893، كتبه عبدالمسيح الأنطاكى وكيل المجلة فى مدينة حلب عنوانه «التعصب والتساهل»، حيث أوضح معنى التعصب، ومعنى التساهل وكان يقصد به التسامح وقبول الاختلاف، موضحا أفضلية التساهل للإنسان وللمجتمع.
قال الكاتب:
يخال لى أن الكلام فى هذا الموضوع من أهم ما يجب على الجرائد تداوله إذ يتوقف على أحد هذين الوجهين سقوط الأمة وعلى الآخر نجاحها ولما رأيت الكتاب لاهين عن ذلك جئت بهذه الأسطر القليلة لأقوم لديهم مقام المنبه لعلهم يتحفوننا بكلام مشبع فى هذا الشأن فأقول.
التعصب لغة «شد العصابة وتعصب على فلان مال عليه وقاومه وتعصب فلان فى دينه ومذهبه كان شديدا غيورا فيهما ذابا عنهما»، وفى اصطلاح الحكماء العصريين «غلو المرء فى اعتقاد الصحة بما يراه وإغراقه فى استنكاره ما يكون مخالفا لذلك مدعيا لذاته العصمة مقتادا الناس لأمياله بالعسف والإكراه». والتساهل لغة «التلاين والتسامح يقال تساهل معه أى تسامح وتلاين» وفى حد الحكماء العصريين «رضى المرء برأيه اعتقاد الصحة فيه واحترامه رأى غيره كائن ما كان».
فمن أمعن النظر فى هذه الحدود لغة واصطلاحا يحكم بأن التعصب مع تقادم عهده دخيل وأنه مسبب لأكثر الشرور والفتن ومخالف لنصوص الأديان ومقاوم للقوانين المدنية والشروط الأدبية وبأن التساهل أصيل فى فطرة الإنسان، وهو معدن الصلاح ومصدر الخير والسعادة والوفاق.
فالتعصب زميل الاستبداد وأخو العسف، وهو شأن الذين تأخذهم مآخذ الطيش والجهالة ولا يعرفون من الدنيا إلا ما هو داخل سور بيتهم ولا من العلم إلا ما قرأوه، وعلى معلميهم فى طفولتهم، وأما التساهل فهو كالحرية ينكره الإنسان رئيسا ويطلبه مرءوسا، ومن نظر فى تاريخ الدول والممالك يتحقق أن ما قام بينهما من الحروب والفتن والمذابح العظيمة إنما كان سببه التعصب. وحيث نرى الأمن سائدا والألفة ضاربة أطنابها والوفاق مقيما نعلم أن التساهل ناشر أعلامه هناك. وإذ نظرت إلى النصوص الدينية تراها تشدد النكير على المتعصبين وتأمر بالتساهل فمن ذلك ما ورد فى القرآن الشريف «ولا تجادلوهم إلا بالتى هى أحسن» وكذلك «لكم دينكم ولى دين» و«ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة» وقس على ذلك ما رواه الإنجيل المقدس عن السيد المسيح ومواكلته ومجالسته الشعب غير اليهودى وشرب ماء السامرية، وقد قال رسوله بولس «من أنت يا هذا لتدين عبدا أجنبيا»، وقال آخر: «إن الله سبحانه تنزه عن أن يريد أن يعبد اضطرارا» إلى غير ذلك مما ورد فى سائر الكتب المنزلة.
فيتضح مما تقدم ولو بوجه الاختصار أن التعصب منهى عنه دينيا ومدنيا وعقليا لأنه أصل الشرور ومصدر الانشقاق وقانا الله من إله وأنصاره وهدانا إلى التمسك بالتساهيل الذى هو طريق الصلاح والفلاح حتى إذا نبذنا التعصب ورسله عكفنا متكاتفين فى الشرق عموما، وفى الشبهاء خصوصا فنبنى المدارس للفقراء والمستشفيات للمرضى وذوى الأسقام الذين يموتون فريسة الإهمال ونتيجة التعصب وتتألف بيننا الجمعيات الأدبية لتنوير الأذهان والجمعيات الخيرية لإعالة المعوزين والفقراء فما أقرب هذه الأمنية مع التساهل وما أبعدها مع التعصب ولله الأمر يفعل ما يشاء.