«مُناىَ، دعينى فى الهوَى متعلقا.. فقد متُّ إلا أننى لم يُزَر قبرى».. يعلو الصوت من «ساوندات» ضخمة على بعد أمتار من باب مسجد الحسين، فى وسط القاهرة، والعشرات يتمايلون على إيقاعه، مغمضى العينين فى حلقة ضيقة، ترتطم أجسادهم، فلا يستيقظون، وكأنهم غائبون عن الوعى تماما.
«مداااد.. مدد».. يصرخ أحدهم، وقد انتابته حالة أشبه بالهياج، مترنحا بعنف، فيفسح له الآخرون مساحة للتراقص بحرية، ويترنم المنشد: يا جدى الحسين مدد، ويكرر ببطء «مدد.. مدد»، وكلما أمعن فى التكرار، تزايد صراخ الهائمين.
فى الثلاثاء الأخير من شهر ربيع الآخر من كل عام، يحتفل المتصوفة ب«ذكرى وصول رأس سيدنا الحسين ابن ستنا فاطمة الزهراء إلى القاهرة»، ودفنه فى ضريح صار فيما بعد مسجدا يحمل اسم حفيد النبى.
تتحول الذكرى إلى عيد يستمر لأسبوع، وينصب العشرات خياما لإيواء العابرين والمريدين وزوار الضريح: «أنا من 35 سنة فى نفس المكان، أكل وشرب للمساكين ببلاش، حسب المتاح: عيش، عسل، مكرونة، فتة، فول، لحمة»، يقول هشام أمين «نائب الجمهورية للطريقة البرهامية»، كما يعرف نفسه.
يتأمل هشام منظره المتواضع: «أنا لو عايز أقعد هنا مكانى، مستريح، والناس تبوس إيدى»، ينوه لأن منصبه فى البرهامية يجعله مقصدا لمريدى الطريقة، لكنه لا يرتاح لهذا: «مش هعمل شيخ، أنا يشرفنى أخدم زوار جدنا الحسين، وأقدم لهم الأكل بإيدى، وأقعد قدامهم على رجلى، واللى مش عاجبه الأكل أجيب له غيره».
يشترك هشام وثلاثة من زملائه فى الطريقة على مائدتهم السنوية من مالهم الخاص: «احنا مش بنتلقى تمويل، ولا لنا علاقة بأمريكا ولا إيران»، يشدد الرجل، ممسكا بكتف محدثه، يهزه بعنف، رافعا صوته وسط الضجيج. يقاطعه عابر، ويعقب: «لقمة فى بطن جائع، خير من بناء جامع».
«إنت عارف إنه باع بيت، وعربية عشان يصرف على سيدنا الحسين؟»، يقدم رجل أنيق المظهر معلومة على شكل تساؤل، يلتفت إليه هشام أمين «ده المستشار هشام الشريف، رئيس محكمة أد الدنيا، لكنه هنا بيقعد ع الأرض زى أى حد، ومن خدامين الأحباب».
يعدل المستشار وضعه على الكرسى قليلا، يلتف حوله عدد من الزوار، يشرح لهم أن زيارة «سيدنا الحسين فرض علينا كلنا، مش ربنا قال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى؟، أهو المودة دى تيجى ازاى غير بالزيارة؟».
منذ 25 عاما، والشريف يقيم احتفالا سنويا أمام مسجد الحسين، يحييه المنشد ياسين التهامى «تعال بالليل، هتلاقى ولا 200 ألف واحد واقفين هنا، بيسمعوا الشيخ ياسين، وشوف النور اللى طالع من وجدانهم».
ياسين التهامى، أحد أشهر منشدى الترانيم الصوفية فى مصر والعالم العربى، ولد فى قرية الحواتكة بأسيوط فى ديسمبر 1949، حفظ القرآن صبيا، والتحق بالتعليم الأزهرى لكنه لم يكمله، ظهر نجمه كمنشد دينى فى منتصف سبعينيات القرن الماضى.
تتوسع الدائرة حول هشام الشريف، يسأله أحدهم: «قال كانوا عايزين يلغوا الموالد؟»، لتتعالى الأصوات: «والله العظيم الثورة دى صنعها آل البيت عشان فكروا يلغوا مولد السيدة زينب»، يتدخل آخر بلهجة صعيدية: «أنا عندى 40 فدان فى أسيوط، قسما برب العزة، أبيع اللى وراى واللى قدامى وأجيب سلاح وقنابل، ونهار ما تتمنع الموالد، تتمنع الناس كلها».
يقتحم رجل بملابس خضراء وعمامة شاهقة فوق رأسه، يفسح له الآخرون مكانا ويسرع أحدهم بكرسى يضعه تحته، لكنه لا يكترث، يهمس ببطء: «إنت فاكر الناس دى جاية بمزاجها؟ دول مدعوين من الأحباب، لا زيارة لولى إلا بدعوة»، يقول الرجل جملته، ثم يولى عائدا تاركا عاصفة من صيحات الرضا والاستحسان.