لا يعد الشاعر مختار عوض اسما مكرسا في الساحة الأدبية المصرية، مع أنه شاعر واعد له لغته ورؤيته اللتان يتميز بهما، وتشكلان ملمحا شعريا ملحوظا، وأصالة ملموسة يستشعرهما قارئ ديوانه "قصائد على قارعة الضجر" . وعنوان الديوان يحيلنا إليهما، فهو مهتم بلغته أو معجمه، ينتقيه بعناية، ويركز من خلاله على ما يريد التعبير عنه أو توصيله إلى القارئ. وذلك وفقا للكاتب حلمي القاعود في مقاله بالجزيرة نت. واختار عوض أن يشير إلى ديوانه من خلال لفظة قصائد، التي تشير إلى مجموعة من الأشعار مطلقة ومبهمة، وقد تتنوع فيها الرؤى والدلالات، وهذه القصائد كلها ملقاة على قارعة الطريق، الذي لم يعد طريقا، ولكنه تحول إلى ضجر بما يحمله الضجر من دلالة تصب في دائرة الوضع الاستثنائي للنفس البشرية، حين تضيق بما حولها وتضجر منه، وقد يصل بها الضجر إلى حافة الإحباط واليأس.
ديوانه الأول، يشير إلى امتلاكه للأدوات التعبيرية امتلاكا جيدا، يضعه في مصاف الشعراء الواعدين، ويؤكد ذلك أنه من مريدي الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر، الذي عرف باهتمامه المتميز باللغة واختيارها من واقع البيئة الريفية، وصياغتها بما يحقق له سمة خاصة، وهو ما نراه قائما أو مهيمنا على معجم الشاعر مختار عوض في مفرداته واستدعاءاته. كما يبدو انحياز الشاعر للغة العربية في نقائها وصفائها واضحا، وتبدو في ديوانه مجموعة من الظواهر الفنية يمكن أن نتوقف عند بعضها.
النص القرآني
الظاهرة الأولى، قدرته الملحوظة على الاستفادة من النص القرآني في أشعاره من خلال التضمين أو الاقتباس أو التناص، وكأنه يعود برؤيته العامة إلى القرآن الكريم في مواجهة الواقع والتعبير عن مشاعره تجاهه، وإحساسه إزاء متغيراته وأحداثه.
في قصيدته التي تحمل عنوانا غير معتاد لدى الشعراء يستخدم فيه لا النافية مكررة ثلاث مرات، مستوحيا سورة العاديات من الجزء الأخير في القرآن الكريم، ويأتي العنوان على النحو التالي: "لا العاديةُ، ولا المُوريَةُ ولا المُغِيرة ".
والسورة الكريمة تبدأ بالقسم بالخيل "والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا"، وكأنه في عنوان القصيدة ينفي عن خيل الواقع الراهن صفات المبادرة الإيجابية والفعل المنتصر، فلا هي مسرعة مقتحمة، ولا هي مشعلة الشرر بسبب عدم إسراعها واندفاعها، ثم وهو الأهم فليست مغيرة ولا مهاجمة في الصباح، كما تفعل الخيل الجريئة الشجاعة التي تغزو في الصباح وتنال من العدو، وكأن عنوان القصيدة يلخص رؤية الشاعر، وتصوره لما هو كائن في المحيط العام والخاص.
والقصيدة بعد العنوان، ترجمة له، وتفصيل يوضح هذا الإحباط الذي أصاب خيله، صحيح أنه استبدل القصيدة بالخيل، والقصيدة يمكن تصورها حالة من حالات الوجود، وأداة من أدوات الفعل والسلوك، فهذه القصيدة التي أسرجها فر من صهيلها الغناء، هي قصيدة بلا عائد ولا مردود مثل الخيل البليدة التي لا تتقدم إلى الأمام، ولكنها تعود إلى الخلف، ولم تشعل النار ووهج الأمل، ولم تمارس فعل الإغارة على القبيلة المناوئة، بل تسلحت بالمكر والدهاء، والجبن والإجفال، والتراجع المخزي، ويقول في المقطع الأول:
قصيدتي أَسْرَجْتُها بلعنةِ الغباءْ ففرّ من صهيلِها الغناءْ لَكَزْتُها (للعَدْوِ) لكزتينْ فما عَدَتْ إلا لخُطوتينْ ثمّ انزوتْ، واسّاقطتْ، و(الضَّبْحُ) في فؤادها لم يطمئنْ!!
وفي المقطع الثاني، يشير إلى ما بذله من جهد كي تندفع القصيدة -الحالة- الخيل، وتقوم بمهمتها النبيلة، ولكنها لم تستجب، وازّاورت مثل الشمس، أي مالت واختفت، كما تنبئنا سورة الكهف (الآية17)"تزّاور عن كهفهم ذات اليمين"، وخلفت للشاعر حزنا مريرا لافحا:
وإِذْ جَعَلْتُ سَرْجَها جميعَ ما بنيتُ في الهواءْ تَسَلّحَتْ بالمكر والدَّهاءْ لَكَزْتُها (للقدحِ) لَكْزَةً مخاتلهْ فاستنكرتْ، واستوضحتني سائله: ماذا أردْتْ؟ وازّاوَرَتْ، لم (تُورِ) غيرَ لافح الشَّجنْ!!
وفي المقطع الثالث الأخير، حاول معها بوسيلة أخرى أن يدفعها للإغارة، ولكنها أجفلت، واثاقلت، وارتمت على الأرض ضعفا ووهنا:
وعندما أَسْرَجْتُ (صُبْحَها) بحُرقةِ البُكاءْ تسرَّبتْ من عينِها جدائلُ الدِّماءْ لَكَزْتُها (لكي تُغِيرَ) لكزةً مفاجئهْ فلم تُغِرْ على مضاربِ القبيلةِ المناوئهْ، بل أَجْفَلَتْ واثَّاقَلَتْ، ثم ارتَمَتْ تُكابدُ الوهنْ!!
استلهام التراث
ومن الظواهر المهمة في قصائد مختار عوض استلهام التراث بصفة عامة، ويمكن لنا أن نجده متكئا على أشعار الأقدمين والمعاصرين، وعلى المخزون الشعبي الذي يتناقله الرواة عبر العصور، وعلى الأسطورة الشعبية القديمة. ويفيد من هذا الاستلهام في التعبير عن الواقع المعيش، الذي عادة ما يكون سائرا في الاتجاه إلى الخلف، بعيدا عن تحقيق الآمال والطموحات، بل قد يكون ضدها من الأساس، وها هو يتمثل حالة من حالة الرعب الأسطوري الذي يتبدى في الحكايات الشعبية التي يخيفون بها الأطفال :
تفَتّحَتْ على مدائنِ الضّبابِ أعينُ السّكوتْ فَجِئْتُ يا مدينتي مُحَمّلاً بالرّعبِ والخُنوعْ فمرّةً أَخافُ من ذراعهِ المقطوعْ ومرّةً يُكَبّلونني بخيطِ عنكبوتْ ..
ويمكن أن نجد ظاهرة ثالثة ممثلة في حضور الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر في شعر عوض، فهو يقول في قصيدة الشاعر التي يهديها (إلى روح أستاذي: محمد عفيفي مطر)، مشيرا إلى معجمه وبعض مجموعاته الشعرية:
في شعر مختار عوض هناك ظواهر أخرى تشير إلى امتلاكه طاقة شعرية واعدة يمكن أن يستثمرها استثمارا جيدا، لو أنه اتجه إلى المسرح الشعري، أو الدراما الشعرية، أو الملحمة الشعرية، ففيها مجال رحب وفرصة عظيمة لمن يريد من الشعراء أن يتجاوز كثيرا من عيوب الشعر الغنائي.